09 سبتمبر 2024
تعقيبا على رد صقر أبو فخر.. الدولة في فلسطين
أشكر "العربي الجديد" على نشر تعقيبي على مقال الكاتب صقر أبو فخر "الدولة ثنائية القومية في فلسطين.. واقع الحال والمحال" (22/10/2018)، وأشكر أبو فخر أيضا على الجهد والوقت الذي بذله في هذا النقاش. وعلى الرغم من وضوح حقائق كثيرة، إلا أن العقل الباطن يطغى، ويتحكّم، في أوقات كثيرة، بمواقفنا وآرائنا وكتاباتنا، وهو ما لمسته في مستهل رد صقر على مقالي.
يقدم صقر أبو فخر، في ختام مقاله "رد على تعقيبين... الدولة ثنائية القومية"، في "العربي الجديد" في 23/12/2018، افتراضات وتفسيرات مضللة حمّلها لنصي المنشور في "العربي الجديد" أيضا في 5/12/2018، "تعقيب على صقر أبو فخر.. الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة"، من دون أن يرفق مع اتهاماته الافتراضية أي فقرة أو جملة أو حتى كلمة قد تضمّنها مقالي المذكور. وهو ما أفقد النقد الذي صاغه فحواه، أي تحوّل إلى مجرد كلام متناغم وسلس ومترابط، يلقي عبره الاتهامات جزافا من دون دليل، ولا ينتمي بأي صلة إلى بديهيات النقاش. حيث يكتب صقر "يخلط الكاتبان الدولة الواحدة بالدولة الديمقراطية العَلمانية بلا تبصّر"، والمقصود بالكاتبين حيّان جابر وناجي الخطيب، من دون أي إشارةٍ إلى موضع الخلط، وبما يوحي بعدم قراءة ما كتبت في مقالي المقصود الذي انشغل، بكل وضوح من العنوان إلى الخاتمة، بالدولة الديمقرطية العلمانية الواحدة، وهو طرحٌ مختلف عن برنامج منظمة التحرير السابق وحركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومختلفٌ عن حل الدولة الواحدة أيضا القائم على الكونفدرالية أو ثنائية القومية، فأين الخلط، وأنا لم أشر، ولو بكلمةٍ، إلى تطابق الخيار الذي أتبنّاه مع أي من الطروحات السابقة، بل على العكس تماما، فقد حاولت إبراز نقاط الخلاف والتناقض بين الطرح الذي أتبناه وجميع هذه الطروحات عموما. وأدعو صقر أبو فخر، في هذه المناسبة، إلى الاطلاع على بعض ما كتبت في هذا الموضوع، في "العربي الجديد"، ومواقع إلكترونية أخرى؛ ويسعدني تزويده بها جميعا؛ كما يمكنه الاطلاع على وثيقة الحركة الشعبية لدولة فلسطين العلمانية الديمقراطية الواحدة التي تمثلني، والتي كان للمفكر والمناضل الراحل سلامة كيلة الدور الأكبر والأبرز في صياغتها وإطلاقها. ولذا أتفق مع أبو فخر على أن الطرح، أو البرنامج الذي أتحدث عنه، مختلف عن كل ما ذكرته سابقا، وأستهجن اتهامي، واتهام المقال بتضمينه خلطا معرفيا بين البرنامجين، أو ربما بين أكثر من طرح أيضا كما ادّعى!
ثم ينتقل، وبصيغة هجومية منمقة وجميلة، إلى استخدام قوانين الفيزياء القريبة إلى قلبي؛ نظراً لارتباطها بدراستي الأكاديمية التي أنهيتها منذ أكثر من عشرة أعوام؛ عن طريق خلطها
ببعضها، وبمنتهى العشوائية البعيدة كل البعد عن قواعد التحليل العلمي، عن قصد أو من دون قصد، فالمثال الذي طرحه أقرب إلى شرح قانون الجاذبية، أو رد الفعل والقوة المعاكسة، منه إلى قانون العطالة أو القصور الذاتي. ولا أعتقد من المحبذ الآن، ومن هذا المنبر، الدخول في شرح قوانين الفيزياء وتفنيدها، وفي توضيح مدى ترابطها وتكاملها وصعوبة فصلها واقعيا عن بعضها، بعيدا عن الخيال العلمي والسياسي أيضاً، فالواقع الحقيقي بعيد كل البعد عن كل هذه التخيلات، ولذلك يستحيل فصل قانون الجاذبية عن قانون الحركة والقصور الذاتي وغيرها من القوانين في أي تجربةٍ علميةٍ واقعيةٍ.
ولكن، تبقى التجربة العينية المختبر الأول والأخير لأي نظريةٍ أو قانونٍ جديدا كان أم قديما، وهي الإثبات الحقيقي لصحة الفرضية أو خطئها، وهو ما أتمنى على صقر أبو فخر اللجوء إليه، من أجل مراجعة الكلام الإنشائي الجميل الذي صاغه في نهاية المقال، فقد أثبتت التجربة وواقع الحال الفلسطيني خطأه، ولكن يبدو أنه ينطلق من قتاعاته الشخصية وقراءته الذاتية، من دون أي سند علمي، مستمد من تاريخ النضال الفلسطيني، أو من تحليل الواقع وتفكيكه ونقده، إذ يكتب "في عصر الحرب الباردة، كان الكفاح المسلح الوسيلة الفضلى لتحرير فلسطين. ثم صار التفاوض مع جرعاتٍ من العمل المسلح الوسيلة المفضلة في حقبة ما بعد الحرب الباردة... إلخ".
