06 نوفمبر 2024
ليس بالنووي وحده تصبح الدول عظمى
كما كان متوقعًا، لم تحصل مفاجآت كبيرة في الانتخابات الرئاسية الروسية التي جاءت نتائجها كما أرادها الرئيس فلاديمير بوتين، تفويضًا شعبيًا، لحكم مطلق في الداخل، فيما يستمر بسياساته الخارجية الساعية إلى استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية. ما زالت إنجازات بوتين على هذه الجبهة غير مستقرة، ويمكن أن تنهار بسهولة، أخذاً بالاعتبار ما جرى في سورية في الأسابيع القليلة الماضية، لذلك يتوقع أن تكون ولاية بوتين الرابعة التي تبدأ دستوريا في السابع من شهر مايو/ أيار المقبل، ويريد فيها تثبيت مكاسبه في وجه الغرب، أصعب مراحل حكمه التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث: استغرقت الأولى سنوات رئاسته المبكرة، انهمك فيها بتثبيت أركان سلطته، والتخلص من خصومه، بمن فيهم عائلة الرئيس السابق، بوريس يلتسين، والمليارديرات الذين نهبوا البلد وسلموه للغرب، لكن تلك الفترة شهدت أيضاً أسوأ النكسات على صعيد السياسة الخارجية، إذ شاهد بوتين بأم العين كيف سحب حلف شمال الأطلسي (الناتو) من تحت أنفه، في توسعه الثاني، كل مناطق نفوذ روسيا في وسط أوروبا وشرقها، بما فيها دول البلطيق الثلاث (أستونيا، لاتفيا، وليتوانيا) التي انضمت إلى "الناتو" في قمة إسطنبول عام 2004، إلى جانب رومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وكانت المجر وبولندا وجمهورية التشيك سبقتها إلى ذلك في قمة براغ عام 1999.
في بداية ولاية بوتين الثانية (2004-2008)، استمرت الأوضاع تتدهور، مع وصول التمدد الغربي إلى عمق حزام الأمن الروسي، فالثورات الملونة، السوسن في جورجيا (2003) والبرتقالية في أوكرانيا (2004) والأقحوان في قرغيزيا (2005)، لم تكن، من وجهة نظر بوتين، سوى محاولات غربية لمحاصرة روسيا وعزلها كليًا داخل البر الآسيوي البارد. خلال هذه الفترة، بدا بوتين مشلول الإرادة، عاجزاً عن الرد، إلى أن أخذت أسعار النفط تتحسن، وإنتاج روسيا يتعافى. وبحلول العام 2007، ومستفيداً من أن الولايات المتحدة غارقة حتى أذنيها في رمال العراق وأفغانستان، أعلن بوتين أنه أصبح مستعداً للمواجهة، خصوصا أن روسيا بدأت تتحرر من عبء الديون الغربية، وتحقق فوائض مالية كبيرة من صادراتها النفطية.
خلال مؤتمر ميونخ للأمن في دورته 43 التي عقدت في فبراير/ شباط 2007، أطلق بوتين صرخة التحدي الأولى، معلنًا بداية المرحلة الثانية من حكمه، حذّر فيها من سماهم "الذئاب" من الاستخفاف بالدب الروسي الذي عاد من سباته. لم يتأخر بوتين كثيرًا في ترجمة كلامه إلى أفعال، فغزا جورجيا في أغسطس/ آب 2008، وسلخ عنها إقليمي أوسيتا الجنوبية وأبخازيا، وأطاح حكومة ساكشفيلي المؤيدة للغرب، ثم اتجه إلى أوكرانيا، ودبر فيها انقلابا انتخابيا عام 2010، أعادها إلى بيت الطاعة الروسي.
بدأت المرحلة الثالثة من حكم بوتين مع عودته إلى الرئاسة عام 2012، بعد أربع سنوات قضاها في رئاسة الحكومة، وبدا فيها مهتما ببناء الاتحاد الأوراسي، كتكتل اقتصادي – عسكري في مواجهة الغرب، يضم بقيادة روسيا، كلا من أوكرانيا وكازاخستان وروسيا البيضاء، الأخوات الكبرى في النادي السوفييتي السابق، قبل أن تستعيد الولايات المتحدة أنفاسها نتيجة سياسة الانسحاب من حروب العالم الإسلامي التي جاء بها الرئيس الأميركي في حينه، باراك أوباما. والذي عاجل بوتين بضربة أوكرانيا، أفقدته توازنه، عندما أسهم في إسقاط حكومة فيكتور يانكوفيتش المؤيدة لموسكو، وإجهاض حلم الاتحاد الأوراسي الذي لم يعد أوراسيًا بخسارة أوكرانيا. وعلى الرغم من أن بوتين رد بضم القرم، إلا أن هذه على أهميتها لم تكن لتعوّضه أبداً عن خسارة أوكرانيا التي لم تقم إمبراطورية روسية دونها منذ أيام بطرس الأكبر (توفي 1725).
