03 اغسطس 2022
لبنان وديمقراطية التوريث السياسي
دخل لبنان منذ أيام في مناخ التنافس والتحضير للمعارك الانتخابية التي ستدور رحاها في 6 مايو/ أيار المقبل، لاختيار مجلس نيابي جديد أربع سنوات. التردّد والحذر سيدا الموقف، نتيجة القانون الانتخابي الجديد الذي أدخل لأول مرة مبدأ النسبية إلى التمثيل الشعبي. انفرط عقد المحاور والاصطفافات التي قامت في 2005 على إثر اغتيال رفيق الحريري. لم يعد هناك من وجود لفريقي 14 آذار و8 آذار. خلطت التسوية - الصفقة التي عقدها الخصمان السابقان، ميشال عون وسعد الحريري، الأوراق، وقلبت المشهد السياسي رأسا على عقب. وعكس الواقع الجديد إعادة للتموضع بين حلفاء الأمس وأخصامه، وداخل كل فريق. وراح كل حزبٍ أو تيار يبني تحالفاته أو اتفاقاته الظرفية الخاصة، استعدادا للانتخابات المقبلة، تبعا لكل حليف ولكل دائرة. ومن أول نتائج القانون الجديد، وخلط أوراق التحالفات، يشهد مجلس النواب لأول مرة في تاريخه خروج ثلث عدد النواب، البالغ عددهم 128 من التنافس. منهم من استبعده حزبه أو تياره، ومنهم من قرّر اعتزال النشاط البرلماني، يقابله ترشح 111 امراة للانتخابات لأول مرة في تاريخ العمل السياسي.
الظاهرة الأهم التي تقدمت بشكل لافت هي ظاهرة التوريث السياسي الذي أخذ أشكالا مختلفة وأحيانا فاقعة. بطبيعة الحال، ليس التوريث أمرا جديدا أو مفاجئا في الحياة السياسية، وفي
تاريخ العائلات السياسية في لبنان. فكم من ابن ورث أباه أو عمه أو قريبا له بعد وفاته، أو بسبب المرض أو الشيخوخة، وأحيانا اختلطت الوراثة العائلية بالحزبية. الأمثلة كثيرة، عائلات الإقطاع والمشايخ والبكوات، مثل آل الخازن وآل جنبلاط وآل أرسلان والأسعد وعسيران والزين والصلح وسلام والمرعبي. ثم انتقلت إلى العائلات السياسية، مثل كرامي وفرنجية وإده وشمعون والجميل وغيرهم.. وهكذا ورث أمين الجميل والده في رئاسة حزب الكتائب، ودوري شمعون والده كميل في رئاسة حزب الوطنيين الأحرار، وريمون إده والده إميل في رئاسة حزب الكتلة الوطنية، وكذلك وليد جنبلاط والده كمال في زعامة الحزب التقدمي الاشتراكي. وكان هذا يحصل بشكل "شبه طبيعي" بهدف تأمين الاستمرارية في الزعامة السياسية (والعائلية)، وكذلك في السلطة. وكان يحصل ما يشبهه لدى الزعامات المحلية والمناطقية. كما كان يحصل في المقابل في بعض الحالات ما يسمى "فلتة الشوط" بأن يهزم أحد المرشحين المغمورين وريث إحدى العائلات السياسية.
أما اليوم، ومنذ سنوات، أصبح التوريث مبرمجا. بات صناعةً يتم ترويجها باكرا، ومن المُورِث نفسه، أي الزعيم الوالد الذي يبدأ إعداد وتحضير ابنه أو وريثه قبل سنوات، فنراه إلى جنبه يستقبل الناس والمناصرين ويودعهم، ويستمع إلى طلباتهم وشكاويهم، ثم يرافقه بزياراته وجولاته في دائرته الانتخابية. ثم يبدأ بالخضوع لدورات تدريبية على الكلام والتصريح، وعلى التثقيف السياسي من مستشاري والده، وأخصائيين في إتقان وممارسة ما يطلق عليه اليوم "لغة الجسد"، وفي كيفية التوجه إلى الناس ومخاطبتهم. وها هي وسائل الإعلام "تتبرع" للمساهمة في حملات التسويق لهؤلاء الورثة الشباب، فقد استضافت إحدى القنوات التلفزيونية الشاب طوني فرنجية (30 سنة) المرشح للانتخابات مكان والده سليمان فرنجية الذي يعده لخلافته منذ سنوات، فيما يتفرغ هو لتحضير نفسه لرئاسة الجمهورية. وكان الأب قد ورث بدوره المقعد النيابي، وهو في الخامسة والعشرين. بدا فرنجية الابن صورة مصغرة عن طريقة أداء والده، ومقاربته السياسية للأمور. ويرأس الشاب فرنجية لائحة تضم عشرة مرشحين عن الدائرة الثالثة في محافظة الشمال، أصغرهم يبلغ تقريبا ضعفي عمر فرنجية. وهو سيرأس، في حال فوزه، كتلة نيابية تضم خمسة أو ستة نواب.