لا أعلم من أين استمد أبو فخر هذه الجرأة والثقة التي جعلته يصف كل محطات النضال الفلسطيني السابقة بعبارة "الوسيلة المفضلة"، متجاهلا ً الحضيض الذي نحن فيه، وخصوصا في وصف التفاوض وما تبعه من مراحل، أو على الأقل كنت أتمنى منه أن يشير، ولو على عجالةٍ، إلى الجهة أو العوامل التي جعلتها مفضّلة، فهل يقصد مفضلةً له، أم لحركة فتح مثلا، أم لمجمل القوى السياسية الفلسطينية، أم للنظام العربي وربما الدولي، أم لمن تحديدا. أعتقد، وانطلاقا من دروس الفيزياء التي يرغب الكاتب تزويدنا بها، أن الأجدى له ولنا ولمجمل المهتمين بالموضوع، محاكمة تاريخنا النضالي وفق نتائجه العملية، خطوة تلو خطوة ومرحلة تلو الأخرى، وهو ما يفترض دراسة (وتحديد) قوانا الذاتية والموضوعية أو الخارجية عموما، في كل مرحلة منها، وتبيان أسباب قصورها وتراجعها أو نموها وصعودها، وربط ذلك كله بالنتائج العملية الحاصلة، وفق الأسئلة البسيطة والمنطقية والبديهية، من قبيل تحديد مدى ابتعادنا عن استعادة حقوقنا الكاملة، ونجاحاتنا النضالية المبنية على قدرتنا في قيادة الصراع وفق قوانا الذاتية، التاريخية القانونية والكفاحية، ونجاحنا في توحيد قوانا الذاتية، ورصّ الصفوف الشعبية، وإسنادها بقوة دعم شعبية عالمية، وربما رسميةٍ، وفق كل مرحلة وكل ظرف، وبما يتضمن تفنيد أكاذيب كثيرة روجت لها قيادتنا التاريخية، ولا يتسع المجال الآن لذكرها جميعها.
وهذا يعيدنا إلى إصرار صقر أبو فخر على إعلان "حل الدولتين، وهو الأكثر واقعيةً يوم وُلدت تلك الفكرة، فقد صار اليوم غير واقعي، جرّاء التحولات الهائلة في العالم العربي"، متبعا ذلك الإعلان باستخدامه الخاص قانون "القصور الذاتي"، من أجل أن يعلن مجازاً وافتراضاً أن "حل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل بقوة وإصرار وعناد هو الذي يشقّق الكيان الإسرائيلي،
ويجعل دواليب هذا الكيان تدور إلى الخلف، تماماً مثل الحجر الذي وصل إلى الذروة ثم بدأ يتهاوى." ياه!، ما كل هذا التعلق والوله بحل الدولتين الذي تحول إلى ستار سميك يعمي البصيرة، ويحجب الواقع الماثل أمامنا. يا صديقي، لقد آدى حل الدولتين إلى إرغام دواليب الحركة الوطنية الفلسطينية على السير إلى الخلف، حتى يكاد يعود بنا إلى عصور ما قبل التاريخ، بين أجسام أو قوى سياسية شبه قبلية معزولة ومنعزلة عن الشعب وشعب يسبق قيادته بخطوات واسعة، وبين صراع فصائلي ندفع يوميا ثمنه داخل وخارج فلسطين، اتفقوا أم اختلفوا، ففي الحالتين، نحن وقود مصالحهم، والجسر الذي يقودهم إلى غاياتهم. لقد قدم حل الدولتين الذي تتوهم واقعيته في حينه للاحتلال قوة دفع غير محدودة، ربما تضاهي بعض أشكال الدعم المقدم للاحتلال من بعض دول العالم، فأصبحت السلطة الفلسطينية مسؤولةً عن حماية الاحتلال، وحرّرت الاحتلال من مسؤولياته الأخلاقية والسياسية والاقتصادية التي يجب أن يتحملها داخل مناطق السلطة، وتم تقويض الاقتصاد الفلسطيني، وربطه كليا بالاحتلال أو بموافقته، وأمور عديدة زادت من قوة محرّك الاحتلال وحوّلته إلى مركبةٍ فضائيةٍ لا ترى بفضل سرعتها، بل ترى آثارها ونتائجها التدميرية والتخريبية الساقطة على رؤوسنا.
