04 نوفمبر 2024
في أنَّ الثورة السودانية وحيدةٌ
كرَّست مقالة الكاتب، محمود الريماوي، المُعنوَنة "فنزويلا أقرب من السودان!"، في صحيفة العربي الجديد (2/11/2019)، الآراء التي تقول إن الثورة السودانية تبدو وحيدةً، خصوصاً بعد مقارنته اهتمام كثيرين بالوضع في فنزويلا مع انعدام اهتمامهم، أو ربما قلّته، بما يجري في السودان. تختلف هنا الآراء، وربما تتناقض، بشأن سبب ذلك، وسبب قلَّة حماس الجماهير العربية، أو حتى النُّخب العربية لها. ربما يمكن إيعاز الأمر إلى سببٍ داخلي، هو مرور وقت طويل من دون تبلور حالة رفضٍ فاعلةٍ لسياسات الرئيس السوداني، وسببٍ موضوعي، هو ثقل تداعيات الثورات المضادة في مصر وغيرها، والانطباعات التي خلَّفتها لدى الناس.
ومع انزياح الخبر عن السودان، ليصبح ثالثاً أو رابعاً أو حتى أخيراً، في نشرات أخبار محطات تلفزة عربية كثيرة وغيرها، لا تقتصر قلَّة الاهتمام به على الدول أو الشعوب العربية، بل على دول الغرب التي يمكن أن يخرج فيها رأيٌ عام يساند نضال الشعب السوداني من أجل حقوقه، ووقف القمع الممارَس على أبنائه. ويزيد الاستغراب عندما يلاحظ المتابع أن المواقع الإلكترونية والصحف الإخبارية التي تنتمي لجماعاتٍ يساريةٍ تقتصر تغطياتها على الحوادث الجارية، من دون تحليلات أو دراسات، بينما تُوْقِف جلّ تحليلاتها على الأزمة في فنزويلا. وهي وسائل إعلامية، يبرز فيها اهتمامها الدائم بالقضية الفلسطينية، على سبيل المثال. فهل ينسحب هذا المزاج الذي يسود الدول العربية على الدول الأخرى، وخصوصاً دول الغرب؟
يحتاج هذا الأمر للمراقبة، وربما لتخصيص مراكز الأبحاث ندواتٍ لدراسة أسبابه.
اجتهد الكاتب الريماوي، من أجل إجلاء الحقيقة التي تقف وراء الاهتمام بموضوع فنزويلا في الدول العربية، وطغيانه على الاهتمام بالسودان؛ إذ عزاه إلى أسبابٍ عدة، منها الاستقطاب الدولي الذي أثاره الحادث في فنزويلا. كما أن هناك كثرة المغتربين من دول المشرق العربي، سورية ولبنان وفلسطين، في فنزويلا، فحجم الجالية العربية هناك شدَّ أبناء الوطن، لمعرفة أخبار أهلهم في فنزويلا. في حين أن هذا الأمر لا ينطبق على السودان الذي لا مغتربين على أرضه، ولم يكن مقصداً للسياحة أو العلاج، علاوة على محدودية تواصل الدول العربية معه، باستثناء مصر وليبيا. ولكن، ربما هنالك سبب في السودان، وفي الحالة الثورية المتبلورة فيه، يجعل بعضهم يحجم عن الاهتمام بثورته.
يسود لدى فئات من أبناء الدول العربية، بل وفئات أقل من أبناء الدول الغربية أيضاً، اعتقادٌ مفاده بأن سبب الدمار الذي ضرب الدول العربية، المنكوبة بالحروب المشتعلة، هو الثورات التي اندلعت فيها. ويكاد هذا الاعتقاد يتكرَّس؛ إذ تعمل دوائر الثورات المضادة وأجهزتها الإعلامية، وكذلك داعمو المُنقضِّين على تلك الثورات والانقلابيين على تعزيزه، لبث الخوف في نفوس الشعوب التي تحاول أن تنتفض على حكامها، أو تحتج على واقعها وسياسات حكوماتها. طبعاً، تنسى هذه الدوائر وأجهزتها الإعلامية أن سبب الدمار ليس تلك الثورات، بل هو القمع التي واجهت به أجهزة السلطة المحتجين، بدلاً من سماع أصواتهم وحل المشكلات التي خرجوا بسببها. كما يتناسون أن ما وصلت إليه الحال، في دولةٍ مثل اليمن، لم يكن الثورة التي اندلعت فيها، بل الثورة المضادة، ومن ثم الحرب التي شنتها عليها دول التحالف الذي تقوده السعودية، أيضاً.
