28 أكتوبر 2024
سورية 2019.. مأزق الفاعلين الإقليميين والدوليين
بلغة الحسابات، كانت سنة 2019 كغيرها من سنوات الأزمة السورية، مليئة بالتطورات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وحصد فيها الفاعلون الإقليميون والدوليون أرباحاً بقدر ما تعرضوا لخسائر. وحدثت تطورات ما تزال مفاعيلها مستمرة، ولا يبدو أن آثارها ستنتهي في المدى القريب. وتبدو تركيا الدولة الأكثر استفادة خلال العام الماضي، إذ نجحت، بعد مخاض عسير، من إطلاق عملية عسكرية سيطرت من خلالها على أراضٍ ليست أهميتها في مساحتها فحسب، بل في أنها تشكل إسفيناً يقطع التواصل الجغرافي بين المناطق التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية (قسد) في الشرق والغرب، فقد نجحت العملية التركية في توجيه ضربة قاصمة إلى مشروع "الإدارة الذاتية" الكردية، وفتحت الباب واسعاً لتحويل الكيان العسكري الكردي القوي إلى فريسةٍ تنتشه الأطراف الأخرى، وبهذا انتقلت "الوحدات الكردية" من مرحلةٍ تميزت بفائض من القوة إلى مرحلة أخرى تتصف بفائضٍ من الضعف، غير أن هذا الانتصار العسكري رفع من سقف التحدّيات التي تواجهها تركيا في سورية، فالمسألة ليست مجرّد السيطرة على أراضٍ محدّدة، وإنما البقاء فيها إلى أجل ما، بما يسمح لأنقرة من استثمار النجاح العسكري على المستوى السياسي.
وبعبارة أخرى، كي تستمر تركيا في المحافظة على الإسفين الجغرافي، عليها أن تشرعن وجودهها في سورية، بما يتجاوز المسألة العسكرية، ويتطلب هذا الأمر تحويل منطقة "نبع السلام" إلى موطن للاجئين، وهي عملية لا تبدو سهلة. ولا تقف التحديات عند هذا الحد، حيث ترغب روسيا في حصر الهيمنة التركية على الحدود مع سورية فقط، وهذا ما فسّر سرعة التحرك الروسي في الحسكة والرقة وريف حلب الشمالي الشرقي، وفسّر العملية العسكرية في
إدلب. ومع أن اجتماع "أستانة 6" أقر بسيطرة النظام على الطريقين الدوليين في محافظة إدلب، إلا أن تسريع العملية العسكرية لا يمكن فصله عن التطوّرات التي حصلت في شرق الفرات. وفقاً لذلك، ستكون الحصة التركية في سورية محصورةً في المنطقة الحدودية فقط، وقد لا يبدو مستبعداً أن تصل المعارك في المحافظة، في مرحلة ما، إلى مدينتي سراقب وإدلب، وحصر الحضور التركي في الريف الشمالي للمحافظة، وهذا مأزقٌ جديدٌ لتركيا في هذه المنطقة. ولا تعني الخسارة التركية في إدلب استجابة لعملية التطويع الروسية، بقدر ما تعني قدرة اللاعب التركي على ترتيب أولوياته، وتحقيق أهدافه في بيئةٍ استراتيجيةٍ ليست آمنة ومتغيرة.
وتبدو روسيا المايسترو الأكثر فعاليةً في الساحة السورية، بما حققته من إنجازاتٍ على الأرض عام 2019، قال عنها قائد مجموعة القوات الروسية في سورية، الفريق ألكسندر تشايكو، "إن الإنجاز الأهم لقواتها العاملة خلال العام 2019 يتمثل في مساعدة الجيش السوري على بسط سيطرته على مناطق في شرق الفرات شمال البلاد". ولكن صناع القرار في الكرملين يدركون جيداً أن إنجازاتهم العسكرية قد تتآكل في أية لحظة، طالما أنهم غير قادرين على فرض رؤيتهم الاستراتيجية في سورية. ويكمن مأزق موسكو في أنها لا تستطيع تجاوز الأسد، فلا بديل لديها يمكن، من خلاله، تهديد الأخير ومنظومة حكمه، وهي تعي أن بنية النظام السوري لا تسمح باستبدال الأسد، وأي محاولة لذلك ستفشل، وقد تؤدي إلى انهيار النظام الحاكم بالكامل، ومن هنا فإن لضغوطها حدوداً معينة. وفي المقابل، لا تستطيع روسيا تجاوز الوجود الأميركي الذي يعرقل كل الاستراتيجية الروسية، بأبعادها العسكرية والسياسية والاقتصادية.