العلمانية بين مزيدات ومزايدات الكلام
لاحظ صقر أبو فخر وجود حرف ألف زائد عن اللزوم في نصّه الأول، ما حول الكلمة من مزيدات الكلام إلى مزايدات الكلام، وهو ما أحدث فرقا شاسعا وفقا له، لكنه غير كافٍ في الواقع، ففي كلا الحالتين يصر على الإيحاء بأن إضافة مصطلح العلمانية إلى برنامج الدولة الواحدة أمر ثانوي وعديم الأهمية، معتبراً أنها تشابه إضافة كلمة الدولي لوصف مجلس الأمن، أي أن وجودها من عدمه لا يقدّم أي إضافة تذكر على المعنى أو المفهوم، بينما يخطئ في سحب الموضوع على مصطلح العلمانية في موضوعنا الأساسي، كونها ذات مغزى ومعنى واضحين، يستحيل التعبير عنهما من دون هذه الإضافة، أو إضافة مشابهة إن أمكن، فالعلمانية في البرنامج المقترح تعبير تخصصي واضح المعنى والمغزى، ولا يستقيم الحديث من دونه عنها تحديداً. لأنه يحدّد طبيعة الدولة بوضوح، وهو ما أسرفت في شرحه في معرض ردي الأول. ولكن يبدو، وللأسف، أنه قد أهمل قراءته جيداً، واكتفى بالتشبث بالخلل التحريري الحاصل في مقاله الأساسي!، لذا، وباختصار، قد تكون الدولة الواحدة دينيةً إسلامية مسيحية أو يهودية، وقد تكون ثنائية القومية أو كونفدرالية، أو دولة دستورية وإلى ما هنالك من أشكال وأنظمة الدول التي أعتقد، كما يعتقد آخرون مثلي، أنها لا تقدّم جميعها حلا عادلا لقضيتنا، ولا تضمن لنا مستقبلا يقارب أحلامنا وتوقعاتنا التي نجدها في إطار الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة.
ومن ثم، وهو الأهم، عادة ما تكتسب المصطلحات قيمتها ومعناها ومضمونها من سياقها التاريخي الذي بات يفرض اليوم تحديد طبيعة الدولة العلمانية، كشكل من أشكال الرد على صعود ظاهرة الدين السياسي، أي تحويل الخطاب الديني، الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي، إلى جوهر العمل السياسي والقاعدة الرئيسية في بناء الأمم والدول، وهو ما نلحظ تناميه عالميا، وفي منطقتنا العربية، وداخل دوائر الاحتلال الإسرائيلي ومؤسساته. وبالتالي يستمد مصطلح العلمانية قوته وضرورته اليوم من رحم الواقع الذي نعيشه، وردا عليه في الوقت نفسه.
مراجع
أدين بالاعتذار من صقر أبو فخر، ومن "العربي الجديد"، ومن القراء والمتابعين، على الخطأ الساذج الذي ارتكبته في معرض ردّي الأول، حيث كتبت وعلى عجالة، تشرين الثاني من العام 1967 من دون تدقيق بتاريخ الإعلان عن تأسيس الجبهة الشعبية، وهو 11/12/1967، ما أوقعني بالخلط أيهما الشهر، وذلك لأن الفكرة الأساسية التي عملت على إيضاحها لأبو فخر لا تقوم على الدخول في مهاتراتٍ فصائليةٍ تنتمي إلى عصرٍ مضى، وتبحث عن الفصيل أو الحركة السباقة لتبني الدولة الواحدة. فكلا الحركتين ومجمل فصائل العمل الوطني قد أساءت إلى ماضيها وإرثها وشوهتهما، إلى درجةٍ يصعب التشدق ببياناتها ومواقفها السياسية التاريخية أمام الانحطاط والتردّي الذي تقبع فيه اليوم.
لكن، ونزولا عند طلبات صقر أبو فخر، يمكن العودة، من خلال الموقع الإلكتروني للجبهة
الشعبية لتحرير فلسطين، إلى كتيبها "الاستراتيجية السياسية والتنظيمية" الذي يوثق مؤتمرها المعقود في فبراير/ شباط من العام 1969، وفي الصفحة 51 تحديداً، نجد تبنّيها خيار الدولة الوطنية الديمقراطية بكل وضوح ودقة، بينما لم أتمكن من العثور على وثيقةٍ فتحاويةٍ رسمية مشابهة، تتضمن إعلانا رسميا واضحا وصريحا بذلك في تلك المرحلة؛ بعيداً عن التصريحات الشخصية التي يستشهد بها أبو فخر. أما موقف الجبهة الشعبية وتصريحات أبرز قادتها السابق لهذا التاريخ، فأتفق معه على أنه امتداد للنقاشات والمداولات الحاصلة في المرحلة السابقة لإعلانها، وبالتحديد ضمن حركة القوميين العرب عموما، والتي يستحيل فصلها عن تاريخ الجبهة الشعبية.
في البحث عن الطوباوية
يجد صقر أبو فخر في عبارتي التي أوردتها في الرد الأساسي "نلحظ طوباوية حل الدولتين واستحالة تحقيقه اليوم وغداً، بل ومستقبلاً، حتى زوال حاجة المجتمع الدولي الإسرائيلي" طوباوية زائدة، بل ويقوّلني من خلالها ما لم أقله بتاتا، إذ يعتبر هذه الجملة دليلا على رسم المستقبل وفق أحلامي وأهوائي، كونه يفترض انتظاري فناء حاجة المجتمع الدولي لإسرائيل، ما يفضي إلى تعويلي على هذه اللحظة التاريخية الفارقة، من أجل تحقيق حل الدولتين! وهو ما يؤكد، مرة أخرى، بحثه عن أي جملةٍ ضمن مقالي، كي يستخدمها ذريعةً في مهاجمة ما كتبت، من دون التمعن بالمعنى والسياق والجملة كاملة.
