11 سبتمبر 2024
بوتفليقة عندما يذهب إلى ولاية خامسة
لم يكن حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الحاكم في الجزائر، بحاجة إلى تنظيم تجمّع في إحدى القاعات الكبرى في ضواحي العاصمة الجزائرية، حشد له منتسبي الحزب من كل الولايات والمحافظات، بقصد مناشدة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الترشح لولاية خامسة، ذلك أن ترشح الرئيس نفسه، أو ترشيحه من "جهاز الدولة" لم يكن حدثا استثنائيا في بلد مثل الجزائر. يقول عنه بعضهم إنه لا حدث بالمرة، فالرئيس إذا ترشّح فاز، والأمور معروفةٌ لا جديد فيها ما دام العمل السياسي مغلقا في وجه المعارضة، بعد أن قام النظام نفسه بتشتيتها وبعثرة أوراقها، وابتذال العمل بها، حتى تخلو له الساحة وتستتب له الأمور.
من يعرف الرئيس بوتفليقة، أو من اقترب منه، أو من تابع عمله، منذ ترؤسه البلاد في 1999، يعرف يقيناً أنه لن يفارق سدة الحكم إلا بقدرة قادر، وغير ذلك مجرد أضغاث أحلام في بلد تجثو على قلبه سياسة الابتذال العام للسياسة، يمدّد من خلالها النظام لنفسه منذ 57 سنة، هي عمر استقلال الجزائر من فرنسا.
يعي النظام الحاكم الذي تأسس في عام 1962، من خلال تأسيس جمهورية يحكمها العسكر، أن الشرعية الثورية (نسبة إلى ثورة التحرير 1954- 1962) التي حكم باسمها مجاهدو ثورة التحرير، قد تآكلت بفعل الرداءة، وهرمت، وهرم الناس معها، وكبرت بعدها أجيال وأجيال لم تعد الثورة بالنسبة إليهم إلا ذكرى عزيزة، افتخر بها الجزائريون والعرب أمام شعوب العالم، ولكن قيمها السامية تحوّلت، بفعل تراكمات الرداءة، إلى ماضٍ، يتم التذكير به
في المناسبات والاحتفالات الرسمية، وتغيب عن الفعل اليومي وممارسة الحكم.
يعرف النظام، من خلال زبانيته ومخابراته، أن عموم الشعب الجزائري استقال من المشهد السياسي، ولم يعد يهمّه من يحكم. تجلى ذلك الغياب في الانتخابات التي لم تعد تُغري كثيرين بالمشاركة. في المدن والأحياء والبوادي والأرياف، تأسست جمهورية أخرى، هي جمهورية الدفع بالتي هي أحسن. وتعترف رسالة ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بذلك، وتتحدّث عن ضرورة تعزيز ثقة المواطنين في مؤسساتهم، تقول الرسالة (... يقتضي أيضًا أجوبة أكثر تكيُّفًا مع تطلُعات شبابنا، إذ ينأى أحيانًا أغلبهم بنفسه عن الـمشاركة في الحياة السياسية، بل ووصلَ الأمرُ بالبعض منهم بأن اختاروا الجنوح إلى محاولات اغتراب مفرطةٍ وانتحارية).
لا يريد الشعب تكرار التجربة الليبية، ولا السورية، ولا اليمنية، في تغيير النظام، فقد ذاق من كأسها الأمرّين في سنوات التسعينيات. فكيف السبيل، إذن، إلى العيش في بلدٍ تشبه العير، يقتلها الظمأ والماء فوق ظهرها محمول. بلد تصنفها المنظمات الدولية في أعلى مرتبات الفساد، وتتألق في طبع الأوراق النقدية (40 مليار دولار)، ليزداد الفساد تضخّما، وتتدنّى قيمة الدينار الجزائري إلى الحضيض الأسفل، لتنال أخلاق السياسة هي أيضا نصيبها من التدنّي والفساد، فلم يجد المؤتمرون في القاعة التي تمت فيها مناشدة الرئيس بوتفليقة لرئاسيات خامسة حرجا في الاحتفال بصورةٍ مرسومةٍ له، يزيّنها كادر مذهب، قدمت لها نيابة عن الرئيس الغائب، فروض الولاء والطاعة.
لا يجد عموم الناس إلا الغياب وسيلةً للتعبير عن الحضور، فهم من خلال عزوفهم عن المشهد السياسي الذي يصنعه النظام، وأجهزته، وأذرعه الحزبية، يمثّلون قوةً صامتة. يعتقد النظام أن الابتذال والتزلف وتدنّي القيم السياسية كلها وسائل مجديةً للحفاظ على نفسه. يدفع من أجل ذلك مليارات عديدة لشراء السلم الاجتماعي، يضيع نصفها في الطريق، بفعل الفساد وتدوير المصالح. يغيب عن النظام أن حالة التصحّر السياسي التي يزرعها في أرضه، قد لا تنتج على المدى البعيد إلا رياحا عقيمة وطواحين هواء.
