15 مايو 2024
الانتشار الأميركي الجديد في العراق
ظهرت في السادس من يناير/ كانون الثاني الجاري قوات أميركية راجلة وسط العاصمة العراقية بغداد، في مشهد كان مفاجئاً تماماً للمواطنين العراقيين ولوسائل الإعلام. والأدهى أنه كان زلزالاً خبرياً لأعضاء مجلس النواب، والأحزاب السياسية المنضوية تحت الرايات الإيرانية أو سواها.
اللافت هو في طريقة تعامل المواطنين العراقيين مع أعداد قليلة من الجنود الأميركيين، والذين أحاطوا بهم في واحدٍ من أهم شوارع بغداد وأكثرها زحاماً (شارع المتنبي). في حين كانت مثل هذه الحركة تمثل شيئاً لا يمكن تصديقه إلا من خلال أفلام هوليوود. ومن اطلع، أو يطلع، على صور الجنود الأميركيين (غير المسلحين) محاطين بمئات من الشباب العراقي يعلم الفارق الهائل، وغير المعقول تماماً بين الحضور الأميركي 2003-2011 والعام 2019، ففي المرحلة الأولى كانت القوات الأميركية المدجّجة بالسلاح ووسائل الحماية البرية والجوية هدفا للمقاومة العراقية بكل صنوفها، وهو أمر بات حينها من بديهيات اليوم العراقي الذي يعلمه الجميع، من الأطفال وحتى الشيوخ، رجالاً ونساءً، فكيف تحوّل المشهد عام 2019 لتبدو مسيرة حفنةٍ من الجنود الأميركيين في وسط بغداد ومن دون حماية تذكر، وكأنها نزهة، وقد كانت كذلك فعلاً؟
حصل تهويل إعلامي لموضوع تجوّل الجنود الأميركيين (راجلين) في وسط بغداد، بقيادة نائب قائد القوات الأميركية، أوستن رينفورث، يرافقهم قائد عمليات بغداد للجيش العراقي، جليل الربيعي. هذا صحيح، ولكن لهذه الخطوة، وفي يوم الذكرى الـ98 لتأسيس الجيش العراقي دلالاتٌ لا يمكن أن تهمل أو تفسّر في غير موضعها. ذلك أن الولايات المتحدة تعلم علم اليقين، وبشكل تفصيلي، كل تحركات إيران في العراق، وتعلم أن لها اليد الطولى على معظم الملفات
العراقية، إن لم تكن كلها، وهو أمر ربما اعتبره الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من أخطاء الإدارات الأميركية "الشنيعة"، بدءاً من إدارة الرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش، وانتهاءً بفترة رئاسة باراك أوباما. ويحمّل ترامب هذه الإدارات مسؤولية فتح أبواب العراق على مصاريعها لإيران، والاكتفاء فقط بضمان أمرين رئيسين في هذا البلد: إخراج العراق تماما من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي، ثم استمرار وزيادة ضخ النفط العراقي إلى الأسواق العالمية، والتحكم الأميركي بأمن إنتاجه وتصديره عبر جميع المنافذ المتاحة.
ومع ازدياد حالة الاستهداف الأميركي للنظام القائم في طهران خلال فترة رئاسة ترامب الحالية، ووجود جهد ودعم عربي (خليجي تحديداً)، وإسرائيلي، لتحجيم قدرات إيران العسكرية والإيديولوجية، بات العراق الساحة الأهم والأبرز في تحديد حركة أذرع إيران المتحرّكة بحرية حتى هذه اللحظة في سورية ولبنان، والعراق بالطبع.
كانت هنالك خطوات أميركية عدة، اكتسب معظمها طابع السريّة التامة، باتجاه تعزيز الوجود الأميركي في العراق، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. أما عسكرياً، فقد سعت واشنطن إلى تكريس وجود قوات النخبة في قواعدها في عدة مناطق في العراق، بحجة المساعدة على طرد تنظيم داعش الإرهابي من المدن العراقية التي احتلها عام 2014، ثم بحجة منع عودة التنظيم إلى العمل في هذه المناطق، وهذه، بالمناسبة، باتت الآن، وبعدما ذاق أهلها الويل والثبور من "داعش"، ثم من الذين جاؤوا بحجة "التحرير" من مليشيات إجرامية طائفية وفيلق القدس الإيراني، أقول إن هذه المناطق، وبعد هذا كله، باتت ملاذاً آمناً للقوات الأميركية التي تشكل بالنسبة لهم الجهة الوحيدة القادرة على حمايتهم ومنع إبادتهم أو التغيير الديمغرافي القسري للمناطق التي يعيشون فيها.