لذا، أشرح هنا المشروح من الجملة التي أشار إليها أبو فخر، والتي تقوم على تأكيد حقيقة قد اعترف بها هو نفسه في معرض ردّه الأخير، وهي أن حل الدولتين ساقط ولا يمكن تحقيقه، وهو الواضح في الشطر الأول من الجملة، أي في "نلحظ طوباوية حل الدولتين واستحالة تحقيقه اليوم وغداً بل ومستقبلاً"، بينما التتمة لا تعبر عن تعلقٍ بأوهام حل الدولتين وإمكانية تحقيقه مستقبلا عند انتفاء حاجة المجتمع الدولي لإسرائيل، بل هي مجرّد تأكيدٍ على صعوبة إطلاق الأحكام المطلقة والمستقبلية بعيدة المدى، من دون إدراكٍ كاملٍ وشاملٍ لطبيعة العلاقات المستقبلية والقيم السائدة في حينه. لذا لن نعلم موقف المجتمع الدولي من الاحتلال الاستيطاني والاقتلاعي القائم في فلسطين اليوم، كما لن نعلم طبيعة القوى الصاعدة والقادرة على فرض التحول والتأثير على سير الأحداث في مستقبلٍ بعيد جد. لذا أفضل، وأعتقد أن حديث المستقبل يجب أن يكون دائما مفتوحا على تغيراتٍ وتحولاتٍ، يصعب سبرها وتحديدها منذ الآن بدقة، وهو السبب نفسه الذي دفعني إلى القول "إن النقاشات والخلافات حول برنامج التحرّر اليوم هي نظرة واعية نحو مستقبل (...) لا يمكن التنبؤ به"، إذ لا أقلل من دور هذه النقاشات والحوارات والنضالات في تحديد ملامح المستقبل، لكني أؤكد على استحالة الجزم بمآلاتنا المستقبلية منذ الآن، خصوصا في ظل حالة التخبط والاحتقان التي نعيشها اليوم فلسطينيا، وربما عالميا، واستحالة التنبؤ بالتغيرات العالمية مستقبلا.
لكن وكي يطلع صقر أبو فخر على موقفي الحاسم والجازم اليوم وغدا وفي المستقبل البعيد من
حل الدولتين، يمكنه العودة إلى المقال نفسه الذي استرشد منه جملةً تعبر عن موقفي الحقيقي من حل الدولتين، ومن البرنامج المرحلي كاملا، أو لأيٍّ من كتاباتي في الشأن الفلسطيني، والتي أحرص فيها على إيضاح رفضي المبدئي والكامل حل الدولتين، انطلاقا من تعدّيه على حقوقنا التاريخية، وغالبا ما أبرز رفضي البرنامج المرحلي الذي كان البوابة التي مر منها حل الدولتين، على الرغم من عدم إشارته الواضحة إلى ذلك، إلا أنه كان خطوةً مدروسةً ومؤقتةً تستهدف إزاحة البرنامج الوطني الأساسي، لصالح برنامجٍ فضفاض وإشكالي، يفتح الباب واسعا أمام قراءاتٍ عديدة ضمن سطوره وبينها.
البرنامج المرحلي وجدار أبو فخر
ينتقد صقر أبو فخر، أو بالأصح يدّعي عدم صحة ادعائي بأن البرنامج المرحلي قد طرح تساؤلاتٍ في حينه من طبيعة "إذا كنا قادرين على إرغام الاحتلال وداعميه على حل الدولتين، فِلمَ لا نُرغمه على حل الدولة الواحدة؟"، ويسترشد بذلك بالطيف الواسع من العلاقات والنقاشات التي شارك فيها، أو تم إطلاعه عليها، والدائرة كلها داخل سورٍ محكم من الجدران العالية التي يبدو أنها تنبذ الأصوات والقوى الرافضة للبرنامج المرحلي. طبعا أتفق معه باختصاره الأرضية الفكرية أو السياسية التي انطلق منها مؤيدو البرنامج المرحلي وداعموه، لكني أستهجن تناسيه طيفا واسعا، أو غير قليلٍ بالحد الأدنى من رافضي هذا المنطق الذي ثبت خطأه في الواقع اليوم، على الرغم من حديثه، في مقال سابق، تناول فيه تجربة الكتيبة الطلابية، عن وجود تيارات وشخصيات فتحاوية ترفض البرنامج المرحلي منذ اليوم الأول لإقراره، فضلا عن الجبهة الشعبية طبعا، ومجمل جبهة الرفض التي يكتفي باعتبار موقفها غير صحيح، من دون التطرق لطبيعة موقفها، كما يتجاهل شبانا وشابات عديدين، مناضلين ومقاتلين فقدو ثقتهم بحركة فتح تحديدا، في المرحلة التي تلت إقرار البرنامج المرحلي، والذين تصاعدت أعدادهم بكثرة ضمن "فتح"، ومجمل قوى حركة التحرّر الفلسطيني ما بعد خيبة بيروت. وقد عبر ويعبر جزء كبير منهم عن كيفية خداعهم من قيادات العمل الوطني، وفي مقدمتهم قيادة فتح ومنظمة التحرير، الذين أثبت التاريخ استغلالهم جميع تضحيات الحركة الوطنية، من أجل حرف المسار نحو قيام دولة فلسطينية على أي شبر كان، وبأي ثمن.