وكذلك فعل وليد جنبلاط الذي وجد صعوبة في البداية في إقناع ابنه البكر تيمور (35 سنة) بتسلم زمام الخلافة، وهو الذي يحمل إجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، ودبلوم دراسات عليا من جامعة السوربون في باريس. بدأ محاولات إقناعه منذ انتخابات 2009 ولم يوفق، فاختار عندها أسلوب الانتقال التدريجي للزعامة الجنبلاطية، عبر التنازل الفوري عن المقعد النيابي، وترك رئاسة الحزب إلى مرحلة لاحقة. وبدخوله البرلمان، سيرأس تيمور كتلة نيابية، لا تقل عن اثني عشر نائبا.
هناك جانب تراجيدي مشترك بين جنبلاط وفرنجية، إذ ورث الاثنان الزعامة عن والديهما اللذين اغتيلا خلال الحرب اللبنانية الطويلة. كانت مسألة تجاوز عتبة الستين بمثابة الكابوس بالنسبة لجنبلاط، نظرا إلى أن والده كمال وجده فؤاد قتلا قبل أن يتجاوزا هذا العمر. لذلك، عند عبوره تلك العتبة الكأداء عام 2009 باشر فورا خطوات التوريث. وحده سعد الحريري لم يمر بمراحل انتقالية، ولم يخضع لعمليات إعداد وتدريب سياسي ونفسي، لأنه اضطر وهو في الخامسة والثلاثين أن يقوم بمهام الزعامة، فور الاغتيال المدوي لوالده رفيق الحريري. التدريب والتمرّس على ممارسة السلطة يقوم به منذ سنوات، وهو في السلطة رئيسا للحكومة، وورث كذلك أكبر تيار سياسي، هو تيار المستقبل، ويرأس أكبر كتلة نيابية فاقت الثلاثين نائبا. وتبدو كل مساوئ التوريث السياسي من انعدام الخبرة والتجربة في ممارسة العمل السياسي على أداء الحريري.
وهناك أيضا آخرون أقل وزنا وشهرة، لجأوا إلى الأسلوب نفسه، بعد أن تقطعت بهم السبل،
نتيجة حصول خلافات مع زعاماتهم السياسية أو الحزبية، فقد لجأ النائب والوزير السابق "المستقبلي" الطبيب أحمد فتفت (65 سنة) إلى التخلي عن مقعده النيابي في الدائرة الثانية في محافظة الشمال، لصالح ابنه الشاب (28 سنة) الذي ترشّح على لائحة "المستقبل". فيما قام أحد النواب والوزراء السابقين من عائلة بكواتية، في محافظة عكار طلال المرعبي (72 سنة)، الذي فشل في إعادة تسويق نفسه، بالتنازل عن المقعد النيابي لابنه طارق البالغ 33 سنة. وهناك مجموعة من الشباب الذين ورثوا النيابة عن آبائهم قبل سنوات، يتقدّمهم سامي الجميل الذي يشغل اليوم أيضا رئاسة حزب الكتائب، الذي تتعزّز زعامته وتتكرس لآل الجميل. ويليه ابن عمه، نديم الجميل ابن الرئيس الأسبق بشير الجميل، وأيضا شاب آخر نائب عن البقاع الغربي زياد القادري الذي اغتيل والده النائب والوزير السابق خلال الحرب الأهلية. وهناك من يعد ابنه للسنوات المقبلة. والمفارقة المأساوية أن النظام السوري كان وراء اغتيال آباء معظم هؤلاء النواب.
ثم هناك مسك الختام، ظاهرة النساء في البرلمان اللواتي يخلفن أزواجهن أو آباءهن، لكن الجميع يحرص على تكريس زعامته وتوريثها عبر إحاطتها بالتأييد الشعبي، وتشريعها عبر صناديق الاقتراع. إنه نظام التوريث الديمقراطي.