سياسيا، وبشكل لافت وواضح، كان تعيين ماثيو تولر سفيرا للولايات المتحدة في بغداد يشير إلى أن وقت التغيير في قواعد اللعبة في العراق قد حان، حيث يعتبر هذا الرجل من الصقور في إدارة ترامب الذين يكنّون لإيران بغضا خاصا، وأيضا من الذين يؤمنون، بشكل قاطع، بضرورة إيقاف دورها المزعزع أمن المنطقة، وتحجيم دورها في العراق، وهو ما يذهب إليه الرئيس ترامب نفسه الذي يقول: "إننا لم نذهب إلى العراق، ونخسر آلاف الأميركيين وآلاف ومئات المليارات من أجل أن نسلمه لإيران". وقد بدا دور تولر واضحا في لعبة مراكز القوى في العملية السياسية المتأرجحة في العراق، بما جعل من موضوع إدارة الملفات يتحمل الصراعات السياسية، فيما كان حتى وقت قريب يحكم بقرار من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، أو من السفير الإيراني في العراق.
اقتصاديا، تضغط واشنطن على طهران بشدة. وحتى هذه اللحظة، مُنحت بغداد فرصتان لتدبّر أمرها، بشأن العقوبات المفروضة على إيران. ولعل تصريح وزير النفط العراقي، ثامر الغضبان، في 12 من يناير/ كانون الثاني الجاري، بعدم نجاح المفاوضات التي جرت بينه وبين وزير النفط الإيراني (الزائر) بشأن موضوع تطوير حقول النفط المشتركة دليل على ذلك، كما أن زيارة وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، إلى بغداد، بصحبة عشرات من رجال الأعمال والمستثمرين الإيرانيين، لعل هذا التصريح يشير، بوضوح، إلى محاولات إيرانية للتشبث بالسوق العراقي مستهلكا رئيسا للمنتجات الإيرانية.
كان تجول الجنود الأميركان في بغداد عملية "جس نبض" جرت للشارع العراقي، اقترحها وخطط لها السفير الأميركي، ماثيو تولر، لقياس تقبّل الشعب العراقي للدور الأميركي المقبل في بلدهم، وربما تؤشر نتائج هذه التجربة إلى قبول شعبي لهذا الوجود. ولكن على الإدارة الأميركية أن تعي جيدا مسألة بالغة الأهمية، ذلك أن العراقيين، بشكل عام، ليسوا أعداءً للشعب الأميركي، ولولا دخولهم عام 2003 غزاة ومحتلين بلدهم، لما تصرفوا معهم بالشكل الذي جعل طوابير توابيت قتلاهم تمتد من بغداد إلى واشنطن. وقد شاهد الأميركيون أنفسهم، سلمية أبناء هذا الشعب، ورقيهم وطيبتهم، عندما لا يكونون في موضع الدفاع عن بلدهم، والأصل في المشهد الذي كان في السادس من يناير/ كانون الثاني الجاري أن العراقيين ضاقوا ذرعا بإيران، وأدواتها ومنتجاتها وساستها وكل مليشياتها، وأن أعينهم ربما ترقب دورا أميركيا يرتطم بها، فيرفع عنهم بعض الضغط الذي يمارس بحقهم منذ 15 عاما، تحت مرأى دول العالم ومسمعها، وخصوصا الولايات المتحدة.
ترتكز فلسفة السفير الأميركي ماثيو تولر في الوجود والإحلال محل الهيمنة الإيرانية في العراق على "احتلال العراق"، ليس عبر "الحدود"، كما كان الأمر عام 2003، وإنما من خلال كسب "القلوب"، مستفيدين من بغض العراقيين الشديد لإيران، ولنظامها السياسي والأمني والاقتصادي والطائفي الذي وضعته في العراق.
حصل تهويل إعلامي لموضوع تجوّل الجنود الأميركيين (راجلين) في وسط بغداد، بقيادة نائب قائد القوات الأميركية، أوستن رينفورث، يرافقهم قائد عمليات بغداد للجيش العراقي، جليل الربيعي. هذا صحيح، ولكن لهذه الخطوة، وفي يوم الذكرى الـ98 لتأسيس الجيش العراقي دلالاتٌ لا يمكن أن تهمل أو تفسّر في غير موضعها. ذلك أن الولايات المتحدة تعلم علم اليقين، وبشكل تفصيلي، كل تحركات إيران في العراق، وتعلم أن لها اليد الطولى على معظم الملفات
العراقية، إن لم تكن كلها، وهو أمر ربما اعتبره الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من أخطاء الإدارات الأميركية "الشنيعة"، بدءاً من إدارة الرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش، وانتهاءً بفترة رئاسة باراك أوباما. ويحمّل ترامب هذه الإدارات مسؤولية فتح أبواب العراق على مصاريعها لإيران، والاكتفاء فقط بضمان أمرين رئيسين في هذا البلد: إخراج العراق تماما من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي، ثم استمرار وزيادة ضخ النفط العراقي إلى الأسواق العالمية، والتحكم الأميركي بأمن إنتاجه وتصديره عبر جميع المنافذ المتاحة.
ومع ازدياد حالة الاستهداف الأميركي للنظام القائم في طهران خلال فترة رئاسة ترامب الحالية، ووجود جهد ودعم عربي (خليجي تحديداً)، وإسرائيلي، لتحجيم قدرات إيران العسكرية والإيديولوجية، بات العراق الساحة الأهم والأبرز في تحديد حركة أذرع إيران المتحرّكة بحرية حتى هذه اللحظة في سورية ولبنان، والعراق بالطبع.
