21 أكتوبر 2024
"النهضة" التونسية والاستقالات.. حفريات ودلالات
لم يعد خافياً على العيان أن خلافاتٍ حادّة تشقّ حركة النهضة حاليا، وأنه لم يعد في وسع الحركة التي أفلحت في تهريب أسرارها زمن الملاحقات الأمنية الشرسة إنكار ذلك أو حجبه. تواترت في الأشهر القليلة الفارطة استقالاتٌ من الوزن الثقيل، لعل أحدثها استقالة الأمين العام زياد العذاري. وعلى خلاف من سبقوه، لم يلُذ العذاري هذه المرّة بالصمت، بل تنقّل عشية تقديم الاستقالة من قناة إعلامية إلى أخرى لشرح خلفية ذلك، وتقديم فيضٍ من المعلومات التي لم يطلبها منه الإعلام أصلا، وهو الذي كان يُعرض عن دعوته سابقا. تتالت تصريحات قياداتٍ من الصف الأول، خرجت عن تحفّظها المعهود، وأبدت مواقف متناقضة مع المواقف الرسمية للحركة، بل إنها لم تخل من اتهام هذه الهياكل وتجريح لها، فقد ذهب بعضُهم إلى اتهام "إخوته" بالفساد والمحاباة، وذلك في هتك أدبيات الاستقالة التي دأبت عليها قيادات الحركة المستقيلون. لم يستوعب أبناء "النهضة" هذا الأمر، بعد هذه التصريحات، واستقالة أمينهم العام، وهو الذي كان مغمورا قبل الثورة، ولم تعصره محن الاجتثاث الأمني التي لاحقت غيره، حتى شرّد أو قتل أو أذل، وهو الذي منحته "النهضة" كل هذا المجد. ومع ذلك، استقال من كل الهياكل القيادية، وصوّت ضد حكومة الحبيب الجملي في البرلمان، وقال فيه قولا غليظا في البرلمان يوم التصويت على منح الثقة له. على الرغم من ذلك كله، استفاقوا مجدّدا على استقالة قياديين شابّيْن ظلا يمسكان الجناح الطلابي والشبابي خلال السنوات الأخيرة، هشام العريض وزياد بو مخلة.
لهذه الاستقالات دلالة عميقة، وهي تأتي من جيل شابٍّ لم يتجاوز العقد الثالث من العمر. هذا
الجيل الذي لم تطحنه المحنة تلك بشكل مباشر، ولكنه ظل متشبثا بحبل المشيمة الذي ربطه بحركة آبائهم وعائلاتهم، فهشام العريض هو نجل الأمين العام الأسبق للحركة، علي العريض، ولكن هذا لم يثنه عن تقديم الاستقالة... يبدو أن شيئا ما يغلي كالمرجل داخل "النهضة" لم تعد صناديق التكتم التنظيمي قادرةً على لجمه.
تُعد هذه الاستقالات المتتالية والمتسارعة في الأشهر الأخيرة الأقسى على حركة النهضة التي اعتادت على امتصاص الهزّات الداخلية، وتذويبها حد التهميش أحيانا. حدثت استقالاتٌ مهمّة في أواخر السبعينيات، حين غادرها مبكّرا بعض من المؤسّسين الأوائل: أحميدة النيفر، صلاح الدين الجورشي، والشاب آنذاك زياد كريشان، وغيرهم، على خلفية تبرّمهم بضيق أفق الفكر الإخواني، وتصلّب هياكل الحركة، وقد شكلوا فيما بعد تيار اليسار الإسلامي (أحيانا ينعتون بالإسلاميين التقدّميين...). وكان توجه هؤلاء أقرب إلى مزيج أيديولوجي لأدبيات محمد عمارة وحسن حنفي، ومقولات اليسار العربي، على غرار طيب تيزيني وحسين مروة ومحمد عابد الجابري. ولكن الحركة ظلت بعدهم متماسكةً ملتفة حول الشيخ راشد الغنوشي، وثلة من القيادات الشابة التي تم تصعيدها تنظيميا، على غرار حمادي الجبالي وعلي العريض، وأسماء أخرى لا تقل أهمية، ولكنها غابت في زحام الأحداث. مرّت "النهضة" لاحقا بمحنة الاستئصال، خلال تسعينيات القرن الفارط، فهجر من هجر وسجن من سجن من القيادات التي حمّلها النظام وزر الصراع الطاحن والمفتوح بينهما. ومع ذلك، لم تنج الحركة، حتى وهي في المهجر من اختلافاتٍ حادّة، حين بادرت قياداتٌ إلى إعادة قراءة المرحلة، واستعادة المآلات وتقييمها، والوقوف على آثارها الرهيبة، خصوصا الثمن الإنساني الباهظ الذي دفعه مناضلوها. وهناك من قدّم قراءاتٍ تحمّل قيادة المرحلة آنذاك جزءا مهما من المسؤولية، إذ كانت القرارات، حسب تقديرهم، خاطئة. تم استبعاد بعضهم وتجميد آخرين، في حين أقدم قسم ثالث على تسوياتٍ شخصيةٍ، عاد بمقتضاها إلى تونس. ورأت قيادة الحركة في هذه المبادرات قبولا بشروط مذلّة ومهينة.