أقر الرئيس بوتفليقة بمرضه، فهو لم يعد بالقوة البدنية نفسها التي كان عليها وفق قوله، ولكنه ومن خلال رسالة ترشّحه التي يبلغ عدد كلماتها 1725 كلمة رسم مشاريع سياسية، يريد إنجازها بعد موعد الرئاسيات في 18 إبريل/ نيسان 2019.
لا يهم الجدل عن مرض الرئيس وقدرته على كتابة هذا المشروع، فالأفكار متوفرة، يلتقطها الكتبة وهم كُثر، ولكن أهم سؤال هو في وعدٍ به، هل هو قابل للتحقيق، أم إنه قول اللحظة، والنشوة. واليوم خمر وغدا أمر، وفق قول امرئ القيس.
ينتبه القارئ في رسالة ترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى عدة نقاط. منها قوله العمل على تحسين الحكامة الراشدة، على مستوى هيئات الدّولة، كما على مستوى الإدارة، مرورًا بقطاع المؤسسات العمومية والخاصة، وتحقيق مزيد من التقدُّم في مختلف ميادين النمو الاقتصادي،
فضلاً عن التنمية الاجتماعية والتربوية والثقافية. ومشروع دعوة إلى عقد ندوة وطنية لتكريس تحقيق التوافق حول الإصلاحات والتحوّلات، والالتفاف حول توافق وطني وسياسي، يُمكن أن تقترح أيضًا إثراءً عميقا للدستور.
قام بوتفليقة بأول تعديل دستوري في عهده العام 2002، تلاه تعديل ثان سنة 2008، أهم ما فيه إلغاء حصر الولايات الرئاسية في ولايتين وفتحها. أما التعديل الدستوري لسنة 2016 فأعاد إغلاق الولايات الرئاسية وتحديدها بولايتين، مدة كل واحدة منها خمس سنوات.
يذكر الجزائريون خطب الرئيس بوتفليقة الطويلة والعديدة في بدايتي ولايتيه الأولى والثانية، كان يغدق على الجزائريين أنهارا من الوعود والأحلام، يومها، وكان في كامل صحته، كان يردد مثلا دارجا جزائريا "في الرأس مئة رقصة والرجلين ما قدروا". اليوم علت صحة الرئيس (شفاه الله) وتراجع أداؤه، ولم يعد يُسجَّلُ له حضور إلا من خلال بعض ثوانٍ من الصور تبثها التلفزة الرسمية على العامة بانتقاءٍ شديد. اليوم، وبهذه الحالة الصحية التي يعترف بها شخصيا في رسالته للترشّح لولاية أخرى، يَعِدُ الناس بمشاريع سياسية، وأخرى تنموية، لا يقدر على إنجازها إلا صحيح. أمضى الرئيس بوتفليقة عشرين سنة يخط الدستور ويمحي، ويَعِدُ بتعديلات أخرى وأخرى. في عقدين ما زالت في رأس الرئيس مشاريع، وأحلام، لعلها تتحقق في خمس سنوات مقبلة من عمر ولايته الخامسة، ولعلها تكون في السادسة، ما دام في العمر بقية، أطال الله في عمر الرئيس.
يعي النظام الحاكم الذي تأسس في عام 1962، من خلال تأسيس جمهورية يحكمها العسكر، أن الشرعية الثورية (نسبة إلى ثورة التحرير 1954- 1962) التي حكم باسمها مجاهدو ثورة التحرير، قد تآكلت بفعل الرداءة، وهرمت، وهرم الناس معها، وكبرت بعدها أجيال وأجيال لم تعد الثورة بالنسبة إليهم إلا ذكرى عزيزة، افتخر بها الجزائريون والعرب أمام شعوب العالم، ولكن قيمها السامية تحوّلت، بفعل تراكمات الرداءة، إلى ماضٍ، يتم التذكير به
يعرف النظام، من خلال زبانيته ومخابراته، أن عموم الشعب الجزائري استقال من المشهد السياسي، ولم يعد يهمّه من يحكم. تجلى ذلك الغياب في الانتخابات التي لم تعد تُغري كثيرين بالمشاركة. في المدن والأحياء والبوادي والأرياف، تأسست جمهورية أخرى، هي جمهورية الدفع بالتي هي أحسن. وتعترف رسالة ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بذلك، وتتحدّث عن ضرورة تعزيز ثقة المواطنين في مؤسساتهم، تقول الرسالة (... يقتضي أيضًا أجوبة أكثر تكيُّفًا مع تطلُعات شبابنا، إذ ينأى أحيانًا أغلبهم بنفسه عن الـمشاركة في الحياة السياسية، بل ووصلَ الأمرُ بالبعض منهم بأن اختاروا الجنوح إلى محاولات اغتراب مفرطةٍ وانتحارية).