أمام هذا المأزق، تجد روسيا نفسها مضطرّة إلى فتح معارك عسكرية جانبية من جهة، وممارسة ضغوط بسيطة على النظام للمضي في العملية السياسية من جهة ثانية. ويسمح هذا السلوك بتمرير الوقت، لكنه لا يسمح باجتراح حلول للواقع القائم، ولا يمنحها الفعالية المطلوبة للالتقاء مع الأميركيين على حل في سورية. وعليه، فإن الليونة السياسية التي تحاول روسيا إظهارها لا تفي بالغرض، ولا تسمح للمجتمع الدولي الانخراط في عملية إعادة الإعمار، وتخفيف العقوبات الاقتصادية وإعادة اللاجئين.
وباختصار، فيما يبدو أن روسيا تتحكّم بالمجال الاستراتيجي التداولي في سورية، فإن الحقيقة أنها تنجرّ إلى استراتيجية النظام التي تركز على العمليات العسكرية، وتستبعد العمليات السياسية. وعمليات روسيا العسكرية وتثبيت حضورها الاقتصادي ليسا سوى محاولة للتعويض عن فشلها الاستراتيجي.
إيرانياً، كان 2019 العام الأكثر صعوبة لإيران في سورية، وقد انعكس ذلك بشكل مباشر في
سلوكها وخطابها السياسي المنكفئ إلى حد كبير. ومع أنها تدرك أن دمشق ما تزال بحاجة إليها، ولا تستطيع الاستغناء عنها، ليس عسكرياً فحسب، بل اقتصادياً أيضاً، إلا أن أصحاب العمائم في طهران يعلمون جيداً أن نفوذهم الاستراتيجي تراجع في الساحة السورية. إذ تسعى إيران إلى الحفاظ على نفوذها في سورية، بعدما تمكّنت روسيا من السيطرة على الاقتصاد السوري وموارده الأساسية (النفط، الغاز) التي بيعت حقوق تطويرها لشركات روسية، فضلاً عن ميناء طرطوس الذي أصبح تحت العباءة الروسية. وقد تحوّلت إيران إلى عبء على روسيا والنظام، لا بسبب وجودها في سورية، وإنما بسبب استراتيجيتها فيها، وهذا ما يفسّر حالة الانكفاء على الصعيد الاستراتيجي. وبسبب الضغوط الروسية ـ الأميركية ـ الإسرائيلية، قرّرت إيران في عام 2019 تغيير سلوكها، فابتعدت، قدر الإمكان، عن العملية السياسية، بقدر ما ابتعدت العمليات العسكرية في الشمال السوري، بيد أن هذا الابتعاد صاحبته خطواتٌ مهمة على الأرض، من أجل تعزيز نفوذها على المدى البعيد: اختراقات عشائرية في دير الزور وحلب، مصحوبة بدعم عملية التشييع وتوسيعها، الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسط غير الملفتة للانتباه، ناهيك عن تمتين أواصر علاقتها في المؤسستين العسكرية والأمنية، وهكذا أصبح التغلغل الاجتماعي ـ الاقتصادي سلوكاً مركزياً في سياسة إيران السورية.
ويمكن الاستنتاج من التطورات السابقة أن الحضور العسكري الإيراني على مستوى العديد البشري سيتضاءل في المرحلة المقبلة، فإيران مضطرّة للاستمرار، على الرغم من ضائقتها الاقتصادية، في تقديم الدعم المالي لدمشق للإبقاء على حضورها الفاعل، ولما كانت بنيتها الاقتصادية لا تسمح بذلك، فإنها مضطرّة إلى تقليص العديد البشري الشيعي من العراق وباكستان وربما من لبنان. ومع مرور الوقت، سيتراجع الدور الإيراني على المستويين، العسكري والسياسي، ليبقى محصوراً في البعد الاقتصادي، وهو بعدٌ ذو أهمية كبيرة، لأنه يسمح للنظام بالبقاء، ويسمح لإيران بإبقاء حضورها الفاعل.
لم تعد الساحة السورية ساحة قتال إيرانية بالمعنى الاستراتيجي، إلا فيما يخص بعض التفاصيل
السورية، وليس انتقال التوتر الإيراني ـ الأميركي إلى الساحة العراقية إلا دليلاً على ضعفها في الساحة السورية. ومع ذلك، تبقى الورقة الإيرانية بالنسبة للنظام ورقة ما فوق استراتيجية، وهي، وإن تراجعت الآن، قد تبدو أكثر أهميةً في اللحظة التي تصل فيها الضغوط الدولية على النظام السوري إلى مستوى عال، بمعنى أن إيران هي الطرف الأكثر قدرةً على التخريب، وعلى مساعدة النظام في عدم تقديم أية تنازلات سياسية. وبالتالي سيكون عام 2020 بالنسبة لإيران في سورية عام الهدوء النسبي، بانتظار حدوث تغيراتٍ مفاجئةٍ تعيد خلط الأوراق.