كانت تلك الموجة الثانية من الاستقالات تتم بصمت. ولعل مصطلح الانسحاب الذي شكّل أحد استراتيجيات التسمية لدى "النهضة" بليغ في نعته سلوك المستقيلين الذين يختارون الانسحاب من دون ضجيج، خصوصا وأن العدو يتربص بالجميع، علاوة على أن الإعلام لم يشهد بعد هذا الانفتاح، و"النهم على أخبار النهضة".
أنقذت الثورة الحركة من مآلات الانشقاقات والتفكك التي كادت أن تعصف بها، فتذهب ريحها. واستطاعت الحركة أن تصبح الرقم الأصعب في المشهد السياسي. وخلنا أن نشوة الانتصار والثأر من تاريخ ماكر قد التهم إلى الأبد تلك الخلافات.
تلوذ الأجسام الاجتماعية والسياسية، وهي تواجه المحن والاختبارات القاسية، بأشكال مختلفة من التضامن. ولذلك لم يكن غريبا على حركة النهضة أن تحتمي بسرديات الضحية، على صحتها،
حتى تصنع جلدة سميكة لا تنال منها النائبات. وكانت ثقافة الوحدة التي تغرسها الحركة، وهي التي تردّد في حلقات التنشئة، على مسامع أبنائها، قول الرسول عليه الصلاة والسلام "لا يأكل الذئب من الغنم إلا القاصية"، مواد بناء تلك اللحمة الصّماء، فضلا عما ربّت عليها أجيالها: الانضباط الحزبي المشبع بقيم الزهد والإيثار والنضال. كان مصطلح الجماعة المستعمل داخل أدبيات الحركة عميقا ومثمرا في ترسيخ فكرة وحدة الحركة وتجذيرها، وتبخيس كل الاستقالات، غير أن الحكم، بمحنه ومنحه، قد دفع الحركة إلى تجربةٍ مختلفة لم تخلُ من اختبارات عسيرة. لقد التقت فيها أجيال مختلفة ورؤى متباينة ومواقف متناقضة: روافد إخوانية عقائدية، براغماتية ذرائعية، مشروعيات متعدّدة موزعة بين مشروعية سجنية ومشروعية الكفاءة... إلخ.
بادرت الحركة، وهي تدير الحكم، أو تشارك فيه، إلى اتخاد قراراتٍ مهمة وخطيرة، منها: القبول بخريطة الطريق التي "فرضها" الرباعي للحوار الوطني سنة 2014، التوافق مع حزب نداء تونس، المصالحة مع رموز النظام السابق، التحالفات السياسية إبّان مختلف المحطات الانتخابية... وأججت ذلك بشكل تدريجي الاختلافات التي بدأت للرأي العام بارزةً إبّان المؤتمر السادس عشر الذي تحوّل شاشة عاكسة، على الرغم من غبشها، لتلك الصراعات. وكان بعضهم يعتقد، بعد أن انقضى المؤتمر "بسلام"، ومن دون إعلان انشقاق جناحٍ ما، أن قيادة الحركة ستنكبّ على حسم تلك الخلافات لاحقا من أجل تجنيب الحركة مزيدا من الصراعات، غير أن ذلك لم يحدث، وظلت الحركة تنهشها الخلافات والاستقالات. ولا يذكر المستقيلون من "النهضة" إلا لماما أسبابا لاستقالاتهم. ولكن الواضح أنهم لا يحتجّون هذه المرة على خيارات فكرية (فكر سلفي إخواني مثلا)، ولا على خيارات استراتيجية كبرى، ولكنهم، فيما ذكروا، يبدو أنهم يحتجّون على مواقف وقرارات ناجمة عن "افتقاد الحوكمة".