لا يريد الشعب تكرار التجربة الليبية، ولا السورية، ولا اليمنية، في تغيير النظام، فقد ذاق من كأسها الأمرّين في سنوات التسعينيات. فكيف السبيل، إذن، إلى العيش في بلدٍ تشبه العير، يقتلها الظمأ والماء فوق ظهرها محمول. بلد تصنفها المنظمات الدولية في أعلى مرتبات الفساد، وتتألق في طبع الأوراق النقدية (40 مليار دولار)، ليزداد الفساد تضخّما، وتتدنّى قيمة الدينار الجزائري إلى الحضيض الأسفل، لتنال أخلاق السياسة هي أيضا نصيبها من التدنّي والفساد، فلم يجد المؤتمرون في القاعة التي تمت فيها مناشدة الرئيس بوتفليقة لرئاسيات خامسة حرجا في الاحتفال بصورةٍ مرسومةٍ له، يزيّنها كادر مذهب، قدمت لها نيابة عن الرئيس الغائب، فروض الولاء والطاعة.
لا يجد عموم الناس إلا الغياب وسيلةً للتعبير عن الحضور، فهم من خلال عزوفهم عن المشهد السياسي الذي يصنعه النظام، وأجهزته، وأذرعه الحزبية، يمثّلون قوةً صامتة. يعتقد النظام أن الابتذال والتزلف وتدنّي القيم السياسية كلها وسائل مجديةً للحفاظ على نفسه. يدفع من أجل ذلك مليارات عديدة لشراء السلم الاجتماعي، يضيع نصفها في الطريق، بفعل الفساد وتدوير المصالح. يغيب عن النظام أن حالة التصحّر السياسي التي يزرعها في أرضه، قد لا تنتج على المدى البعيد إلا رياحا عقيمة وطواحين هواء.
أقر الرئيس بوتفليقة بمرضه، فهو لم يعد بالقوة البدنية نفسها التي كان عليها وفق قوله، ولكنه ومن خلال رسالة ترشّحه التي يبلغ عدد كلماتها 1725 كلمة رسم مشاريع سياسية، يريد إنجازها بعد موعد الرئاسيات في 18 إبريل/ نيسان 2019.
لا يهم الجدل عن مرض الرئيس وقدرته على كتابة هذا المشروع، فالأفكار متوفرة، يلتقطها الكتبة وهم كُثر، ولكن أهم سؤال هو في وعدٍ به، هل هو قابل للتحقيق، أم إنه قول اللحظة، والنشوة. واليوم خمر وغدا أمر، وفق قول امرئ القيس.
ينتبه القارئ في رسالة ترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى عدة نقاط. منها قوله العمل على تحسين الحكامة الراشدة، على مستوى هيئات الدّولة، كما على مستوى الإدارة، مرورًا بقطاع المؤسسات العمومية والخاصة، وتحقيق مزيد من التقدُّم في مختلف ميادين النمو الاقتصادي،
قام بوتفليقة بأول تعديل دستوري في عهده العام 2002، تلاه تعديل ثان سنة 2008، أهم ما فيه إلغاء حصر الولايات الرئاسية في ولايتين وفتحها. أما التعديل الدستوري لسنة 2016 فأعاد إغلاق الولايات الرئاسية وتحديدها بولايتين، مدة كل واحدة منها خمس سنوات.
يذكر الجزائريون خطب الرئيس بوتفليقة الطويلة والعديدة في بدايتي ولايتيه الأولى والثانية، كان يغدق على الجزائريين أنهارا من الوعود والأحلام، يومها، وكان في كامل صحته، كان يردد مثلا دارجا جزائريا "في الرأس مئة رقصة والرجلين ما قدروا". اليوم علت صحة الرئيس (شفاه الله) وتراجع أداؤه، ولم يعد يُسجَّلُ له حضور إلا من خلال بعض ثوانٍ من الصور تبثها التلفزة الرسمية على العامة بانتقاءٍ شديد. اليوم، وبهذه الحالة الصحية التي يعترف بها شخصيا في رسالته للترشّح لولاية أخرى، يَعِدُ الناس بمشاريع سياسية، وأخرى تنموية، لا يقدر على إنجازها إلا صحيح. أمضى الرئيس بوتفليقة عشرين سنة يخط الدستور ويمحي، ويَعِدُ بتعديلات أخرى وأخرى. في عقدين ما زالت في رأس الرئيس مشاريع، وأحلام، لعلها تتحقق في خمس سنوات مقبلة من عمر ولايته الخامسة، ولعلها تكون في السادسة، ما دام في العمر بقية، أطال الله في عمر الرئيس.