09 نوفمبر 2024
"الرسالة" ممنوعاً ومسموحاً
لمّا حكيتُ، قبل خمسةٍ وعشرين عاماً في الرباط، للمخرج العالمي مصطفى العقاد، أنني شاهدتُ فيلمَه "الرسالة" في الأيام الأولى لعروضِه في عمّان، إبّان كنت في الإعدادية، أصابني شيءٌ من الزهو عندما سألني إن كان الفيلم قد أعجبني (!). بدا سؤاله تهذيبا فائضا من شخصه الرائق، ومجاملةً ثمينةً منه غبطتُ نفسي عليها. أما إعجابي بالفيلم الشهير فيقيم فيّ منذ كنت الفتى الذي شاهده في سينما زهران في عمّان، بصحبة ابن عمٍّ لي، قبل أربعين عاما. طافت دردشتي تلك مع العقاد في غير موضوع، ولا أنسى أنه، في الأثناء، حدّثني عن تقديره أن الأردن أجاز عرض "الرسالة" بعد إطلاقه في 1978 (قرأت أخيرا أن الأردن ولبنان وحدهما سمحا بعرضه، ولستُ متأكّدا).
مناسبة افتتاح هذه الكلمات بهذه الاستعادة مع مصطفى العقاد أن فيلمَه تُعرَض نسختان منه، إنكليزية وعربية، بتقنية عالية وجديدة (4K) في موسم العيد هذه الأيام، في عدة دور سينما في غير بلد عربي، ومنها دول الخليج (باستثناء الكويت التي تصرّ على منعه!). وجاء طبيعيا أن تهتمّ الصحافة بعروض هذا الفيلم، الهائل القيمة والجمال، في العربية السعودية التي أُريد فيها أن تحتفي بـ"الرسالة"، بتهيئة مشاهدتِه على شاشات السينما في أثناء العيد المبارك، أسابيعَ بعد إعادة فتح دور السينما، المغلقة في هذا البلد منذ نحو أربعة عقود. وهذا ليس سبب الاكتراث باهتمام المملكة الزائد بفيلم العقاد، وإنما أن الحكم فيها، وعلى أعلى المستويات، هو من حارب هذا العمل السينمائي الثقيل، إبّان تصويره وعند عروضه الأولى. ومعلومٌ أنه بينما كان مصطفى العقاد وفريقه يصوّرون الفيلم، بنسختيْه، العربية (عبدالله غيث ومنى واصف و..) والإنكليزية (أنطوني كوين وإيرين باباس و..)، في المغرب، ألحّ ملك السعودية في حينه، خالد بن عبد العزيز، على الحسن الثاني أن يوقف التصوير، وإلا لن تحضر المملكة مؤتمرا إسلاميا كان مقرّرا عقدُه في المغرب (كُتب أن عاهل السعودية هدّد نظيره المغربي بقطع العلاقات)، فكان أن طلب الحسن مغادرة "الرسالة" بلاده، بعد نحو أربعة أشهر من التصوير، فاستضاف معمر القذافي العقاد وفريقَه والمصورين في ليبيا، فتم تصوير مشاهد كثيرة متبقية في سبها وبقاعٍ صحراوية هناك، واستعين بليبيين غير قليلين في بعض الأدوار، منهم الكهربائي علي سالم قدّارة الذي أدّى شخصية وحشي، الفائقة الإبداع في الفيلم، ثم حكى، في مقابلاتٍ صحافية معه، إن والدتَه قاطعته طويلا لأنه قتل الصحابي حمزة بن عبد المطلب (!).
ما الذي جعل رابطة العالم الإسلامي التي يطبخ السعوديون قراراتها "تحرّم" آنذاك تصوير فيلم مصطفى العقاد ومشاهدتَه؟ ما الحرام الذي يحضر في هذا الفيلم، ليحاربه المشايخ النافذون في السعودية؟ قبل ذلك وبعده، إن صحّ أن الأزهر وافق على سيناريو الفيلم، ما الذي جعله يتراجع، ولا يجيز عرضه، قبل 42 عاما، ثم يصمت، قبل سنوات فقط، عن عرضه في التلفزيون المصري؟ ما الذي صيّر "الرسالة" حلالا في هذه الأيام؟ ما هذا الحرام الذي يتصدّى له ملك السعودية، ويتجاوب مع رفضِه ملك المغرب، ثم يتبيّن أن القذافي أرجحُ عقلا (!)، فلا يرى حراما قدّامه؟ ما هذا الحرام الذي لا تحفل به فضائياتٌ عربيةٌ بلا عدد (بينها سعودية ومصرية)، فتتوالى عروض "الرسالة" على شاشاتِها، من دون حرج، في العشرين عاما الماضية؟ وإذا كان حراما تشخيصُ الصحابي حمزة، طالما أنه من "أهل الجنة"، وقد امتنع مصطفى العقاد عن تشخيص ممثلين أدوار الخلفاء الراشدين، فلماذا جاز بعد أربعة عقود تشخيص عمر وأبو بكر وعلي وعثمان في المسلسل التلفزيوني "عمر" (كتابة وليد سيف، إخراج حاتم علي، رمضان 2012)، وتشترك في إنتاجه شركةٌ سعودية (mbc) ومؤسسة حكومية قطرية (سقى الله!)؟
تتابعت إلى البال هذه الأسئلة، وحزمةٌ مثلها، في غضون الإقبال الذي يحظى به، في هذه الأيام، فيلم "الرسالة" في قاعات سينما في الرياض والدوحة وأبوظبي وغيرها. الإجابة المرجّحة عليها أن الأمزجة البائسة الحاكمة والنافذة هي التي تبيح ولا تبيح، تحظر وتسمح. .. استحقّ الأردنيون، إذن، إشادةً من مصطفى العقاد بهم، سنواتٍ قبل أن يتصادف وجودُه بين ظهرانيهم، لمّا أودت به جريمةٌ إرهابية، ارتكبها مأفونون، مؤكّدٌ أنهم لم يشاهدوا "الرسالة".