وبشأن الولايات المتحدة، بلغة الحسابات أيضاً، تبدو الأكثر استفادة ونجاحاً، فمقارنةً بوجودها العسكري القليل، لديها القدرة الأكثر تأثيراً في الساحة السورية على المستويات كافة (العسكرية، السياسية، الاقتصادية). إنها سمة الدولة العظمى القادرة على إحداث التغيير بإمكانات قليلة، وفرض أجندتها وتغيير مخطّطاتها. لقد قامت الإدارة الأميركية بانسحابها من محافظة الرّقة وريف حلب الشمالي الشرقي، وتمرير قانون قيصر، بتوجيه ضربة قوية لموسكو وطهران ودمشق، وإن بدا الأمر غير ذلك في الظاهر.
وتبدو روسيا المايسترو الأكثر فعاليةً في الساحة السورية، بما حققته من إنجازاتٍ على الأرض عام 2019، قال عنها قائد مجموعة القوات الروسية في سورية، الفريق ألكسندر تشايكو، "إن الإنجاز الأهم لقواتها العاملة خلال العام 2019 يتمثل في مساعدة الجيش السوري على بسط سيطرته على مناطق في شرق الفرات شمال البلاد". ولكن صناع القرار في الكرملين يدركون جيداً أن إنجازاتهم العسكرية قد تتآكل في أية لحظة، طالما أنهم غير قادرين على فرض رؤيتهم الاستراتيجية في سورية. ويكمن مأزق موسكو في أنها لا تستطيع تجاوز الأسد، فلا بديل لديها يمكن، من خلاله، تهديد الأخير ومنظومة حكمه، وهي تعي أن بنية النظام السوري لا تسمح باستبدال الأسد، وأي محاولة لذلك ستفشل، وقد تؤدي إلى انهيار النظام الحاكم بالكامل، ومن هنا فإن لضغوطها حدوداً معينة. وفي المقابل، لا تستطيع روسيا تجاوز الوجود الأميركي الذي يعرقل كل الاستراتيجية الروسية، بأبعادها العسكرية والسياسية والاقتصادية.
أمام هذا المأزق، تجد روسيا نفسها مضطرّة إلى فتح معارك عسكرية جانبية من جهة، وممارسة ضغوط بسيطة على النظام للمضي في العملية السياسية من جهة ثانية. ويسمح هذا السلوك بتمرير الوقت، لكنه لا يسمح باجتراح حلول للواقع القائم، ولا يمنحها الفعالية المطلوبة للالتقاء مع الأميركيين على حل في سورية. وعليه، فإن الليونة السياسية التي تحاول روسيا إظهارها لا تفي بالغرض، ولا تسمح للمجتمع الدولي الانخراط في عملية إعادة الإعمار، وتخفيف العقوبات الاقتصادية وإعادة اللاجئين.
وباختصار، فيما يبدو أن روسيا تتحكّم بالمجال الاستراتيجي التداولي في سورية، فإن الحقيقة أنها تنجرّ إلى استراتيجية النظام التي تركز على العمليات العسكرية، وتستبعد العمليات السياسية. وعمليات روسيا العسكرية وتثبيت حضورها الاقتصادي ليسا سوى محاولة للتعويض عن فشلها الاستراتيجي.
إيرانياً، كان 2019 العام الأكثر صعوبة لإيران في سورية، وقد انعكس ذلك بشكل مباشر في
ويمكن الاستنتاج من التطورات السابقة أن الحضور العسكري الإيراني على مستوى العديد البشري سيتضاءل في المرحلة المقبلة، فإيران مضطرّة للاستمرار، على الرغم من ضائقتها الاقتصادية، في تقديم الدعم المالي لدمشق للإبقاء على حضورها الفاعل، ولما كانت بنيتها الاقتصادية لا تسمح بذلك، فإنها مضطرّة إلى تقليص العديد البشري الشيعي من العراق وباكستان وربما من لبنان. ومع مرور الوقت، سيتراجع الدور الإيراني على المستويين، العسكري والسياسي، ليبقى محصوراً في البعد الاقتصادي، وهو بعدٌ ذو أهمية كبيرة، لأنه يسمح للنظام بالبقاء، ويسمح لإيران بإبقاء حضورها الفاعل.
لم تعد الساحة السورية ساحة قتال إيرانية بالمعنى الاستراتيجي، إلا فيما يخص بعض التفاصيل
وبشأن الولايات المتحدة، بلغة الحسابات أيضاً، تبدو الأكثر استفادة ونجاحاً، فمقارنةً بوجودها العسكري القليل، لديها القدرة الأكثر تأثيراً في الساحة السورية على المستويات كافة (العسكرية، السياسية، الاقتصادية). إنها سمة الدولة العظمى القادرة على إحداث التغيير بإمكانات قليلة، وفرض أجندتها وتغيير مخطّطاتها. لقد قامت الإدارة الأميركية بانسحابها من محافظة الرّقة وريف حلب الشمالي الشرقي، وتمرير قانون قيصر، بتوجيه ضربة قوية لموسكو وطهران ودمشق، وإن بدا الأمر غير ذلك في الظاهر.