24 أكتوبر 2024
دعوات في تونس إلى الفوضى أم إلى التغيير؟
لم تتوقف حالة التجاذب السياسي والصراع الحزبي في تونس منذ ثورة 2011، ولن تتوقف، ولكنها تتحول، في أوقات مختلفة، إلى أزمات طاحنة سرعان ما تُحَلّ. هذه الأزمات، وإن كانت طبيعية، بالنظر إلى حالة الانتقال السياسي إثر ثورة شعبية أطاحت أحد أشد الأنظمة البوليسية شراسة، إلا أنه لا يمكن نفي عوامل التوتير وإشعال الفوضى التي تصاحبها بتدبير خارجي في أحيان كثيرة، حيث لا تخفى محاولات التأثير من قوى دولية وأخرى إقليمية من أجل التحكّم في المشهد السياسي التونسي.
ظلت المظاهرات والاعتصامات الوسيلة الأهم للتأثير في السلطة، وإجبارها على اتخاذ قرار ما، أو التخلي عنه. وهذه الأدوات الاحتجاجية، وإن كانت مشروعة في ذاتها، بل ويقرّها الدستور التونسي الجديد، إلا أن الغايات منها هي التي تثير التساؤل عن خلفياتها والغاية منها، ومن يتولى التعبئة لها. فمنذ سنة 2012، شهد الشارع التونسي تحرّكات شعبية متفاوتة القوة والتأثير، وأحياناً كانت تجري تعبئة جزء من الشارع في مقابل جزء آخر، ولكل قوة حساباتها وولاءاتها وأهدافها.
ربما كان اعتصام الرحيل الذي جرى سنة 2013، وشهد تعبئة إعلامية وسياسية واسعة، من أجل إنهاء حكم الترويكا التي تولت السلطة إثر انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وتضافرت عوامل كثيرة لنجاح التحشيد لذاك التحرّك، ومنها ترافقها مع اغتيال النائب محمد البراهمي يوم 25 يوليو/ تموز 2013، بالإضافة إلى مشاركة طيف واسع من الأحزاب والقوى السياسية، راوحت بين أقصى اليسار، وصولاً إلى بقايا النظام السياسي، مروراً بشخصيات سياسية مستقلة، وحظي التحرّك بعاملين مهمين، أكسباه التأثير، هما تغطية إعلامية واسعة شاركت فيها قنوات تلفزيونية وإذاعية، ظلت تنقل أنباء الاعتصام بما يشبه الضخ اليومي للتحريض، والدعوة إلى التمرد. والعامل الثاني وجود قيادة سياسية وازنة، تجسّدت في شخصية الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، الذي كان يحظى بحضور مهم في الشارع التونسي، بالإضافة إلى قدرته على توظيف قوى اجتماعية (مثل اتحاد الشغل واتحاد الأعراف) للضغط
على خصومه السياسيين في الترويكا، مع الاحتفاظ بخط التواصل معهم، وهو ما تجلى في مفاوضاته مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في ذلك الوقت.
تحولت تجربة اعتصام الرحيل إلى مصدر إلهام لدى بعضهم في كل مرة تحصل فيه أزمة سياسية، ولكن من دون مراعاة الاختلاف في الظروف والوقائع والشخصيات، وهو أمر تجلى في محاولة التحرّك التي جرت سنة 2016 تحت عنوان السترات الحمراء، وانتهت إلى فشل دعائي، فضلاً عن غياب أي أثر سياسي لها. ومثلما بدأت انتهت قصة السترات الحمراء.
