04 أكتوبر 2024
كيف انتهت تجارب الحكم العسكري
تتحدّث دراسات عديدة عن العلاقات المدنية العسكرية، وكيف تم حل هذا التشابك والتعقيدات في العالم، حتى تم الوصول إلى الصيغة الحالية التي تحكم معظم بلدان العالم المتقدم. وللأسف، تحاول دراسات قليلة تحليل تلك الأمور في العالم العربي. ولذلك، من النادر أن نجد دراسةً مستفيضةً عن هذا الأمر في الوطن العربي عموما، أو في مصر تحديدا، وإن وُجدت فستكون مدفونةً في إحدى المكتبات الجامعية، أو ضمن تقارير أحد المراكز البحثية العربية المغضوب عليها، ولا يجرؤ أحدٌ على الحديث عنها بالتأكيد في ظل تأميم الإعلام.
دراسة قد تكون مفيدةً في هذا الأمر، صدرت منذ ثلاثين عاما، نُشرت في مجلة السياسة الدولية الصادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بعنوان "نهاية النظم العسكرية والانتقال إلى الديمقراطية في العالم الثالث"، تتحدث عن شرعية النظام العسكري وتبرير إطالة مدة الحكم، فقد جرت العادة في دول العالم الثالث تحت النظام العسكري أو شبه العسكري على المزج بين هدفين أساسيين أساسا لشرعية الحكم، وهما الحفاظ على ما يسمى الأمن القومي من وجهة نظر العسكريين، وكذلك تحسين الحالة الاقتصادية في أسرع وقت، وتكون تلك عادةً هي الذريعة التي يتم الاستيلاء بها على السلطة، بعد فشل القوى السياسية من المدنيين، في إدارة الدولة، وتكون هي الذريعة نفسها عادة التي يتم إطلاقها، من أجل التمديد والبقاء فترة أطول في السلطة، بالإضافة إلى ذرائع أخرى، مثل "الحفاظ على المكتسبات"، أو ضرورة الاستمرار لإنهاء المشروعات التي هي قيد التقدّم. وبناء على ذلك، تستطيل فترة الحكم، وربما تمتد عشرات السنين، ويتوازى ذلك مع إجراءاتٍ قمعيةٍ متزايدة، ولكن شرعية هذه الأنظمة تصبح درجة تحقيق وعوده.
وفي معظم تجارب الانقلابات العسكرية في أميركا الجنوبية وأفريقيا، تبدأ الأنظمة العسكرية، أو السلطوية شبه العسكرية، بإغلاق البيئة السياسية، واتخاذ تدابير قمعية ضد من تعتبرهم
المؤسسات العسكرية يهددون استقرار الساحة الداخلية، فتكثر حالات المفقودين وتعذيب المحتجزين. وعادة يتم إلغاء الأحزاب أو تهميشها على الأقل، بالإضافة إلى الرقابة الصارمة على الإعلام والتحكّم في السلطة القضائية، وقد يتم اللجوء إلى بعض الإجراءات الديمقراطية الشكلية، لتقليل الانتقادات الدولية، أو لضمان استمرار المساعدات الأميركية.
وبشكل عام، تعتقد أنظمة الحكم السلطوية، ذات الطابع العسكري، أن إغلاق المجال السياسي، أو المجال العام، هو الطريق الوحيد إلى تحقيق الاستقرار، ولمحاولة بلوغ معدلات النمو الموعود بها. لذلك يُستعاض بالحرمان من الحقوق السياسية بإنجاز تقدم اقتصادي، ولو سريعا، لمحاولة ضمان عدم غضب الجماهير وقتا أطول، فهي عادة تصل إلى السلطة بعد انقلابات عسكرية، نتيجة أزمة سياسية أو هزيمة عسكرية، فتكون إعادة الاستقرار الذريعة الرئيسية. ولذلك يكون هناك تأييد شعبي، في بداية الأمر، للانقلاب العسكري، أملا في التغيير، وأملا في الاستقرار والحفاظ على الأمن.
ولكن مع الفشل المتتالي في تحقق الوعود التي قامت ببناء شرعيتها عليها، مثل النمو الاقتصادي، والرخاء والاستقرار والأمن وفرض النظام وتحسين مستوى المعيشة، تبدأ الجماهير مرة أخرى في الاعتراض أو التظاهر وتنظيم الإضرابات. وعادة يكون رد فعل السلطة العسكرية مزيدا من القمع والاغتيالات للمعارضين وأصحاب الرأي، ما يزيد من حالة الغليان وعدم الاستقرار، فعدم وجود قنواتٍ فعّالة، تتيح حرية التعبير عن الرأي، أو وسائل لاستيعاب المطالب، والرد عليها، يؤدي إلى ضعف الحكم السلطوي/ العسكري، وإلى لجوء بعض الفئات، أو الفصائل المعترضة، إلى وسائل أخرى، بعيدا عن الوسائل السليمة، أو بعيدا عن الحياة السياسية التمثيلية، ما قد يؤدي إلى الدخول في دوامة العنف أو الاضطرابات فترة طويلة، وهو ما تحاول الأنظمة العسكرية في استغلاله وتسويقه تهديدا جديدا، يستلزم البقاء في السلطة، من أجل تحقيق الاستقرار.
