30 يونيو النسخة الأميركية
انتخبت الأغلبية الأميركية جو بايدن رئيسًا، لكن الأقلية قرّرت ألا تحترم نتائج الصندوق، وخرجت إلى الشوارع تتظاهر وتعتصم، وتقول إن فارق الأصوات ضئيل، ونسبة الفوز قريبة من نسبة الخسارة، وأن لديها شكوكًا في الأرقام.. وبناء عليه، ترامب هو الرئيس.
لو كتب أديبٌ من العالم الأول، المتقدم، هذا المشهد في سيناريو مستقى من تجربة حقيقية في العالم الثالث، المتأخر، لشعر المتلقي بالدهشة، وربما الصدمة، ضاربًا كفًا بكف، وهو يتأمل حالة نكوص للديمقراطية، ترتد بها من قيم الأمم المتطورة في القرن الحادي والعشرين، إلى فوضى دول الموز في قرون عبرت، فما بالك وهذا المشهد بكل تفاصيله يدور على الأرض الأميركية، حيث منابع نهر الديمقراطية الذي تبتز به واشنطن العالم، وترى كل ما خارج حدودها جفافًا وتصحّرًا، ينبغي أن تخضعه لها بقوة التبشير بالديمقراطية، فإن لم يرضخ فبقوة السلاح.
هكذا، دمرت الولايات المتحدة حضاراتٍ وقتلت شعوبًا، ووضعت يدها على ثروات، بزعم إنها تمارس استصلاحًا ديمقراطيًا، وتزرع حرية في دول تعاني الجدب والقحط والجوع إلى الحريات.
قتلوا العراق، واغتالوا معالم حضارته الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، بحجة أنها عملية لازمة وضرورية لتهيئة التربة لغرس الديمقراطية الأميركية القادمة على ظهر حاملات الطائرات المقاتلة، والمخبأة داخل الرؤوس النووية والقنابل العنقودية، ففتحت فصولًا لتعليم الصغار الديمقراطية، فتابع العالم الدرس الأول في ملجأ العامرية في بغداد، حين تمت صناعة فطائر من لحم ودم صغار، متبلة ببهارات الديمقراطية الأميركية.
في الدراما المتصاعدة في أميركا الآن، رفض دونالد ترامب الاعتراف بهزيمته في الانتخابات، وأقسم مثل رئيس نادي الزمالك المعلنة هزيمته فيما سميت انتخابات نيابية: أنا الفائز، والنتيجة المعلنة مزيفة، ثم دعا مؤيديه إلى الاحتشاد في الشوارع والميادين، فخرجوا يهتفون: ترامب هو الرئيس.
هنا يتجاوز رئيس البلاد التي يقولون إنها جنة الديمقراطية، رئيس نادي الزمالك، إذ اكتفى الأخير بالقول إنه ناجح، من دون أن يدعو أنصاره إلى التظاهر والاحتشاد، وهو الذي يصف نفسه بأنه "رئيس نصف شعب مصر"، باعتباره رئيسًا لخمسين مليون مواطن، هم مشجعو النادي الذي يرأسه.
ترامب في هذا الموقف يؤكد ما اعتبرناه ذات يوم نكتة سخيفة، أطلقها واحد من عمال انقلاب الثلاثين من يونيو 2013 في مصر، حين أطلق مقولةً قهقه لها الجميع، مفادها بأن دونالد ترامب يعتبر عبد الفتاح السيسي المثل الأعلى والقدوة له، لتسفر الأيام عن كم هائل من مساخر الواقع الذي فاق النكتة والفانتازيا، وخصوصًا مع الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ما تراه في الولايات المتحدة هذه الساعات مأخوذ حرفيًا من سفر الثورات المضادة، والانقلابات، في الدول التي عاشت في عتمة الاستبداد والطغيان، عقودًا طويلة، ثم خرجت إلى النور فجأة، وإن لم يستخدم أدواتها كاملة.
تكاد تكون بصدد عملية استرجاع "فلاش باك" لما جرى في مصر، منذ منتصف العام 2012 وحتى صيف العام الذي يليه، حين جاء رئيس منتخب لا يعجب طبقة الإقطاعيين الثوريين، من وجهاء الحياة السياسية الذين تهرّبوا من خوض الانتخابات، ثم بوغتوا بأن "فلاحًا ملتحيًا" قادمًا من جماعة الإخوان المسلمين قد فاز في السباق، فقرّروا هدم السيناريو كله، وإعادة كتابته، فصارت الديمقراطية التي طالما تغنوا بها تتخذ تعريفاتٍ جديدة على هواهم، مردّدين الترّهات ذاتها: الفارق بين الفائز والخاسر ليس كبيرًا.. الجماهير ليست كلها مؤهلة لتعاطي الديمقراطية.. ما كان ينبغي أن يتم السماح لغير المتعلمين بممارسة حقهم في الاقتراع.. إلى آخر هذه المعلبات الفاسدة من منتجات الاستعلاء الطبقي على الجماهير.
حتى الإدارة الأميركية وقتها، تلك التي كانت تكتسي بالأزرق الديمقراطي، انحازت لتيار الإقطاع الثوري، أو طبقة الرأسمالية السياسية، لم تستطع الوفاء لقيمها ومبادئها سوى ساعات أعقبت عملية هدم الديمقراطية بالحشد تحت المظلة العسكرية، وقرّرت أن تلتحق سريعًا بمشروع الانقلاب الذي جاء على الهوى الإسرائيلي، والمزاج الخليجي المرعوب من شيوع مبدأ التغيير السياسي عن طريق الشعوب.
الوجه الذي يطل به دونالد ترامب في هذه اللحظة مزيج من كل الوجوه التي ارتبطت في الذاكرة المصرية بجريمة تلويث مبدأ الانتخاب، وإضرام النار في شرعية الصندوق الانتخابي، من رموز الثورة المضادة التقليدية في مصر، وهي الرموز التي تحوّلت، من مادة لسخرية الطبقة السياسية العليا، إلى نموذج يحتذى ومثلًا أعلى لها، ليصبح الكل عكاشيين سياسيين وزنودا قضائيين وساويرسيين طائفين، إلا من رحم ربك من مثقفين احترموا ما عاشوا يبشّرون به ويدافعون عنه، استقر بهم المقام في القبور والسجون والمنافي.
لم يبق إلا أن يعلن معسكر ترامب عن "جبهة الإنقاذ الأميركية"، ولن يبذل مجهودًا كبيرًا في العثور على الممولين والرعاة، لكنه سيصطدم بمعضلة كبيرة، ذلك أنه ليس في أميركا مجلس عسكري يقسم طوال الوقت بأنه زاهد في السلطة، ولا يسعى إلى الانخراط في المعادلة السياسية، بينما هو جاهز بخطط الانقضاض على كل شيء.
لا شك أن التاريخ يقف ساخرًا الآن وهو يرى رئيس أميركا المهزوم يحاول أن يأخذها من تصدير قيم الديمقراطية إلى استيراد أفكار وأدوات الانقلاب عليها.