لم تسلَم حركة النهضة، مثل بقية الأحزاب التونسية الأخرى، من داء الاستقالات التي على الرغم من قسوتها على أي حركة، تظلّ، لدى من يحسن قراءتها، حاثة على تعميق الحوار الداخلي، وفرصة نادرة لتوسيع دائرة المشاركة في اتخاد القرار. لا تتيح الديمقراطية للمواطنين فقط التعبير عن آرائهم بحرية، بل تتيح أيضا لأعضاء الأحزاب التعبير عن أفكارهم ومواقفهم بكل حرية، بعيدا عن الوصاية والطاعة. لم يعد ممكنا أن تحرص الأحزاب على دمقرطة الحياة السياسية الوطنية، وهي لم تستند إلى الديمقراطية نفسها في بلورة توجهاتها وتسيير هياكلها. سيضع المؤتمر المقبل الحركة أمام مفترق طرقٍ، يرسم خياريْن لا ثالث لهما: وحدة الحركة مع اتخاذ إجراءاتٍ مؤلمة، يتوافق عليها الجميع أو الانقسام. لقد فعلها في تركيا أردوغان بنجم الدين أربكان. ولكن التاريخ لا ينسخ أحداثه، إنما يبتكرها في مجرى تدفقه وانسيابه في تضاريس محلية في المقام الأول. ومع ذلك، كل الاحتمالات واردة.
تُعد هذه الاستقالات المتتالية والمتسارعة في الأشهر الأخيرة الأقسى على حركة النهضة التي اعتادت على امتصاص الهزّات الداخلية، وتذويبها حد التهميش أحيانا. حدثت استقالاتٌ مهمّة في أواخر السبعينيات، حين غادرها مبكّرا بعض من المؤسّسين الأوائل: أحميدة النيفر، صلاح الدين الجورشي، والشاب آنذاك زياد كريشان، وغيرهم، على خلفية تبرّمهم بضيق أفق الفكر الإخواني، وتصلّب هياكل الحركة، وقد شكلوا فيما بعد تيار اليسار الإسلامي (أحيانا ينعتون بالإسلاميين التقدّميين...). وكان توجه هؤلاء أقرب إلى مزيج أيديولوجي لأدبيات محمد عمارة وحسن حنفي، ومقولات اليسار العربي، على غرار طيب تيزيني وحسين مروة ومحمد عابد الجابري. ولكن الحركة ظلت بعدهم متماسكةً ملتفة حول الشيخ راشد الغنوشي، وثلة من القيادات الشابة التي تم تصعيدها تنظيميا، على غرار حمادي الجبالي وعلي العريض، وأسماء أخرى لا تقل أهمية، ولكنها غابت في زحام الأحداث. مرّت "النهضة" لاحقا بمحنة الاستئصال، خلال تسعينيات القرن الفارط، فهجر من هجر وسجن من سجن من القيادات التي حمّلها النظام وزر الصراع الطاحن والمفتوح بينهما. ومع ذلك، لم تنج الحركة، حتى وهي في المهجر من اختلافاتٍ حادّة، حين بادرت قياداتٌ إلى إعادة قراءة المرحلة، واستعادة المآلات وتقييمها، والوقوف على آثارها الرهيبة، خصوصا الثمن الإنساني الباهظ الذي دفعه مناضلوها. وهناك من قدّم قراءاتٍ تحمّل قيادة المرحلة آنذاك جزءا مهما من المسؤولية، إذ كانت القرارات، حسب تقديرهم، خاطئة. تم استبعاد بعضهم وتجميد آخرين، في حين أقدم قسم ثالث على تسوياتٍ شخصيةٍ، عاد بمقتضاها إلى تونس. ورأت قيادة الحركة في هذه المبادرات قبولا بشروط مذلّة ومهينة.
