هل تسهم هزيمة حفتر في الغرب الليبي في إعادة إطلاق المسار السياسي؟
فشل حملة طرابلس
منذ الهجوم الذي بدأته في نيسان/ أبريل 2019، فشلت قوات حفتر في السيطرة على العاصمة وحسم الصراع لمصلحتها عبر القوة العسكرية، كما كانت تأمل. ويعكس هذا الفشل سوء تقدير كبير من حفتر وحلفائه لقوة حكومة الوفاق الوطني، والمكوّنات العسكرية التي تقاتل إلى جانبها، والدعم الذي تحصل عليه من حلفائها. ويبدو أن حفتر بنى تقديراته العسكرية على التجارب التي خاضها في الشرق الليبي، حيث نجح في السيطرة على بنغازي ودرنة ومنطقة الهلال النفطي ذات الأهمية الاستراتيجية، من خلال استخدام الحصار وسيلةً لمعاقبة المجتمعات المحلية والضغط على المقاتلين عبرها، وباستفادته من الدعم العسكري والمالي والسياسي الإماراتي والسعودي والمصري الكبير، وأخيرًا من خلال بناء تحالفات قبلية - جهوية سهّلت سيطرته على بعض المناطق، مثل الهلال النفطي.
ولكن المشهد العسكري في طرابلس كان مختلفًا عنه في شرق ليبيا وجنوبها، حيث استطاعت
قوات حكومة الوفاق الوطني في العاصمة ومحيطها توحيد صفوفها، ومقاومة الهجوم العسكري، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم؛ فاستعادت مدينة غريان التي تبعد نحو 75 كيلومترًا عن العاصمة. كما اتجهت نحو تعويض التخاذل الدولي عن دعمها، باعتبارها حكومةً شرعيةً معترف بها دوليًا، من خلال بناء تحالفات سياسية وعسكرية مع قوى فاعلة في الإقليم، لتمكينها من صد الهجوم على طرابلس، فاستعانت بتركيا.
وكان البرلمان التركي قد صوّت لصالح قرار إرسال قوات تركية إلى ليبيا في 2 كانون الثاني/ يناير 2020، بعد أن وقّع الجانبان، التركي والليبي، مذكّرة تفاهم تُحدَّد بموجبها المجالات البحرية في البحر الأبيض المتوسط، وقد ساهم هذا الإجراء في تعزيز صمود قوات حكومة الوفاق الوطني وقدرتها على حماية العاصمة، وقد برّرت تركيا وجودها العسكري بأنه جاء بناءً على طلبٍ من الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا في ليبيا، ولحماية مصالحها في منطقة شرق المتوسط. وأعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حينها أن دعم بلاده حكومة الوفاق الوطني سيمنحها القدرة على استعادة التوازن في مواجهة قوات حفتر المدعومة من الإمارات ومصر.
إخفاق الجهود الدبلوماسية
باءت جميع الجهود الدبلوماسية التي قادتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالفشل في وقف إطلاق النار، وقدّم مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، غسّان سلامة، استقالته في 2 آذار/ مارس 2020 عبر تغريدة على حسابه في توتير، التي جاءت مع استمرار المعارك في محيط طرابلس. وكان مؤتمر برلين الذي عُقد في كانون الثاني/ يناير 2020 قد فشل قبل
ذلك في تحقيق وقفٍ لإطلاق النار وإيجاد حل للأزمة الليبية، على الرغم من أنه جمع الدول ذات التأثير المباشر في أطراف الصراع الليبي، ومع هذا لم يختلف في مخرجاته عن مؤتمرات سابقة عُقدت في عواصم ومدن أوروبية (باريس، وباليرمو، ولندن) لبحث الأزمة الليبية، وبدا نسخةً مكرّرة عنها، من ناحية الدعوة اللفظية إلى حل سلمي، بدلًا من استخدام الأدوات العسكرية في حل الصراع الداخلي، واحترام حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا منذ عام 2011. وعلى الرغم من أن أغلب الدول الداعمة لأطراف الصراع بالمال والعتاد شاركت في مؤتمر برلين (مصر، والإمارات، وتركيا، وإيطاليا، وفرنسا)، فإنها لم تُلقِ بالًا للتوصيات المتعلقة بوقف دعم أطراف الصراع واحترام قرار الأمم المتحدة بحظر توريد السلاح إلى ليبيا.