أتمنى من صقر أبو فخر الامتناع عن الخلط بين موقف القوى السياسية الرسمي عموما وموقف فصيل محدد، وبين الموقف الشعبي وموقف بعض النخب والمثقفين. وأدعوه إلى الخروج من حالة تقديس دور حركة فتح وقيادتها وتضخيمه في مجمل تاريخ الحركة الفلسطينية (من دون التقليل من أهميته وتأثيره الجماعي والفردي طبعا)، والذي يصل إلى درجة إهمال مجمل تناقضات "فتح" الداخلية وتقزيمها وتناسيها، وهي التي أسفرت عن انشقاقات وتكتلات عديدة، فضلاً عن تناسي دور مجمل الحركة الوطنية التي كانت تضم قوىً وتشكيلاتٍ تمتلك من الدعم والتأييد الشعبي ما يجعلها تنافس، وربما تتجاوز، شعبية "فتح" في بعض الأحيان أو الأماكن. ومن دون إهمال تأثير الظروف والنفوذ العربي في تحويل مسار الحركة الفلسطينية عموما، وفي دعم هذا التيار أو الاتجاه على حساب آخر. لذا وبعيداً عن الكلمات البراقة والجميلة من قبيل "ديمقراطية البادق" و"يا وحدنا" التي تحدث عنها القائد ياسر عرفات، نعلم جميعا مدى غياب الديمقراطية عن مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، وأن الدور الشعبي كان وما زال مجرد قوة ضغط تخشاه القيادة، وتحسب له ألف حساب، من دون أن يمتلك "الشعب الفلسطيني" الوسائل والأدوات التي تمكّنه من فرض رؤيته ومنظوره الذي يؤمن به، كما نعلم جيداً دور المال والقرار العربي في مسار النضال الفلسطيني وقواه السياسية، منفردين ومجتمعين، قبل تبوء ياسر عرفات قيادة المنظمة وبعده.
خاتمة
في ظل الحضيض الذي وصلنا إليه برعاية الفصائل والجسم السياسي الفلسطيني، آن الأوان لكي نكرس جهودنا وقدراتنا في إطار النقد الجدي والعلمي لكل التجربة الفلسطينية، نقد متحرّر من القيود الذاتية والموضوعية التي كبلتنا بها بعض الانتماءات السياسية، وربما الأيديولوجية شديدة الصلة بالماضيين، القريب والبعيد، من أجل شق طريقٍ جديدٍ يستمد قوته من شرعية الحق الفلسطيني، ومن إصرار الشعب على النضال المتواصل، حتى بلوغ أهدافه العادلة مهما طال الزمن، ومن القدرة على تجاوز الظروف الموضوعية، غير المواتية، والعمل على انتهاز فرص المستقبل المقبلة لا محالة. وهو ما نأمل بتحوله إلى أرضية تجمع غالبية المهتمين والمعنيين بإعلاء كلمة الحق، مهما كانت مشاربهم وخلفياتهم التاريخية.
يقدم صقر أبو فخر، في ختام مقاله "رد على تعقيبين... الدولة ثنائية القومية"، في "العربي الجديد" في 23/12/2018، افتراضات وتفسيرات مضللة حمّلها لنصي المنشور في "العربي الجديد" أيضا في 5/12/2018، "تعقيب على صقر أبو فخر.. الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة"، من دون أن يرفق مع اتهاماته الافتراضية أي فقرة أو جملة أو حتى كلمة قد تضمّنها مقالي المذكور. وهو ما أفقد النقد الذي صاغه فحواه، أي تحوّل إلى مجرد كلام متناغم وسلس ومترابط، يلقي عبره الاتهامات جزافا من دون دليل، ولا ينتمي بأي صلة إلى بديهيات النقاش. حيث يكتب صقر "يخلط الكاتبان الدولة الواحدة بالدولة الديمقراطية العَلمانية بلا تبصّر"، والمقصود بالكاتبين حيّان جابر وناجي الخطيب، من دون أي إشارةٍ إلى موضع الخلط، وبما يوحي بعدم قراءة ما كتبت في مقالي المقصود الذي انشغل، بكل وضوح من العنوان إلى الخاتمة، بالدولة الديمقرطية العلمانية الواحدة، وهو طرحٌ مختلف عن برنامج منظمة التحرير السابق وحركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومختلفٌ عن حل الدولة الواحدة أيضا القائم على الكونفدرالية أو ثنائية القومية، فأين الخلط، وأنا لم أشر، ولو بكلمةٍ، إلى تطابق الخيار الذي أتبنّاه مع أي من الطروحات السابقة، بل على العكس تماما، فقد حاولت إبراز نقاط الخلاف والتناقض بين الطرح الذي أتبناه وجميع هذه الطروحات عموما. وأدعو صقر أبو فخر، في هذه المناسبة، إلى الاطلاع على بعض ما كتبت في هذا الموضوع، في "العربي الجديد"، ومواقع إلكترونية أخرى؛ ويسعدني تزويده بها جميعا؛ كما يمكنه الاطلاع على وثيقة الحركة الشعبية لدولة فلسطين العلمانية الديمقراطية الواحدة التي تمثلني، والتي كان للمفكر والمناضل الراحل سلامة كيلة الدور الأكبر والأبرز في صياغتها وإطلاقها. ولذا أتفق مع أبو فخر على أن الطرح، أو البرنامج الذي أتحدث عنه، مختلف عن كل ما ذكرته سابقا، وأستهجن اتهامي، واتهام المقال بتضمينه خلطا معرفيا بين البرنامجين، أو ربما بين أكثر من طرح أيضا كما ادّعى!