كانت تلك الموجة الثانية من الاستقالات تتم بصمت. ولعل مصطلح الانسحاب الذي شكّل أحد استراتيجيات التسمية لدى "النهضة" بليغ في نعته سلوك المستقيلين الذين يختارون الانسحاب من دون ضجيج، خصوصا وأن العدو يتربص بالجميع، علاوة على أن الإعلام لم يشهد بعد هذا الانفتاح، و"النهم على أخبار النهضة".
أنقذت الثورة الحركة من مآلات الانشقاقات والتفكك التي كادت أن تعصف بها، فتذهب ريحها. واستطاعت الحركة أن تصبح الرقم الأصعب في المشهد السياسي. وخلنا أن نشوة الانتصار والثأر من تاريخ ماكر قد التهم إلى الأبد تلك الخلافات.
تلوذ الأجسام الاجتماعية والسياسية، وهي تواجه المحن والاختبارات القاسية، بأشكال مختلفة من التضامن. ولذلك لم يكن غريبا على حركة النهضة أن تحتمي بسرديات الضحية، على صحتها،
بادرت الحركة، وهي تدير الحكم، أو تشارك فيه، إلى اتخاد قراراتٍ مهمة وخطيرة، منها: القبول بخريطة الطريق التي "فرضها" الرباعي للحوار الوطني سنة 2014، التوافق مع حزب نداء تونس، المصالحة مع رموز النظام السابق، التحالفات السياسية إبّان مختلف المحطات الانتخابية... وأججت ذلك بشكل تدريجي الاختلافات التي بدأت للرأي العام بارزةً إبّان المؤتمر السادس عشر الذي تحوّل شاشة عاكسة، على الرغم من غبشها، لتلك الصراعات. وكان بعضهم يعتقد، بعد أن انقضى المؤتمر "بسلام"، ومن دون إعلان انشقاق جناحٍ ما، أن قيادة الحركة ستنكبّ على حسم تلك الخلافات لاحقا من أجل تجنيب الحركة مزيدا من الصراعات، غير أن ذلك لم يحدث، وظلت الحركة تنهشها الخلافات والاستقالات. ولا يذكر المستقيلون من "النهضة" إلا لماما أسبابا لاستقالاتهم. ولكن الواضح أنهم لا يحتجّون هذه المرة على خيارات فكرية (فكر سلفي إخواني مثلا)، ولا على خيارات استراتيجية كبرى، ولكنهم، فيما ذكروا، يبدو أنهم يحتجّون على مواقف وقرارات ناجمة عن "افتقاد الحوكمة".
لم تسلَم حركة النهضة، مثل بقية الأحزاب التونسية الأخرى، من داء الاستقالات التي على الرغم من قسوتها على أي حركة، تظلّ، لدى من يحسن قراءتها، حاثة على تعميق الحوار الداخلي، وفرصة نادرة لتوسيع دائرة المشاركة في اتخاد القرار. لا تتيح الديمقراطية للمواطنين فقط التعبير عن آرائهم بحرية، بل تتيح أيضا لأعضاء الأحزاب التعبير عن أفكارهم ومواقفهم بكل حرية، بعيدا عن الوصاية والطاعة. لم يعد ممكنا أن تحرص الأحزاب على دمقرطة الحياة السياسية الوطنية، وهي لم تستند إلى الديمقراطية نفسها في بلورة توجهاتها وتسيير هياكلها. سيضع المؤتمر المقبل الحركة أمام مفترق طرقٍ، يرسم خياريْن لا ثالث لهما: وحدة الحركة مع اتخاذ إجراءاتٍ مؤلمة، يتوافق عليها الجميع أو الانقسام. لقد فعلها في تركيا أردوغان بنجم الدين أربكان. ولكن التاريخ لا ينسخ أحداثه، إنما يبتكرها في مجرى تدفقه وانسيابه في تضاريس محلية في المقام الأول. ومع ذلك، كل الاحتمالات واردة.