وتقع معظم الأنظمة السلطوية/ العسكرية في خطأ البحث عن نمو اقتصادي سريع، من أجل تدعيم شرعيتها، ولو بتحقيق أي نجاح اقتصادي، من أجل تهدئة الجماهير، وإخماد مصادر المعارضة، وهو ما يتزامن مع التوسع في القمع وانتهاكات حقوق الإنسان. ولتحقيق معدلات نمو اقتصادي في فترة قصيرة، قد تلجأ الأنظمة العسكرية إلى تكثيف الاعتماد على التمويل الخارجي، والقروض والمنح، لتسهيل الاستيراد اللازم للتصنيع والبناء، أو تلجأ إلى استيراد السلع الرأسمالية ونصف مصنّعة، وإقامة مشروعات سياحية واستهلاكية، مع إهمال مقومات التنمية، مثل التصنيع والتعليم والبحث العلمي. وبالطبع، يتم تجاهل جوهر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فتزداد الفجوة بين الطبقات، وتزداد معاناة الشعوب.
ولكن على المدى المتوسط، تؤدي تلك الإجراءات إلى تراكم الديون، والحدّ من القدرة
الاستيعابية للسوق المحلية، ويصبح الأمر كارثيا عند حدوث هزة اقتصادية عالمية، أو فقاعة عقارية، أو أزمة اقتصادية، فينهار النظام الاقتصادي سريعا، ثم تبدأ منظومة الحكم في التفكّك، خصوصا مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، والتي تقابلها الأنظمة بقمعٍ مفرطٍ وأساليب دموية، ما قد يؤدي إلى تصاعدها مرة أخرى، بشكلٍ يصعب السيطرة عليها. وقد يؤدي ذلك إلى حدوث انقلابٍ جديدٍ، تهلل له الجماهير مرة أخرى، أملا في الاستقرار. وفي معظم تجارب أميركا الجنوبية، لجأت الأنظمة العسكرية إلى التفاوض مع القوى السياسية والاحتجاجية، بهدف الخروج الآمن، أو اقتسام السلطة، والحفاظ على بعض المكتسبات والامتيازات للطبقة العسكرية.
في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وأوروغواي، شاهدنا مراحل انتقالية، بعد عشرات السنين من الانقلابات العسكرية والانقلابات المضادّة، شهدت المراحل الانتقالية اتفاقات لاقتسام السلطة أو اتفاقياتٍ للخروج الآمن، ومحاولة ضمان عدم محاسبة رموز النظم العسكرية على الجرائم التي ارتكبوها ضد الإنسانية، أو معاهدات عدالةٍ انتقاليةٍ بالاعتراف مقابل العفو. ولكن في آخر المطاف، تمت محاسبة المجرمين، ولو بعد حين. وأصبح الآن هناك رؤساء للجمهورية ووزراء وأعضاء برلمان تعرّضوا للسجن والتعذيب في فترات الحكم العسكري، غير أن هناك عاملا مشتركا مهما، في معظم التجارب، وهو وجود قوى سياسية منظمة، وذات مقدار عالٍ من النضج، تستطيع الاتفاق على الإطار الجامع والبرنامج المشترك، وتستطيع العمل على الحد الأدنى من التوافق، فبدون تلك القوى لن يكون هناك بناء تراكمي، ولن يكون هناك من يقطف الثمار عندما يأتي الأوان.
دراسة قد تكون مفيدةً في هذا الأمر، صدرت منذ ثلاثين عاما، نُشرت في مجلة السياسة الدولية الصادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بعنوان "نهاية النظم العسكرية والانتقال إلى الديمقراطية في العالم الثالث"، تتحدث عن شرعية النظام العسكري وتبرير إطالة مدة الحكم، فقد جرت العادة في دول العالم الثالث تحت النظام العسكري أو شبه العسكري على المزج بين هدفين أساسيين أساسا لشرعية الحكم، وهما الحفاظ على ما يسمى الأمن القومي من وجهة نظر العسكريين، وكذلك تحسين الحالة الاقتصادية في أسرع وقت، وتكون تلك عادةً هي الذريعة التي يتم الاستيلاء بها على السلطة، بعد فشل القوى السياسية من المدنيين، في إدارة الدولة، وتكون هي الذريعة نفسها عادة التي يتم إطلاقها، من أجل التمديد والبقاء فترة أطول في السلطة، بالإضافة إلى ذرائع أخرى، مثل "الحفاظ على المكتسبات"، أو ضرورة الاستمرار لإنهاء المشروعات التي هي قيد التقدّم. وبناء على ذلك، تستطيل فترة الحكم، وربما تمتد عشرات السنين، ويتوازى ذلك مع إجراءاتٍ قمعيةٍ متزايدة، ولكن شرعية هذه الأنظمة تصبح درجة تحقيق وعوده.