الظاهرة الأهم التي تقدمت بشكل لافت هي ظاهرة التوريث السياسي الذي أخذ أشكالا مختلفة وأحيانا فاقعة. بطبيعة الحال، ليس التوريث أمرا جديدا أو مفاجئا في الحياة السياسية، وفي
أما اليوم، ومنذ سنوات، أصبح التوريث مبرمجا. بات صناعةً يتم ترويجها باكرا، ومن المُورِث نفسه، أي الزعيم الوالد الذي يبدأ إعداد وتحضير ابنه أو وريثه قبل سنوات، فنراه إلى جنبه يستقبل الناس والمناصرين ويودعهم، ويستمع إلى طلباتهم وشكاويهم، ثم يرافقه بزياراته وجولاته في دائرته الانتخابية. ثم يبدأ بالخضوع لدورات تدريبية على الكلام والتصريح، وعلى التثقيف السياسي من مستشاري والده، وأخصائيين في إتقان وممارسة ما يطلق عليه اليوم "لغة الجسد"، وفي كيفية التوجه إلى الناس ومخاطبتهم. وها هي وسائل الإعلام "تتبرع" للمساهمة في حملات التسويق لهؤلاء الورثة الشباب، فقد استضافت إحدى القنوات التلفزيونية الشاب طوني فرنجية (30 سنة) المرشح للانتخابات مكان والده سليمان فرنجية الذي يعده لخلافته منذ سنوات، فيما يتفرغ هو لتحضير نفسه لرئاسة الجمهورية. وكان الأب قد ورث بدوره المقعد النيابي، وهو في الخامسة والعشرين. بدا فرنجية الابن صورة مصغرة عن طريقة أداء والده، ومقاربته السياسية للأمور. ويرأس الشاب فرنجية لائحة تضم عشرة مرشحين عن الدائرة الثالثة في محافظة الشمال، أصغرهم يبلغ تقريبا ضعفي عمر فرنجية. وهو سيرأس، في حال فوزه، كتلة نيابية تضم خمسة أو ستة نواب.
وكذلك فعل وليد جنبلاط الذي وجد صعوبة في البداية في إقناع ابنه البكر تيمور (35 سنة) بتسلم زمام الخلافة، وهو الذي يحمل إجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، ودبلوم دراسات عليا من جامعة السوربون في باريس. بدأ محاولات إقناعه منذ انتخابات 2009 ولم يوفق، فاختار عندها أسلوب الانتقال التدريجي للزعامة الجنبلاطية، عبر التنازل الفوري عن المقعد النيابي، وترك رئاسة الحزب إلى مرحلة لاحقة. وبدخوله البرلمان، سيرأس تيمور كتلة نيابية، لا تقل عن اثني عشر نائبا.
هناك جانب تراجيدي مشترك بين جنبلاط وفرنجية، إذ ورث الاثنان الزعامة عن والديهما اللذين اغتيلا خلال الحرب اللبنانية الطويلة. كانت مسألة تجاوز عتبة الستين بمثابة الكابوس بالنسبة لجنبلاط، نظرا إلى أن والده كمال وجده فؤاد قتلا قبل أن يتجاوزا هذا العمر. لذلك، عند عبوره تلك العتبة الكأداء عام 2009 باشر فورا خطوات التوريث. وحده سعد الحريري لم يمر بمراحل انتقالية، ولم يخضع لعمليات إعداد وتدريب سياسي ونفسي، لأنه اضطر وهو في الخامسة والثلاثين أن يقوم بمهام الزعامة، فور الاغتيال المدوي لوالده رفيق الحريري. التدريب والتمرّس على ممارسة السلطة يقوم به منذ سنوات، وهو في السلطة رئيسا للحكومة، وورث كذلك أكبر تيار سياسي، هو تيار المستقبل، ويرأس أكبر كتلة نيابية فاقت الثلاثين نائبا. وتبدو كل مساوئ التوريث السياسي من انعدام الخبرة والتجربة في ممارسة العمل السياسي على أداء الحريري.
وهناك أيضا آخرون أقل وزنا وشهرة، لجأوا إلى الأسلوب نفسه، بعد أن تقطعت بهم السبل،
ثم هناك مسك الختام، ظاهرة النساء في البرلمان اللواتي يخلفن أزواجهن أو آباءهن، لكن الجميع يحرص على تكريس زعامته وتوريثها عبر إحاطتها بالتأييد الشعبي، وتشريعها عبر صناديق الاقتراع. إنه نظام التوريث الديمقراطي.