كانت هنالك خطوات أميركية عدة، اكتسب معظمها طابع السريّة التامة، باتجاه تعزيز الوجود الأميركي في العراق، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. أما عسكرياً، فقد سعت واشنطن إلى تكريس وجود قوات النخبة في قواعدها في عدة مناطق في العراق، بحجة المساعدة على طرد تنظيم داعش الإرهابي من المدن العراقية التي احتلها عام 2014، ثم بحجة منع عودة التنظيم إلى العمل في هذه المناطق، وهذه، بالمناسبة، باتت الآن، وبعدما ذاق أهلها الويل والثبور من "داعش"، ثم من الذين جاؤوا بحجة "التحرير" من مليشيات إجرامية طائفية وفيلق القدس الإيراني، أقول إن هذه المناطق، وبعد هذا كله، باتت ملاذاً آمناً للقوات الأميركية التي تشكل بالنسبة لهم الجهة الوحيدة القادرة على حمايتهم ومنع إبادتهم أو التغيير الديمغرافي القسري للمناطق التي يعيشون فيها.
سياسيا، وبشكل لافت وواضح، كان تعيين ماثيو تولر سفيرا للولايات المتحدة في بغداد يشير إلى أن وقت التغيير في قواعد اللعبة في العراق قد حان، حيث يعتبر هذا الرجل من الصقور في إدارة ترامب الذين يكنّون لإيران بغضا خاصا، وأيضا من الذين يؤمنون، بشكل قاطع، بضرورة إيقاف دورها المزعزع أمن المنطقة، وتحجيم دورها في العراق، وهو ما يذهب إليه الرئيس ترامب نفسه الذي يقول: "إننا لم نذهب إلى العراق، ونخسر آلاف الأميركيين وآلاف ومئات المليارات من أجل أن نسلمه لإيران". وقد بدا دور تولر واضحا في لعبة مراكز القوى في العملية السياسية المتأرجحة في العراق، بما جعل من موضوع إدارة الملفات يتحمل الصراعات السياسية، فيما كان حتى وقت قريب يحكم بقرار من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، أو من السفير الإيراني في العراق.
اقتصاديا، تضغط واشنطن على طهران بشدة. وحتى هذه اللحظة، مُنحت بغداد فرصتان لتدبّر أمرها، بشأن العقوبات المفروضة على إيران. ولعل تصريح وزير النفط العراقي، ثامر الغضبان، في 12 من يناير/ كانون الثاني الجاري، بعدم نجاح المفاوضات التي جرت بينه وبين وزير النفط الإيراني (الزائر) بشأن موضوع تطوير حقول النفط المشتركة دليل على ذلك، كما أن زيارة وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، إلى بغداد، بصحبة عشرات من رجال الأعمال والمستثمرين الإيرانيين، لعل هذا التصريح يشير، بوضوح، إلى محاولات إيرانية للتشبث بالسوق العراقي مستهلكا رئيسا للمنتجات الإيرانية.
كان تجول الجنود الأميركان في بغداد عملية "جس نبض" جرت للشارع العراقي، اقترحها وخطط لها السفير الأميركي، ماثيو تولر، لقياس تقبّل الشعب العراقي للدور الأميركي المقبل في بلدهم، وربما تؤشر نتائج هذه التجربة إلى قبول شعبي لهذا الوجود. ولكن على الإدارة الأميركية أن تعي جيدا مسألة بالغة الأهمية، ذلك أن العراقيين، بشكل عام، ليسوا أعداءً للشعب الأميركي، ولولا دخولهم عام 2003 غزاة ومحتلين بلدهم، لما تصرفوا معهم بالشكل الذي جعل طوابير توابيت قتلاهم تمتد من بغداد إلى واشنطن. وقد شاهد الأميركيون أنفسهم، سلمية أبناء هذا الشعب، ورقيهم وطيبتهم، عندما لا يكونون في موضع الدفاع عن بلدهم، والأصل في المشهد الذي كان في السادس من يناير/ كانون الثاني الجاري أن العراقيين ضاقوا ذرعا بإيران، وأدواتها ومنتجاتها وساستها وكل مليشياتها، وأن أعينهم ربما ترقب دورا أميركيا يرتطم بها، فيرفع عنهم بعض الضغط الذي يمارس بحقهم منذ 15 عاما، تحت مرأى دول العالم ومسمعها، وخصوصا الولايات المتحدة.
ترتكز فلسفة السفير الأميركي ماثيو تولر في الوجود والإحلال محل الهيمنة الإيرانية في العراق على "احتلال العراق"، ليس عبر "الحدود"، كما كان الأمر عام 2003، وإنما من خلال كسب "القلوب"، مستفيدين من بغض العراقيين الشديد لإيران، ولنظامها السياسي والأمني والاقتصادي والطائفي الذي وضعته في العراق.