وبالقياس إلى الأجواء التي سادت الدول العربية في أثناء ثورة 25 يناير في مصر، على سبيل المثال، مع الأجواء السائدة حالياً خلال ثورة الشعب السوداني، يلاحظ بوضوح حجم الفرق في التعاطي مع الثورتين. فخلال تلك الفترة، ساد التعاطف الجماهيري الواسع مع المحتجين من أبناء الشعب المصري. بل باتت مسألة خلع الرئيس الأسبق، حسني مبارك، قضية كل مواطنٍ عربيٍّ؛ إذ تبيّن أن استمراره سيكون بمثابة إيقاف عجلة التغيير التي بدأت في تونس، وبالتالي ستخنق آمال الشعب العربي الذي تأبَّد عليه حكّامه، وأدخلوه في دوائر الفقر والتجهيل والقمع المقيمين قيامة الحكام. أما الآن، فيبدو أن ذلك المزاج قد تغيَّر، وربما عادت الخشية إلى قلوب الشعوب، بعد أن تخلّصت منها على إثر ثورتي تونس ومصر.
مضت على اندلاع الثورة في السودان فترةٌ تزيد عن الشهر ونصف الشهر، أظهر خلالها
المحتجون من أبناء الشعب السوداني وعياً لافتاً لمهامهم الحالية، ولشكل الحكم الموعود، بعد انتصار ثورتهم ودخولهم المرحلة الانتقالية التي ستُرسي نظام العدالة الاجتماعية المأمول. كما أظهروا وعياً جيداً في تعاطيهم مع قوى السلطة، وفي تغييب الخطاب الثأري الذي قد يسبّب الفتنة. وفي إطار حراكهم، رصُّوا صفوفهم، وانصهروا في اتحاداتٍ تزيد لحمتهم، وتنسيق خطواتهم على مستوى البلاد، فغابت بذلك عقلية التفرُّد بالقرار الثوري وتوجيه التظاهرات، كما يزداد يومياً عدد الملتحقين بركب الحراك من كل أطياف المجتمع السوداني.
ومن اللافت مدى قدرة المنتفضين على الاعتماد على ذاتهم في إدارة الاحتجاجات وتوقيتها، وتوزيع المهام، علاوة على تخطيطهم للمرحلة المقبلة التي تلي تنحّي الرئيس عمر البشير. وهذا يجعلهم في منأىً عن الاستماع لرأي الخارج، وفي منأىً عن الدعم الخارجي الذي قد تقترح دولةٌ ما تقديمه لهم، لكيلا يقعوا في محاذير وقع فيها من عوَّلوا على الخارج في نصرة انتفاضتهم. فلا شك أنهم يعرفون ما يتطلبه منهم قبول دعمٍ من هذا القبيل، يكون أوله ارتهان قرارهم، وربما أشكال تكتيكهم وطبيعة ثورتهم، ثم شكل الحكم بعد انتصار الثورة.
قَدَّ أبناء الشعب السوداني ثورتهم التي أنضجت ظروف بلادهم الذاتية والموضوعية أسباب اندلاعها. وسرعان ما تضافرت مجموعة الشروط لتكوين الحالة الثورية التي تلقفتها النُّخب الواعية لضرورة التغيير ولوسائله، بغض النظر عن تجارب الآخرين. ولم يَعدم السودانيون كل السبل للوصول إلى تغيير سياسات النظام، ومنها الحوار معه، والذي طال أكثر من اللازم، ولم يُسفر عن أي حلولٍ أو حتى احتمالاتٍ للحلول. لذلك كان لا بد من الثورة على نظامٍ، استتبَّت له الأمور حتى بات لا يجد غضاضةً في إيصال البلاد إلى مرحلة فقدان رغيف الخبز، متكئاً على وهم أنه قابضٌ على مستقبلها، ضامن استمرار صمت أبنائها. من هنا، تستمر ثورتهم غير آبهةٍ إن بدت وحيدةً، أم شبّت يتيمةً، فهي ثورتهم الضرورية، تعاطف معها الآخرون أم لم يفعلوا، تحمَّسوا لها أم جزعوا.
اجتهد الكاتب الريماوي، من أجل إجلاء الحقيقة التي تقف وراء الاهتمام بموضوع فنزويلا في الدول العربية، وطغيانه على الاهتمام بالسودان؛ إذ عزاه إلى أسبابٍ عدة، منها الاستقطاب الدولي الذي أثاره الحادث في فنزويلا. كما أن هناك كثرة المغتربين من دول المشرق العربي، سورية ولبنان وفلسطين، في فنزويلا، فحجم الجالية العربية هناك شدَّ أبناء الوطن، لمعرفة أخبار أهلهم في فنزويلا. في حين أن هذا الأمر لا ينطبق على السودان الذي لا مغتربين على أرضه، ولم يكن مقصداً للسياحة أو العلاج، علاوة على محدودية تواصل الدول العربية معه، باستثناء مصر وليبيا. ولكن، ربما هنالك سبب في السودان، وفي الحالة الثورية المتبلورة فيه، يجعل بعضهم يحجم عن الاهتمام بثورته.