وفي معظم تجارب الانقلابات العسكرية في أميركا الجنوبية وأفريقيا، تبدأ الأنظمة العسكرية، أو السلطوية شبه العسكرية، بإغلاق البيئة السياسية، واتخاذ تدابير قمعية ضد من تعتبرهم
وبشكل عام، تعتقد أنظمة الحكم السلطوية، ذات الطابع العسكري، أن إغلاق المجال السياسي، أو المجال العام، هو الطريق الوحيد إلى تحقيق الاستقرار، ولمحاولة بلوغ معدلات النمو الموعود بها. لذلك يُستعاض بالحرمان من الحقوق السياسية بإنجاز تقدم اقتصادي، ولو سريعا، لمحاولة ضمان عدم غضب الجماهير وقتا أطول، فهي عادة تصل إلى السلطة بعد انقلابات عسكرية، نتيجة أزمة سياسية أو هزيمة عسكرية، فتكون إعادة الاستقرار الذريعة الرئيسية. ولذلك يكون هناك تأييد شعبي، في بداية الأمر، للانقلاب العسكري، أملا في التغيير، وأملا في الاستقرار والحفاظ على الأمن.
ولكن مع الفشل المتتالي في تحقق الوعود التي قامت ببناء شرعيتها عليها، مثل النمو الاقتصادي، والرخاء والاستقرار والأمن وفرض النظام وتحسين مستوى المعيشة، تبدأ الجماهير مرة أخرى في الاعتراض أو التظاهر وتنظيم الإضرابات. وعادة يكون رد فعل السلطة العسكرية مزيدا من القمع والاغتيالات للمعارضين وأصحاب الرأي، ما يزيد من حالة الغليان وعدم الاستقرار، فعدم وجود قنواتٍ فعّالة، تتيح حرية التعبير عن الرأي، أو وسائل لاستيعاب المطالب، والرد عليها، يؤدي إلى ضعف الحكم السلطوي/ العسكري، وإلى لجوء بعض الفئات، أو الفصائل المعترضة، إلى وسائل أخرى، بعيدا عن الوسائل السليمة، أو بعيدا عن الحياة السياسية التمثيلية، ما قد يؤدي إلى الدخول في دوامة العنف أو الاضطرابات فترة طويلة، وهو ما تحاول الأنظمة العسكرية في استغلاله وتسويقه تهديدا جديدا، يستلزم البقاء في السلطة، من أجل تحقيق الاستقرار.
وتقع معظم الأنظمة السلطوية/ العسكرية في خطأ البحث عن نمو اقتصادي سريع، من أجل تدعيم شرعيتها، ولو بتحقيق أي نجاح اقتصادي، من أجل تهدئة الجماهير، وإخماد مصادر المعارضة، وهو ما يتزامن مع التوسع في القمع وانتهاكات حقوق الإنسان. ولتحقيق معدلات نمو اقتصادي في فترة قصيرة، قد تلجأ الأنظمة العسكرية إلى تكثيف الاعتماد على التمويل الخارجي، والقروض والمنح، لتسهيل الاستيراد اللازم للتصنيع والبناء، أو تلجأ إلى استيراد السلع الرأسمالية ونصف مصنّعة، وإقامة مشروعات سياحية واستهلاكية، مع إهمال مقومات التنمية، مثل التصنيع والتعليم والبحث العلمي. وبالطبع، يتم تجاهل جوهر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فتزداد الفجوة بين الطبقات، وتزداد معاناة الشعوب.
ولكن على المدى المتوسط، تؤدي تلك الإجراءات إلى تراكم الديون، والحدّ من القدرة
في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وأوروغواي، شاهدنا مراحل انتقالية، بعد عشرات السنين من الانقلابات العسكرية والانقلابات المضادّة، شهدت المراحل الانتقالية اتفاقات لاقتسام السلطة أو اتفاقياتٍ للخروج الآمن، ومحاولة ضمان عدم محاسبة رموز النظم العسكرية على الجرائم التي ارتكبوها ضد الإنسانية، أو معاهدات عدالةٍ انتقاليةٍ بالاعتراف مقابل العفو. ولكن في آخر المطاف، تمت محاسبة المجرمين، ولو بعد حين. وأصبح الآن هناك رؤساء للجمهورية ووزراء وأعضاء برلمان تعرّضوا للسجن والتعذيب في فترات الحكم العسكري، غير أن هناك عاملا مشتركا مهما، في معظم التجارب، وهو وجود قوى سياسية منظمة، وذات مقدار عالٍ من النضج، تستطيع الاتفاق على الإطار الجامع والبرنامج المشترك، وتستطيع العمل على الحد الأدنى من التوافق، فبدون تلك القوى لن يكون هناك بناء تراكمي، ولن يكون هناك من يقطف الثمار عندما يأتي الأوان.