وفي الأيام الماضية، شهدت تونس محاولة لاستعادة فكرة اعتصام الرحيل، وبدأ التحشيد الإعلامي لها منذ منتصف شهر مايو/ أيار المنقضي، وضمت المجموعات الداعية إلى التحرّك خليطاً غير متجانس من الداعين إلى نظام رئاسي مطلق وبقايا النظام السابق، إضافة إلى بعض أنصار الرئيس الحالي. ولكن ما ميّز هذه الدعوات، غياب الشخصيات الفاعلة والمؤثرة عنها. فالذين ظهروا بوصفهم قادة التحرّك هم بعض النواب السابقين ممن فشلوا في الوصول إلى البرلمان الحالي، بالإضافة إلى وجوه إعلامية معروفة بولائها لجهات خارجية، وتأييدها السياسي للّواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر. كان واضحاً أن هذا التحرّك لا يملك رؤية سياسية محددة، ولا برنامجاً واضحاً، على الرغم من الادعاء أن الغاية منه هو التغيير، محاولين الاستفادة من ضجر المواطن التونسي من الصراع الحزبي المتواصل في البرلمان، ونقمته على السياسيين، غير أن هؤلاء، وبعضهم كان في مجلس النواب السابق لم يُعرف عنهم أنهم قدموا شيئاً في أثناء نشاطهم البرلماني، بالإضافة إلى أن الداعين إلى حل البرلمان وتحميله مسؤولية كل المساوئ لم يقدّموا للناس بديلاً مقنعاً، إلا إذا اعتبرنا الدعوة إلى الفوضى هي البرنامج.
المتابع الدقيق لهؤلاء الداعين إلى التحشيد ضد النظام السياسي يجدهم يرغبون في استعادة نظام الحكم المطلق الذي أطاحته الثورة منذ سنوات. ولا تخفي الجهات الداعمة لهم رغبتها في أن ترى تونس وقد اتخذت مساراً شبيهاً بالوضع المصري، حيث ينفرد حاكم مطلق بالسلطة من دون حسيب أو رقيب. ومثلما ظهر هذا الحراك فجأة، اختفى فجأة، وتوقفت الدعوات إلى محاصرة البرلمان التي كان مزمعاً البدء فيها بداية من يوم 4 يونيو/ حزيران الحالي. وقد يصعب تفسير هذا التوقف المفاجئ، وكأنما هو بسحر ساحر، أو أن الطرف الخارجي الذي يموّل ويوجّه قد ضغط على زر الإيقاف، ومن دون الخوض في الأسباب المتداولة التي تظل تخميناتٍ في ظل صمت الجهات الرسمية عن كشف ملابسات هذا التحرّك الذي مات في المهد، فإن ما يمكن تأكيده، أن الدعوة إلى الفوضى ستظل مستمرة في تونس، مترافقة مع حلم التغيير، وإذا كان من حق الجيل الجديد أن يحلم بنظام سياسي أكثر عدلاً وأقل فساداً وأشد احتراماً للحرية، فإن دعاة الفوضى يتمنون أن يعود كابوس نظام الحزب الواحد، والزعيم الأوحد خدمة لمصالحهم الشخصية، وتنفيذاً لأجندات مشبوهة لقوى إقليمية عُرفت بمحاربتها الربيع العربي.
ربما كان اعتصام الرحيل الذي جرى سنة 2013، وشهد تعبئة إعلامية وسياسية واسعة، من أجل إنهاء حكم الترويكا التي تولت السلطة إثر انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وتضافرت عوامل كثيرة لنجاح التحشيد لذاك التحرّك، ومنها ترافقها مع اغتيال النائب محمد البراهمي يوم 25 يوليو/ تموز 2013، بالإضافة إلى مشاركة طيف واسع من الأحزاب والقوى السياسية، راوحت بين أقصى اليسار، وصولاً إلى بقايا النظام السياسي، مروراً بشخصيات سياسية مستقلة، وحظي التحرّك بعاملين مهمين، أكسباه التأثير، هما تغطية إعلامية واسعة شاركت فيها قنوات تلفزيونية وإذاعية، ظلت تنقل أنباء الاعتصام بما يشبه الضخ اليومي للتحريض، والدعوة إلى التمرد. والعامل الثاني وجود قيادة سياسية وازنة، تجسّدت في شخصية الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، الذي كان يحظى بحضور مهم في الشارع التونسي، بالإضافة إلى قدرته على توظيف قوى اجتماعية (مثل اتحاد الشغل واتحاد الأعراف) للضغط
تحولت تجربة اعتصام الرحيل إلى مصدر إلهام لدى بعضهم في كل مرة تحصل فيه أزمة سياسية، ولكن من دون مراعاة الاختلاف في الظروف والوقائع والشخصيات، وهو أمر تجلى في محاولة التحرّك التي جرت سنة 2016 تحت عنوان السترات الحمراء، وانتهت إلى فشل دعائي، فضلاً عن غياب أي أثر سياسي لها. ومثلما بدأت انتهت قصة السترات الحمراء.
