تصاعد الدور التركي في ليبيا: الأسباب والخلفيات وردات الفعل
أسباب الاهتمام التركي بليبيا
تركّزت اهتمامات تركيا في ليبيا، قبيل اندلاع ثورة شباط/ فبراير 2011، على تعزيز مصالحها الاقتصادية؛ إذ فازت تركيا بنصيبٍ كبير من عقود البناء عام 2010، وضخّ المستثمرون الأتراك مليارات الدولارات في قطاع البناء، وشاركت شركات الأعمال التركية في نحو 304 عقود تجارية في البلاد. ونظرًا إلى مصالحها الاقتصادية الكبيرة في ليبيا، عارضت تركيا أول الأمر التدخّل العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ضدّ نظام العقيد معمر القذافي، لكنها ما لبثت أن غيّرت موقفها وساندت الثورة الليبية، ثم مرّت سياستها بعد ذلك بعدة مراحل، وهي:
الأولى: استمرت حتى عام 2014، وحاولت خلالها تركيا استعادة علاقتها الاقتصادية مع ليبيا
من بوابة دعم الاستقرار، وإنشاء حكومةٍ مركزيةٍ تُنهي الفوضى. فقد أدّت الفوضى التي أعقبت سقوط نظام القذافي، وانزلاق البلاد نحو حربٍ أهلية، إلى إلحاق ضرر بالغ بالمصالح التركية؛ فلتركيا ما يقرب من 15 مليار دولار من الالتزامات التعاقدية غير المدفوعة في ليبيا. ولكنّ انفراط عقد الدولة، وتفاقم الظاهرة المليشياوية والفصائلية، وتنامي التدخلات الخارجية في ليبيا، خصوصًا بعد نجاح الانقلاب العسكري في مصر في عام 2013، وتحوّل ليبيا إلى ساحة صراع إقليمي، تجلّت بإطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر عملية عسكرية، انطلاقًا من شرق ليبيا، للسيطرة على البلاد، مطلع عام 2014، دفع ذلك كله تركيا إلى دعم الفصائل العسكرية المعارضة له. واستضافت تركيا على أراضيها مؤسسات إعلامية وشخصيات سياسية معارضة لمشروع حفتر.
الثانية: دعمت تركيا الاتفاق السياسي الليبي الذي وُقِّع في مدينة الصخيرات المغربية، برعاية أممية، في كانون الأول/ ديسمبر 2015، وجاء بحكومة الوفاق الوطني. ولكنّ الدول الحليفة لحفتر كثّفت دعمها له ضدّ حكومة الوفاق، إلى مستوى إعلان الحرب لاحتلال طرابلس. ومن ناحية أخرى، لم تتمكّن حكومة الوفاق من إنهاء الظاهرة الفصائلية، ما دفع دولا غربية إضافية إلى الرهان على حفتر، لتحقيق بناء جيش ودولة في ليبيا، فتنامى الدور العسكري التركي الداعم لهذه الحكومة، باعتبارها الحكومة الشرعية المُعترف بها دوليًا، خصوصًا بعد الهجوم الذي شنّه حفتر على العاصمة في نيسان/ أبريل 2019. وأبلغ الرئيس التركي رجب طيب أروغان رئيس حكومة الوفاق، فايز السرّاج، باستعداد أنقرة لتقديم جميع أنواع المساعدة له، لإحباط ما سمّاها "المؤامرة على الشعب الليبي".
بناءً عليه، بدأ الدعم العسكري التركي يأخذ طابعًا علنيًا، بعد أن كان محدودًا في بداية المعارك، حيث أُرسلت عرباتٍ عسكريةٍ إلى حكومة الوفاق الوطني. وفي 19 حزيران/ يونيو الماضي، أعلن أردوغان أنّ بلاده توفّر أسلحة لحكومة الوفاق بموجب "اتفاق تعاون عسكري"، ولم يحدّد آنذاك طبيعة هذا الاتفاق والتعاون. وأضاف إنّ دعم أنقرة العسكري سمح لطرابلس بـ "استعادة التوازن" في ليبيا، في مواجهة قوات حفتر المدعومة من الإمارات ومصر. وقد نقل هذا الأمر تركيا إلى مرحلة المواجهة المباشرة مع حفتر وحلفائه في المنطقة، حيث وصف الناطق باسم قوات حفتر، اللواء أحمد المسماري، الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق بـ "الغزو التركي". وشدّد على ضرورة التصدّي لتركيا، من خلال استهداف القوارب والسفن التركية داخل المياه الإقليمية، وكذلك التصدّي للقوات البرية. في المقابل، هدّد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، قوات حفتر في حال قيامها بأي عمل عدائي أو هجوم على المصالح التركية.
الثالثة: وقّعت الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطني، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، مذكّرة تفاهم بشأن السيادة على المناطق البحرية في البحر الأبيض المتوسط، حيث تشهد منطقة شرق المتوسط خلافاتٍ بين دولها بشأن ترسيم الحدود البحرية، بعد أن أثبتت المسوحات الجيولوجية وجود مخزون هائل من النفط والغاز القابل للاستخراج فنيًا، ما بيّن أنّ هدف تركيا من المذكّرة يتجاوز الأوضاع في ليبيا إلى مسألة الوجود في المتوسط.
كما وقعت تركيا وليبيا مذكّرة للتعاون الأمني، شملت التدريب العسكري، ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير النظامية، واللوجستيات، والخرائط، والتخطيط العسكري، ونقل الخبرات. وما أن تقدّمت حكومة الوفاق بطلب رسمي للحصول على دعم عسكري تركي جوي وبحري وبرّي، جاء الرد التركي سريعًا عندما أكّد الرئيس أروغان أنّ بلاده سترسل قوات إلى ليبيا، بناءً على طلب منها، بعد موافقة البرلمان التركي.