تقهقر حفتر
ونتيجة هذا الفشل، استمرت المعارك خلال الأشهر الماضية بين قوات حكومة الوفاق الوطني وقوات حفتر في محاور عديدة جنوب طرابلس، لكن التطور المفاجئ الذي طرأ في مسار هذه المعارك في هذا الوقت تمثّل في التقدم الكبير الذي أحرزته قوات حكومة الوفاق الوطني، حيث بسطت نفوذها على ست مدن كانت خاضعة لسيطرة قوات حفتر هي: صرمان، وصبراتة، والعجيلات، والجميل، ورقدالين، وزلطن، التي تقع على امتداد الشريط الساحلي الغربي الذي يصل طرابلس بالحدود التونسية بنحو 150 كيلومترًا (ينظر الخريطة، من إعداد وحدة الدراسات السياسية استنادًا إلى صفحة المركز الإعلامي لعملية بركان الغضب على توتير، شوهد في 18/4/2020، في: https://bit.ly/2VJQ6FA).
وتعد النجاحات التي حققتها قوات حكومة الوفاق الوطني والفصائل العسكرية المتحالفة معها ضربةً كبيرةً تُنهي طموحات حفتر بإمكانية حسم الصراع لمصلحته بالقوة العسكرية من خلال
السيطرة على العاصمة، كما تعد ضربة كبيرة لحلفائه الإقليميين، حيث سيطرت قوات حكومة الوفاق الوطني على كمياتٍ كبيرة من الأسلحة والذخائر والعربات المدرّعة التي أرسلتها الإمارات لدعم حفتر. كما اتضح لبعض هؤلاء الحلفاء، خصوصًا روسيا، فشل الرهان على حفتر، الخارج عن الشرعية الدولية، الذي يلقى الدعم من دول إقليمية ودول كبرى، وأنه قائد عسكري فاشل يبدّد الدعم غير المحدود الذي يحصل عليه من الإمارات ومصر، ولم تنفعه مشاركة مئات من أفراد قوات الشركة الأمنية الروسية "فاغنر"، للقتال معه، إلى جانب عناصر قوات الدعم السريع السودانية التابعة لمحمد حمدان دقلو (حميدتي).
وبهذا، تكون حكومة الوفاق قد أمّنت حدودها الغربية من خلال بسط نفوذها على تلك المناطق التي كانت في منزلة خزّان بشري يمدّ حفتر بالمقاتلين، ونقطة انطلاق لتحرُّك قواته من الجهة الغربية نحو طرابلس، كما تقلّل هذه النجاحات من أهمية قاعدة الوطية العسكرية الخاضعة لسيطرة حفتر، وتقطع الإمداد عن قواته الموجودة هناك. أما على المستوى الاقتصادي، فإن من شان بسط حكومة الوفاق الوطني نفوذها على تلك المناطق أن يزيل جميع المعوقات التي تواجه التبادل التجاري مع تونس، ويسهم في إعادة العلاقات التجارية إلى معدّلاتها الطبيعية، ما يخفف من الضغوط الاقتصادية التي تواجهها حكومة الوفاق، خصوصا بعد تراجع صادرات النفط الخام من موانئ البريقة وراس لانوف والحريقة والزويتينة والسدرة شرق البلاد، إثر اقتحام عناصر موالية لحفتر تلك الموانئ في كانون الثاني/ يناير 2020، ما كبّد قطاع الطاقة خسائر كبيرة في دولةٍ تعتمد في موازنتها العامة اعتمادًا أساسيًا على إيرادات النفط.
خاتمة
على الرغم من النداء الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بوقف إطلاق
النار في مختلف جبهات الصراع القائمة حول العالم، وترك الأعمال العدائية، ووضع مشاعر عدم الثقة والعداوة جانبًا، وفتح الباب لحل النزاعات بالطرق السلمية، ووضع نهج مشترك لمواجهة انتشار فيروس كوفيد - 19 الذي بات التحدي العالمي الأول حاليًا، فإن حفتر استمر في هجومه على العاصمة طرابلس ومحيطها، محاولًا استغلال انشغال الدول ذات التأثير المباشر في مسار الأزمة الليبية في مكافحة انتشار فيروس كورونا المستجد، خصوصا دول الجوار الإقليمي. ولكنه لم يخفق في تحقيق أي تقدم فحسب، بل تعرّضت قواته أيضًا لأكبر هزيمة عسكرية منذ سنوات، عندما تمكّنت قوات حكومة الوفاق الوطني من بسط نفوذها على كل مدن الساحل غرب العاصمة حتى الحدود التونسية. وتمثل هذه النتيجة مكسبًا كبيرًا لحكومة الوفاق الوطني، وتحولًا في مسار المعارك، إذ باتت السيطرة على طرابلس بالنسبة إلى حفتر وحلفائه هدفًا بعيد المنال. وقد يمثل ذلك أرضية مناسبة للعودة إلى مسار الحل السياسي الذي ظل حفتر وحلفاؤه يرفضونه بإصرار، انطلاقًا من الثقة بقدرتهم على الحسم بالقوة، ويبدو أن نتائج المعارك الأخيرة قد تسهم في عقلنة حساباتهم والدفع في هذا الاتجاه.