وفي الأيام الماضية، شهدت تونس محاولة لاستعادة فكرة اعتصام الرحيل، وبدأ التحشيد الإعلامي لها منذ منتصف شهر مايو/ أيار المنقضي، وضمت المجموعات الداعية إلى التحرّك خليطاً غير متجانس من الداعين إلى نظام رئاسي مطلق وبقايا النظام السابق، إضافة إلى بعض أنصار الرئيس الحالي. ولكن ما ميّز هذه الدعوات، غياب الشخصيات الفاعلة والمؤثرة عنها. فالذين ظهروا بوصفهم قادة التحرّك هم بعض النواب السابقين ممن فشلوا في الوصول إلى البرلمان الحالي، بالإضافة إلى وجوه إعلامية معروفة بولائها لجهات خارجية، وتأييدها السياسي للّواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر. كان واضحاً أن هذا التحرّك لا يملك رؤية سياسية محددة، ولا برنامجاً واضحاً، على الرغم من الادعاء أن الغاية منه هو التغيير، محاولين الاستفادة من ضجر المواطن التونسي من الصراع الحزبي المتواصل في البرلمان، ونقمته على السياسيين، غير أن هؤلاء، وبعضهم كان في مجلس النواب السابق لم يُعرف عنهم أنهم قدموا شيئاً في أثناء نشاطهم البرلماني، بالإضافة إلى أن الداعين إلى حل البرلمان وتحميله مسؤولية كل المساوئ لم يقدّموا للناس بديلاً مقنعاً، إلا إذا اعتبرنا الدعوة إلى الفوضى هي البرنامج.
المتابع الدقيق لهؤلاء الداعين إلى التحشيد ضد النظام السياسي يجدهم يرغبون في استعادة نظام الحكم المطلق الذي أطاحته الثورة منذ سنوات. ولا تخفي الجهات الداعمة لهم رغبتها في أن ترى تونس وقد اتخذت مساراً شبيهاً بالوضع المصري، حيث ينفرد حاكم مطلق بالسلطة من دون حسيب أو رقيب. ومثلما ظهر هذا الحراك فجأة، اختفى فجأة، وتوقفت الدعوات إلى محاصرة البرلمان التي كان مزمعاً البدء فيها بداية من يوم 4 يونيو/ حزيران الحالي. وقد يصعب تفسير هذا التوقف المفاجئ، وكأنما هو بسحر ساحر، أو أن الطرف الخارجي الذي يموّل ويوجّه قد ضغط على زر الإيقاف، ومن دون الخوض في الأسباب المتداولة التي تظل تخميناتٍ في ظل صمت الجهات الرسمية عن كشف ملابسات هذا التحرّك الذي مات في المهد، فإن ما يمكن تأكيده، أن الدعوة إلى الفوضى ستظل مستمرة في تونس، مترافقة مع حلم التغيير، وإذا كان من حق الجيل الجديد أن يحلم بنظام سياسي أكثر عدلاً وأقل فساداً وأشد احتراماً للحرية، فإن دعاة الفوضى يتمنون أن يعود كابوس نظام الحزب الواحد، والزعيم الأوحد خدمة لمصالحهم الشخصية، وتنفيذاً لأجندات مشبوهة لقوى إقليمية عُرفت بمحاربتها الربيع العربي.