ثم ينتقل، وبصيغة هجومية منمقة وجميلة، إلى استخدام قوانين الفيزياء القريبة إلى قلبي؛ نظراً لارتباطها بدراستي الأكاديمية التي أنهيتها منذ أكثر من عشرة أعوام؛ عن طريق خلطها
ولكن، تبقى التجربة العينية المختبر الأول والأخير لأي نظريةٍ أو قانونٍ جديدا كان أم قديما، وهي الإثبات الحقيقي لصحة الفرضية أو خطئها، وهو ما أتمنى على صقر أبو فخر اللجوء إليه، من أجل مراجعة الكلام الإنشائي الجميل الذي صاغه في نهاية المقال، فقد أثبتت التجربة وواقع الحال الفلسطيني خطأه، ولكن يبدو أنه ينطلق من قتاعاته الشخصية وقراءته الذاتية، من دون أي سند علمي، مستمد من تاريخ النضال الفلسطيني، أو من تحليل الواقع وتفكيكه ونقده، إذ يكتب "في عصر الحرب الباردة، كان الكفاح المسلح الوسيلة الفضلى لتحرير فلسطين. ثم صار التفاوض مع جرعاتٍ من العمل المسلح الوسيلة المفضلة في حقبة ما بعد الحرب الباردة... إلخ".
لا أعلم من أين استمد أبو فخر هذه الجرأة والثقة التي جعلته يصف كل محطات النضال الفلسطيني السابقة بعبارة "الوسيلة المفضلة"، متجاهلا ً الحضيض الذي نحن فيه، وخصوصا في وصف التفاوض وما تبعه من مراحل، أو على الأقل كنت أتمنى منه أن يشير، ولو على عجالةٍ، إلى الجهة أو العوامل التي جعلتها مفضّلة، فهل يقصد مفضلةً له، أم لحركة فتح مثلا، أم لمجمل القوى السياسية الفلسطينية، أم للنظام العربي وربما الدولي، أم لمن تحديدا. أعتقد، وانطلاقا من دروس الفيزياء التي يرغب الكاتب تزويدنا بها، أن الأجدى له ولنا ولمجمل المهتمين بالموضوع، محاكمة تاريخنا النضالي وفق نتائجه العملية، خطوة تلو خطوة ومرحلة تلو الأخرى، وهو ما يفترض دراسة (وتحديد) قوانا الذاتية والموضوعية أو الخارجية عموما، في كل مرحلة منها، وتبيان أسباب قصورها وتراجعها أو نموها وصعودها، وربط ذلك كله بالنتائج العملية الحاصلة، وفق الأسئلة البسيطة والمنطقية والبديهية، من قبيل تحديد مدى ابتعادنا عن استعادة حقوقنا الكاملة، ونجاحاتنا النضالية المبنية على قدرتنا في قيادة الصراع وفق قوانا الذاتية، التاريخية القانونية والكفاحية، ونجاحنا في توحيد قوانا الذاتية، ورصّ الصفوف الشعبية، وإسنادها بقوة دعم شعبية عالمية، وربما رسميةٍ، وفق كل مرحلة وكل ظرف، وبما يتضمن تفنيد أكاذيب كثيرة روجت لها قيادتنا التاريخية، ولا يتسع المجال الآن لذكرها جميعها.
وهذا يعيدنا إلى إصرار صقر أبو فخر على إعلان "حل الدولتين، وهو الأكثر واقعيةً يوم وُلدت تلك الفكرة، فقد صار اليوم غير واقعي، جرّاء التحولات الهائلة في العالم العربي"، متبعا ذلك الإعلان باستخدامه الخاص قانون "القصور الذاتي"، من أجل أن يعلن مجازاً وافتراضاً أن "حل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل بقوة وإصرار وعناد هو الذي يشقّق الكيان الإسرائيلي،
العلمانية بين مزيدات ومزايدات الكلام
لاحظ صقر أبو فخر وجود حرف ألف زائد عن اللزوم في نصّه الأول، ما حول الكلمة من مزيدات الكلام إلى مزايدات الكلام، وهو ما أحدث فرقا شاسعا وفقا له، لكنه غير كافٍ في الواقع، ففي كلا الحالتين يصر على الإيحاء بأن إضافة مصطلح العلمانية إلى برنامج الدولة الواحدة أمر ثانوي وعديم الأهمية، معتبراً أنها تشابه إضافة كلمة الدولي لوصف مجلس الأمن، أي أن وجودها من عدمه لا يقدّم أي إضافة تذكر على المعنى أو المفهوم، بينما يخطئ في سحب الموضوع على مصطلح العلمانية في موضوعنا الأساسي، كونها ذات مغزى ومعنى واضحين، يستحيل التعبير عنهما من دون هذه الإضافة، أو إضافة مشابهة إن أمكن، فالعلمانية في البرنامج المقترح تعبير تخصصي واضح المعنى والمغزى، ولا يستقيم الحديث من دونه عنها تحديداً. لأنه يحدّد طبيعة الدولة بوضوح، وهو ما أسرفت في شرحه في معرض ردي الأول. ولكن يبدو، وللأسف، أنه قد أهمل قراءته جيداً، واكتفى بالتشبث بالخلل التحريري الحاصل في مقاله الأساسي!، لذا، وباختصار، قد تكون الدولة الواحدة دينيةً إسلامية مسيحية أو يهودية، وقد تكون ثنائية القومية أو كونفدرالية، أو دولة دستورية وإلى ما هنالك من أشكال وأنظمة الدول التي أعتقد، كما يعتقد آخرون مثلي، أنها لا تقدّم جميعها حلا عادلا لقضيتنا، ولا تضمن لنا مستقبلا يقارب أحلامنا وتوقعاتنا التي نجدها في إطار الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة.
