24 أكتوبر 2024
هل انتهى اليسار في تونس؟
ظل اليسار، بفصائله الحزبية المختلفة، قوة نشيطة وفاعلة في المشهد السياسي التونسي، زمن الاستبداد وما بعد الثورة، من خلال حضوره الفاعل في قطاعات مختلفة (نقابية، طلابية، ثقافية)، وكانت الشعارات الاشتراكية والتقدمية التي يرفعها ذات تأثير وجاذبية في القطاعات الشبابية، بما جعله تيارا وازنا على الأقل في فترات مختلفة من التاريخ التونسي. غير أن حالة التراجع التي عرفها هذا التيار في السنوات الأخيرة تدعو إلى الحيرة، خصوصا أن حالة التدهور جاءت متسارعة بشكلٍ جعل سؤال المصير المتعلق بمستقبل اليسار في تونس أمرا مشروعا في نظر المراقبين للمشهد الحالي في تونس.
تكشف متابعة النتائج الانتخابية لقوى اليسار عن تراجع محير، خصوصا أن هذه القوى لم تكن جزءا من السلطة. وبالتالي لم تكن تحت ضغط الوعود الانتخابية، كما أنها تمتعت بفرصة غير مسبوقة لتقديم برامجها للناس، في ظل إخفاقات الائتلاف الحاكم الذي كان يقوده حزب نداء تونس، قبل أن ينشق عنه رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، ويؤسس كيانه الحزبي الخاص. وإذا كان من الممكن فهم التوجهات العقابية لدى الناخب التونسي في عدم تصويته لممثلي حزبي نداء تونس وتحيا تونس، وإلى حد ما حركة النهضة، من خلال فشل مرشحيها في الوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، فإن تهاوي نتائج مرشحي اليسار تدعو الى التساؤل.
بمقارنةٍ بسيطةٍ مع الدور الأول للانتخابات الرئاسية لسنة 2014، نجد أن مرشح الجبهة الشعبية (الائتلاف الحزبي لليسار)، حمّة الهمامي، قد حل ثالثا (بعد الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي)، ونال 255 ألفا و529 صوتا بنسبة تصل إلى 7.82% من المجموع العام للأصوات، وتصدّر النتائج في دائرة انتخابية واحدة (دائرة سليانة). وفي المقابل، حصل المرشح نفسه في الدور الأول للانتخابات الرئاسية 2019 على 23 ألفا و252 صوتا بنسبة لا تتجاوز 0.69% من المجموع العام للأصوات. ولا يجد هذا التراجع المذهل تفسيره في مشاركة أكثر من شخصية يسارية في الانتخابات الرئاسية، ذلك أن باقي مرشحي اليسار جاءت نتائجهم مخيبة للآمال، حيث حصل مرشح الوطنيين الديمقراطيين، المنجي الرحوي، على نسبة 0.81% من مجموع الأصوات، ونال مرشح حزب تونس إلى الأمام، عبيد البريكي، نسبة 0.17% من مجموع الأصوات. وهذا يعني أن تشتت الأصوات الناخبة لقوى اليسار لا تفسّر بدقة حالة التراجع الشامل الذي عرفه الحضور الجماهيري لقوى اليسار التونسي.
تكمن أزمة اليسار التونسي التي تجلّت في النتائج الانتخابية المخيبة للآمال في أزمةٍ شاملةٍ يعيشها هذا التيار على مستويي الخطاب والممارسة، فمن الناحية التواصلية عجز اليسار عن تقديم نفسه
بديلا لقوى اليمين الحاكمة، وظل يجترّ خطابا مؤدلجا مغرقا في المثالية، ومنفصلا عن الواقع، وعن التواصل مع الجيل الجديد الذي يشعر بالضيق من القوى الحزبية الكلاسيكية (وهو ما يفسر تصويته المكثف للمرشح المستقل قيس سعيد). ومن ناحية أخرى، تورّط اليسار التونسي في صراع الهوية، وظل يخوض نزاعاتٍ حول قضايا الميراث وطبيعة هوية المجتمع، مهملا الأساس الفعلي الذي تتغذّى عليه قوى اليسار الحقيقي، أعني المسألة الاجتماعية، والوقوف إلى جانب المهمّشين والمضطهدين اجتماعيا، والتصدّي لمخططات التفقير الاقتصادي ومنوال التنمية الفاشل الذي يعتمده النظام الحاكم في تونس.