يسود لدى فئات من أبناء الدول العربية، بل وفئات أقل من أبناء الدول الغربية أيضاً، اعتقادٌ مفاده بأن سبب الدمار الذي ضرب الدول العربية، المنكوبة بالحروب المشتعلة، هو الثورات التي اندلعت فيها. ويكاد هذا الاعتقاد يتكرَّس؛ إذ تعمل دوائر الثورات المضادة وأجهزتها الإعلامية، وكذلك داعمو المُنقضِّين على تلك الثورات والانقلابيين على تعزيزه، لبث الخوف في نفوس الشعوب التي تحاول أن تنتفض على حكامها، أو تحتج على واقعها وسياسات حكوماتها. طبعاً، تنسى هذه الدوائر وأجهزتها الإعلامية أن سبب الدمار ليس تلك الثورات، بل هو القمع التي واجهت به أجهزة السلطة المحتجين، بدلاً من سماع أصواتهم وحل المشكلات التي خرجوا بسببها. كما يتناسون أن ما وصلت إليه الحال، في دولةٍ مثل اليمن، لم يكن الثورة التي اندلعت فيها، بل الثورة المضادة، ومن ثم الحرب التي شنتها عليها دول التحالف الذي تقوده السعودية، أيضاً.
وبالقياس إلى الأجواء التي سادت الدول العربية في أثناء ثورة 25 يناير في مصر، على سبيل المثال، مع الأجواء السائدة حالياً خلال ثورة الشعب السوداني، يلاحظ بوضوح حجم الفرق في التعاطي مع الثورتين. فخلال تلك الفترة، ساد التعاطف الجماهيري الواسع مع المحتجين من أبناء الشعب المصري. بل باتت مسألة خلع الرئيس الأسبق، حسني مبارك، قضية كل مواطنٍ عربيٍّ؛ إذ تبيّن أن استمراره سيكون بمثابة إيقاف عجلة التغيير التي بدأت في تونس، وبالتالي ستخنق آمال الشعب العربي الذي تأبَّد عليه حكّامه، وأدخلوه في دوائر الفقر والتجهيل والقمع المقيمين قيامة الحكام. أما الآن، فيبدو أن ذلك المزاج قد تغيَّر، وربما عادت الخشية إلى قلوب الشعوب، بعد أن تخلّصت منها على إثر ثورتي تونس ومصر.
مضت على اندلاع الثورة في السودان فترةٌ تزيد عن الشهر ونصف الشهر، أظهر خلالها
ومن اللافت مدى قدرة المنتفضين على الاعتماد على ذاتهم في إدارة الاحتجاجات وتوقيتها، وتوزيع المهام، علاوة على تخطيطهم للمرحلة المقبلة التي تلي تنحّي الرئيس عمر البشير. وهذا يجعلهم في منأىً عن الاستماع لرأي الخارج، وفي منأىً عن الدعم الخارجي الذي قد تقترح دولةٌ ما تقديمه لهم، لكيلا يقعوا في محاذير وقع فيها من عوَّلوا على الخارج في نصرة انتفاضتهم. فلا شك أنهم يعرفون ما يتطلبه منهم قبول دعمٍ من هذا القبيل، يكون أوله ارتهان قرارهم، وربما أشكال تكتيكهم وطبيعة ثورتهم، ثم شكل الحكم بعد انتصار الثورة.
قَدَّ أبناء الشعب السوداني ثورتهم التي أنضجت ظروف بلادهم الذاتية والموضوعية أسباب اندلاعها. وسرعان ما تضافرت مجموعة الشروط لتكوين الحالة الثورية التي تلقفتها النُّخب الواعية لضرورة التغيير ولوسائله، بغض النظر عن تجارب الآخرين. ولم يَعدم السودانيون كل السبل للوصول إلى تغيير سياسات النظام، ومنها الحوار معه، والذي طال أكثر من اللازم، ولم يُسفر عن أي حلولٍ أو حتى احتمالاتٍ للحلول. لذلك كان لا بد من الثورة على نظامٍ، استتبَّت له الأمور حتى بات لا يجد غضاضةً في إيصال البلاد إلى مرحلة فقدان رغيف الخبز، متكئاً على وهم أنه قابضٌ على مستقبلها، ضامن استمرار صمت أبنائها. من هنا، تستمر ثورتهم غير آبهةٍ إن بدت وحيدةً، أم شبّت يتيمةً، فهي ثورتهم الضرورية، تعاطف معها الآخرون أم لم يفعلوا، تحمَّسوا لها أم جزعوا.