في فترة رئاسته الرابعة، سوف يحرص بوتين، وقد بات أكثر حذرًا من الاحتفال بالنصر مبكرًا، على تحصين مكاسبه، خصوصا في سورية التي استثمر فيها كثيراً. يفعل ذلك، وهو أدرى الناس بورطته، ومواطن ضعفه، فهو، في نهاية المطاف، يحكم دولةً ريعية، يقوم اقتصادها على بيع النفط والغاز، على الرغم من أنها تملك أسلحة نووية. فالاتحاد السوفييتي انهار وفي حوزته أعظم ترسانة أسلحة نووية في التاريخ، إذ ليس بالنووي وحده تصبح الدول عظمى، على ما حاول بوتين أن يوحي به في خطابه "الناري" مطلع شهر مارس/ آذار الجاري.
في بداية ولاية بوتين الثانية (2004-2008)، استمرت الأوضاع تتدهور، مع وصول التمدد الغربي إلى عمق حزام الأمن الروسي، فالثورات الملونة، السوسن في جورجيا (2003) والبرتقالية في أوكرانيا (2004) والأقحوان في قرغيزيا (2005)، لم تكن، من وجهة نظر بوتين، سوى محاولات غربية لمحاصرة روسيا وعزلها كليًا داخل البر الآسيوي البارد. خلال هذه الفترة، بدا بوتين مشلول الإرادة، عاجزاً عن الرد، إلى أن أخذت أسعار النفط تتحسن، وإنتاج روسيا يتعافى. وبحلول العام 2007، ومستفيداً من أن الولايات المتحدة غارقة حتى أذنيها في رمال العراق وأفغانستان، أعلن بوتين أنه أصبح مستعداً للمواجهة، خصوصا أن روسيا بدأت تتحرر من عبء الديون الغربية، وتحقق فوائض مالية كبيرة من صادراتها النفطية.
خلال مؤتمر ميونخ للأمن في دورته 43 التي عقدت في فبراير/ شباط 2007، أطلق بوتين صرخة التحدي الأولى، معلنًا بداية المرحلة الثانية من حكمه، حذّر فيها من سماهم "الذئاب" من الاستخفاف بالدب الروسي الذي عاد من سباته. لم يتأخر بوتين كثيرًا في ترجمة كلامه إلى أفعال، فغزا جورجيا في أغسطس/ آب 2008، وسلخ عنها إقليمي أوسيتا الجنوبية وأبخازيا، وأطاح حكومة ساكشفيلي المؤيدة للغرب، ثم اتجه إلى أوكرانيا، ودبر فيها انقلابا انتخابيا عام 2010، أعادها إلى بيت الطاعة الروسي.
بدأت المرحلة الثالثة من حكم بوتين مع عودته إلى الرئاسة عام 2012، بعد أربع سنوات قضاها في رئاسة الحكومة، وبدا فيها مهتما ببناء الاتحاد الأوراسي، كتكتل اقتصادي – عسكري في مواجهة الغرب، يضم بقيادة روسيا، كلا من أوكرانيا وكازاخستان وروسيا البيضاء، الأخوات الكبرى في النادي السوفييتي السابق، قبل أن تستعيد الولايات المتحدة أنفاسها نتيجة سياسة الانسحاب من حروب العالم الإسلامي التي جاء بها الرئيس الأميركي في حينه، باراك أوباما. والذي عاجل بوتين بضربة أوكرانيا، أفقدته توازنه، عندما أسهم في إسقاط حكومة فيكتور يانكوفيتش المؤيدة لموسكو، وإجهاض حلم الاتحاد الأوراسي الذي لم يعد أوراسيًا بخسارة أوكرانيا. وعلى الرغم من أن بوتين رد بضم القرم، إلا أن هذه على أهميتها لم تكن لتعوّضه أبداً عن خسارة أوكرانيا التي لم تقم إمبراطورية روسية دونها منذ أيام بطرس الأكبر (توفي 1725).
في فترة رئاسته الرابعة، سوف يحرص بوتين، وقد بات أكثر حذرًا من الاحتفال بالنصر مبكرًا، على تحصين مكاسبه، خصوصا في سورية التي استثمر فيها كثيراً. يفعل ذلك، وهو أدرى الناس بورطته، ومواطن ضعفه، فهو، في نهاية المطاف، يحكم دولةً ريعية، يقوم اقتصادها على بيع النفط والغاز، على الرغم من أنها تملك أسلحة نووية. فالاتحاد السوفييتي انهار وفي حوزته أعظم ترسانة أسلحة نووية في التاريخ، إذ ليس بالنووي وحده تصبح الدول عظمى، على ما حاول بوتين أن يوحي به في خطابه "الناري" مطلع شهر مارس/ آذار الجاري.