لقد أضاع اليسار التونسي فرصة الاصطفاف إلى جانب الجماهير العريضة وتعبئتها من أجل مطالب اجتماعية واقتصادية عادلة، وتورّط في منطق ردود الأفعال، وأصبح يرسم خطوط التماس السياسية وفق عداواتٍ حزبيةٍ أو شعاراتٍ سياسية تتعمد تغييب الأساس الاجتماعي لأي صراع سياسي، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال أداء كتلة الجبهة الشعبية في البرلمان السابق التي عجزت عن التحوّل إلى صوت الفئات المقهورة.
يعود الانهيار الانتخابي لليسار التونسي أساسا الى السلوك السياسي لفصائله الحزبية المتكلّسة، وعودة اليسار إلى المشهد (وهي ضرورية لإيجاد التوازن مع اليمين) تقتضي عودة الأمور إلى نصابها، أي كيف يستعيد اليسار يساريته، ويظل وفيا للمضمون الاجتماعي الذي هو الأساس الذي ينبغي الانطلاق منه في قراءة التحولات السياسية، فالمطلوب هو التحام الأحزاب اليسارية مع قوى الشعب، لا أن تنحرف نحو ممارسة سياسوية متخلفة، تقوم على تحالفات مشبوهة، دفعتها إلى التحول إلى يسار انتهازي بالمعنى الماركسي للكلمة، وأفضى بها، في النهاية، إلى ما يشبه الاضمحلال.
بمقارنةٍ بسيطةٍ مع الدور الأول للانتخابات الرئاسية لسنة 2014، نجد أن مرشح الجبهة الشعبية (الائتلاف الحزبي لليسار)، حمّة الهمامي، قد حل ثالثا (بعد الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي)، ونال 255 ألفا و529 صوتا بنسبة تصل إلى 7.82% من المجموع العام للأصوات، وتصدّر النتائج في دائرة انتخابية واحدة (دائرة سليانة). وفي المقابل، حصل المرشح نفسه في الدور الأول للانتخابات الرئاسية 2019 على 23 ألفا و252 صوتا بنسبة لا تتجاوز 0.69% من المجموع العام للأصوات. ولا يجد هذا التراجع المذهل تفسيره في مشاركة أكثر من شخصية يسارية في الانتخابات الرئاسية، ذلك أن باقي مرشحي اليسار جاءت نتائجهم مخيبة للآمال، حيث حصل مرشح الوطنيين الديمقراطيين، المنجي الرحوي، على نسبة 0.81% من مجموع الأصوات، ونال مرشح حزب تونس إلى الأمام، عبيد البريكي، نسبة 0.17% من مجموع الأصوات. وهذا يعني أن تشتت الأصوات الناخبة لقوى اليسار لا تفسّر بدقة حالة التراجع الشامل الذي عرفه الحضور الجماهيري لقوى اليسار التونسي.
تكمن أزمة اليسار التونسي التي تجلّت في النتائج الانتخابية المخيبة للآمال في أزمةٍ شاملةٍ يعيشها هذا التيار على مستويي الخطاب والممارسة، فمن الناحية التواصلية عجز اليسار عن تقديم نفسه
لقد أضاع اليسار التونسي فرصة الاصطفاف إلى جانب الجماهير العريضة وتعبئتها من أجل مطالب اجتماعية واقتصادية عادلة، وتورّط في منطق ردود الأفعال، وأصبح يرسم خطوط التماس السياسية وفق عداواتٍ حزبيةٍ أو شعاراتٍ سياسية تتعمد تغييب الأساس الاجتماعي لأي صراع سياسي، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال أداء كتلة الجبهة الشعبية في البرلمان السابق التي عجزت عن التحوّل إلى صوت الفئات المقهورة.
يعود الانهيار الانتخابي لليسار التونسي أساسا الى السلوك السياسي لفصائله الحزبية المتكلّسة، وعودة اليسار إلى المشهد (وهي ضرورية لإيجاد التوازن مع اليمين) تقتضي عودة الأمور إلى نصابها، أي كيف يستعيد اليسار يساريته، ويظل وفيا للمضمون الاجتماعي الذي هو الأساس الذي ينبغي الانطلاق منه في قراءة التحولات السياسية، فالمطلوب هو التحام الأحزاب اليسارية مع قوى الشعب، لا أن تنحرف نحو ممارسة سياسوية متخلفة، تقوم على تحالفات مشبوهة، دفعتها إلى التحول إلى يسار انتهازي بالمعنى الماركسي للكلمة، وأفضى بها، في النهاية، إلى ما يشبه الاضمحلال.