ومن ثم، وهو الأهم، عادة ما تكتسب المصطلحات قيمتها ومعناها ومضمونها من سياقها التاريخي الذي بات يفرض اليوم تحديد طبيعة الدولة العلمانية، كشكل من أشكال الرد على صعود ظاهرة الدين السياسي، أي تحويل الخطاب الديني، الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي، إلى جوهر العمل السياسي والقاعدة الرئيسية في بناء الأمم والدول، وهو ما نلحظ تناميه عالميا، وفي منطقتنا العربية، وداخل دوائر الاحتلال الإسرائيلي ومؤسساته. وبالتالي يستمد مصطلح العلمانية قوته وضرورته اليوم من رحم الواقع الذي نعيشه، وردا عليه في الوقت نفسه.
مراجع
أدين بالاعتذار من صقر أبو فخر، ومن "العربي الجديد"، ومن القراء والمتابعين، على الخطأ الساذج الذي ارتكبته في معرض ردّي الأول، حيث كتبت وعلى عجالة، تشرين الثاني من العام 1967 من دون تدقيق بتاريخ الإعلان عن تأسيس الجبهة الشعبية، وهو 11/12/1967، ما أوقعني بالخلط أيهما الشهر، وذلك لأن الفكرة الأساسية التي عملت على إيضاحها لأبو فخر لا تقوم على الدخول في مهاتراتٍ فصائليةٍ تنتمي إلى عصرٍ مضى، وتبحث عن الفصيل أو الحركة السباقة لتبني الدولة الواحدة. فكلا الحركتين ومجمل فصائل العمل الوطني قد أساءت إلى ماضيها وإرثها وشوهتهما، إلى درجةٍ يصعب التشدق ببياناتها ومواقفها السياسية التاريخية أمام الانحطاط والتردّي الذي تقبع فيه اليوم.
لكن، ونزولا عند طلبات صقر أبو فخر، يمكن العودة، من خلال الموقع الإلكتروني للجبهة
في البحث عن الطوباوية
يجد صقر أبو فخر في عبارتي التي أوردتها في الرد الأساسي "نلحظ طوباوية حل الدولتين واستحالة تحقيقه اليوم وغداً، بل ومستقبلاً، حتى زوال حاجة المجتمع الدولي الإسرائيلي" طوباوية زائدة، بل ويقوّلني من خلالها ما لم أقله بتاتا، إذ يعتبر هذه الجملة دليلا على رسم المستقبل وفق أحلامي وأهوائي، كونه يفترض انتظاري فناء حاجة المجتمع الدولي لإسرائيل، ما يفضي إلى تعويلي على هذه اللحظة التاريخية الفارقة، من أجل تحقيق حل الدولتين! وهو ما يؤكد، مرة أخرى، بحثه عن أي جملةٍ ضمن مقالي، كي يستخدمها ذريعةً في مهاجمة ما كتبت، من دون التمعن بالمعنى والسياق والجملة كاملة.
لذا، أشرح هنا المشروح من الجملة التي أشار إليها أبو فخر، والتي تقوم على تأكيد حقيقة قد اعترف بها هو نفسه في معرض ردّه الأخير، وهي أن حل الدولتين ساقط ولا يمكن تحقيقه، وهو الواضح في الشطر الأول من الجملة، أي في "نلحظ طوباوية حل الدولتين واستحالة تحقيقه اليوم وغداً بل ومستقبلاً"، بينما التتمة لا تعبر عن تعلقٍ بأوهام حل الدولتين وإمكانية تحقيقه مستقبلا عند انتفاء حاجة المجتمع الدولي لإسرائيل، بل هي مجرّد تأكيدٍ على صعوبة إطلاق الأحكام المطلقة والمستقبلية بعيدة المدى، من دون إدراكٍ كاملٍ وشاملٍ لطبيعة العلاقات المستقبلية والقيم السائدة في حينه. لذا لن نعلم موقف المجتمع الدولي من الاحتلال الاستيطاني والاقتلاعي القائم في فلسطين اليوم، كما لن نعلم طبيعة القوى الصاعدة والقادرة على فرض التحول والتأثير على سير الأحداث في مستقبلٍ بعيد جد. لذا أفضل، وأعتقد أن حديث المستقبل يجب أن يكون دائما مفتوحا على تغيراتٍ وتحولاتٍ، يصعب سبرها وتحديدها منذ الآن بدقة، وهو السبب نفسه الذي دفعني إلى القول "إن النقاشات والخلافات حول برنامج التحرّر اليوم هي نظرة واعية نحو مستقبل (...) لا يمكن التنبؤ به"، إذ لا أقلل من دور هذه النقاشات والحوارات والنضالات في تحديد ملامح المستقبل، لكني أؤكد على استحالة الجزم بمآلاتنا المستقبلية منذ الآن، خصوصا في ظل حالة التخبط والاحتقان التي نعيشها اليوم فلسطينيا، وربما عالميا، واستحالة التنبؤ بالتغيرات العالمية مستقبلا.