المواقف الإقليمية والدولية
نشطت الدبلوماسية التركية في دول الجوار الجغرافي لليبيا، بهدف توضيح طبيعة الدور التركي
وملامحه في ليبيا. وأجرى وزير الخارجية، مولود تشاويش أوغلو، زيارة إلى الجزائر في 9 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والتقى خلالها نظيره الجزائري، واتفقا على الدعوة إلى الحل السياسي للأزمة الليبية. ولكنّ الجزائر عادت لتؤكد على دورها الخاص في ليبيا، بعد تنامي الحديث عن إرسال قوات عسكرية تركية إليها، حيث عقد مجلس الأمن الوطني الجزائري اجتماعًا في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2019، قرّر فيه اتخاذ إجراءاتٍ أمنية "احترازية" لحماية الحدود المشتركة مع ليبيا، وتنشيط دور الجزائر في ما يتعلّق بملفَي ليبيا ومالي.
وفي تونس، قام الرئيس التركي بزيارة قصيرة هناك، استحوذ الصراع في ليبيا على أجوائها، حيث أعلن عن إقامة تعاون بين البلدين لتقديم الدعم السياسي للحكومة الشرعية في ليبيا، وهو ما تم تأويله من أحزاب تونسية (التيار الشعبي، الدستوري الحر، حركة مشروع تونس)، على أنه موافقة تونسية على التدخّل العسكري التركي؛ ما دعا الرئاسة التونسية إلى إصدار بيانٍ نفت فيه دخولها في أي تحالف أو اصطفاف.
أما القاهرة، حليف حفتر الرئيس في الإقليم، إلى جانب الإمارات، فقد رفضت التدخّل التركي. ووصف الرئيس عبد الفتاح السيسي حكومة الوفاق بأنها "أسيرة المليشيات المسلحة"، وأضاف: "كان الأولى بنا أن نتدخّل بشكل مباشر في ليبيا، ولدينا القدرة، لكننا لم نفعل ذلك ... والبعض قال لنا أننا نعرّض أمننا القومي للخطر".
أما دوليًا، فقد ظلّ الموقف الأميركي على عدم وضوحه من الصراع الدائر في ليبيا، بسبب غياب استراتيجيةٍ واضحةٍ للولايات المتحدة الأميركية في هذا الملف. وقد اقتصر الاهتمام الأميركي بليبيا، خلال المرحلة الماضية، على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وضمان استمرار تدفق النفط إلى الأسواق العالمية. وقد صدر بيان عن البيت الأبيض، بعد اتصال هاتفي بين الرئيسين دونالد ترامب وعبد الفتاح السيسي، أكّدا فيه رفض التدخلات الخارجية في ليبيا، وضرورة اتخاذ الأطراف الليبية خطواتٍ نحو حل النزاع.
أما الاتحاد الأوروبي، فقد تحفّظ على الاتفاقية الموقّعة بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني، وطالب بمزيد من الإيضاحات حولها، كما عارض التدخّل العسكري التركي، ولكنه لا يملك قدرةً فعليةً.
على التأثير في مسار الأزمة الليبية، نتيجة التنافس الفرنسي - الإيطالي الذي حدَّ من قدرة مؤسسات الاتحاد على انتهاج مقاربة أوروبية مشتركة تجاه ليبيا. وقد اقتصر دور مؤسسات الاتحاد على تقديم الدعم المالي والفني المحدود نسبيًا لحكومة الوفاق، والتعاطي مع الأزمة باعتبارها تشكّل تهديدًا أمنيًا من بوابة الهجرة غير النظامية. وقد دفعت المخاوف من انزلاق الأمور نحو صراعٍ أوسع قادة دول الاتحاد إلى إنشاء بعثة أوروبية، يرأسها وزير خارجية الاتحاد، جوزيف بوريل، لزيارة ليبيا، تمهيدًا لمؤتمر برلين المقرّر عقده في كانون الثاني/ يناير 2020 حول ليبيا.
جاء الموقف الروسي من خلال مجلس الدوما الذي أبدى قلقه من مذكرة التفاهم الأمني والعسكري بين أنقرة وطرابلس. وقال رئيس لجنة الشؤون الدولية في المجلس، ليونيد سلوتسكي، إنّ إرسال تركيا قوات عسكرية إلى ليبيا "قد يعمّق أزمة ليبيا أكثر". واعتبر أنّ قرار البرلمان التركي "مثير للقلق"، مؤكدًا أنّ روسيا تدفع نحو حل الأزمة الليبية عبر الطرائق السياسية والدبلوماسية.
خاتمة
قد يسهم القرار التركي في الدعم العسكري لحكومة الوفاق الوطني، وهي الحكومة الشرعية في البلاد، في توحيد الجهد الحربي للمكونات العسكرية التي تقاتل إلى جانبها لصدّ هجوم حفتر على العاصمة، والانتقال إلى مهمة حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة الغربية من ليبيا، هذا إذا أدرك الأتراك أنّ حكومة الوفاق لن تكون مقنعةً دوليًا ما لم تنجح في إقامة جيش وطني، وتتجاوز الحالة الفصائلية التي لا تستطيع الدول الأوروبية والدول العربية الجارة التعامل معها بوصفها دولة. وقد يدفع التدخل العسكري التركي، إذا يئس حفتر وحلفاؤه من السيطرة على العاصمة، إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، والاتفاق على حل سياسي للأزمة. ولكن تبقى هناك محاذير من أن تؤدي التدخلات الخارجية، على اختلافها، إلى إطالة أمد الصراع، وتحوّله إلى حرب وكالةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ تهدّد مستقبل الدولة ووحدتها الجغرافية.