لكن وكي يطلع صقر أبو فخر على موقفي الحاسم والجازم اليوم وغدا وفي المستقبل البعيد من
البرنامج المرحلي وجدار أبو فخر
ينتقد صقر أبو فخر، أو بالأصح يدّعي عدم صحة ادعائي بأن البرنامج المرحلي قد طرح تساؤلاتٍ في حينه من طبيعة "إذا كنا قادرين على إرغام الاحتلال وداعميه على حل الدولتين، فِلمَ لا نُرغمه على حل الدولة الواحدة؟"، ويسترشد بذلك بالطيف الواسع من العلاقات والنقاشات التي شارك فيها، أو تم إطلاعه عليها، والدائرة كلها داخل سورٍ محكم من الجدران العالية التي يبدو أنها تنبذ الأصوات والقوى الرافضة للبرنامج المرحلي. طبعا أتفق معه باختصاره الأرضية الفكرية أو السياسية التي انطلق منها مؤيدو البرنامج المرحلي وداعموه، لكني أستهجن تناسيه طيفا واسعا، أو غير قليلٍ بالحد الأدنى من رافضي هذا المنطق الذي ثبت خطأه في الواقع اليوم، على الرغم من حديثه، في مقال سابق، تناول فيه تجربة الكتيبة الطلابية، عن وجود تيارات وشخصيات فتحاوية ترفض البرنامج المرحلي منذ اليوم الأول لإقراره، فضلا عن الجبهة الشعبية طبعا، ومجمل جبهة الرفض التي يكتفي باعتبار موقفها غير صحيح، من دون التطرق لطبيعة موقفها، كما يتجاهل شبانا وشابات عديدين، مناضلين ومقاتلين فقدو ثقتهم بحركة فتح تحديدا، في المرحلة التي تلت إقرار البرنامج المرحلي، والذين تصاعدت أعدادهم بكثرة ضمن "فتح"، ومجمل قوى حركة التحرّر الفلسطيني ما بعد خيبة بيروت. وقد عبر ويعبر جزء كبير منهم عن كيفية خداعهم من قيادات العمل الوطني، وفي مقدمتهم قيادة فتح ومنظمة التحرير، الذين أثبت التاريخ استغلالهم جميع تضحيات الحركة الوطنية، من أجل حرف المسار نحو قيام دولة فلسطينية على أي شبر كان، وبأي ثمن.
أتمنى من صقر أبو فخر الامتناع عن الخلط بين موقف القوى السياسية الرسمي عموما وموقف فصيل محدد، وبين الموقف الشعبي وموقف بعض النخب والمثقفين. وأدعوه إلى الخروج من حالة تقديس دور حركة فتح وقيادتها وتضخيمه في مجمل تاريخ الحركة الفلسطينية (من دون التقليل من أهميته وتأثيره الجماعي والفردي طبعا)، والذي يصل إلى درجة إهمال مجمل تناقضات "فتح" الداخلية وتقزيمها وتناسيها، وهي التي أسفرت عن انشقاقات وتكتلات عديدة، فضلاً عن تناسي دور مجمل الحركة الوطنية التي كانت تضم قوىً وتشكيلاتٍ تمتلك من الدعم والتأييد الشعبي ما يجعلها تنافس، وربما تتجاوز، شعبية "فتح" في بعض الأحيان أو الأماكن. ومن دون إهمال تأثير الظروف والنفوذ العربي في تحويل مسار الحركة الفلسطينية عموما، وفي دعم هذا التيار أو الاتجاه على حساب آخر. لذا وبعيداً عن الكلمات البراقة والجميلة من قبيل "ديمقراطية البادق" و"يا وحدنا" التي تحدث عنها القائد ياسر عرفات، نعلم جميعا مدى غياب الديمقراطية عن مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، وأن الدور الشعبي كان وما زال مجرد قوة ضغط تخشاه القيادة، وتحسب له ألف حساب، من دون أن يمتلك "الشعب الفلسطيني" الوسائل والأدوات التي تمكّنه من فرض رؤيته ومنظوره الذي يؤمن به، كما نعلم جيداً دور المال والقرار العربي في مسار النضال الفلسطيني وقواه السياسية، منفردين ومجتمعين، قبل تبوء ياسر عرفات قيادة المنظمة وبعده.
خاتمة
في ظل الحضيض الذي وصلنا إليه برعاية الفصائل والجسم السياسي الفلسطيني، آن الأوان لكي نكرس جهودنا وقدراتنا في إطار النقد الجدي والعلمي لكل التجربة الفلسطينية، نقد متحرّر من القيود الذاتية والموضوعية التي كبلتنا بها بعض الانتماءات السياسية، وربما الأيديولوجية شديدة الصلة بالماضيين، القريب والبعيد، من أجل شق طريقٍ جديدٍ يستمد قوته من شرعية الحق الفلسطيني، ومن إصرار الشعب على النضال المتواصل، حتى بلوغ أهدافه العادلة مهما طال الزمن، ومن القدرة على تجاوز الظروف الموضوعية، غير المواتية، والعمل على انتهاز فرص المستقبل المقبلة لا محالة. وهو ما نأمل بتحوله إلى أرضية تجمع غالبية المهتمين والمعنيين بإعلاء كلمة الحق، مهما كانت مشاربهم وخلفياتهم التاريخية.