54 مليون خائن في مصر
بالتزامن مع تمرير تشريعٍ يمنح السلطة في مصر حق السطو على الممتلكات العقارية للأفراد، من الأراضي والمساكن، ومصادرتها تحت ذريعة المصلحة العامة، يتم الإعلان عن تطبيق مادة في قانون، تتعارض مع مادة في الدستور، الذي هو أبو القوانين، تسمح للسلطة بتوقيع غرامة 500 جنيه على كل شخصٍ من بين أربعة وخمسين مليون مواطن امتنعوا عن المشاركة في عرض انتخابي مبتذل لتشكيل ما يسمى "مجلس الشيوخ".
الخطوتان، أو التشريعان، يصبّان في مجرى واحد هو: الاعتداء على حق الإنسان وحريته فيما يملك، سواء كان المملوك قطعة أرض أو منزلًا للسكن.. أو صوتًا انتخابيًا وموقفًا شخصيًا، وهكذا، كما يبدو فقد تم فتح التشريعين على بعضهما بعضا، أو أنهم طبقوا قانون نزع الملكية الخاصة، غصبًا وقوة، من أجل المصلحة العامة، على الإرادة الشخصية الحرّة وعلى الصوت الانتخابي، وعلى ما يدور في العقل الظاهر والباطن من أفكار.
في كل الدساتير التصويت في الانتخابات حق أصيل للمواطن، وبما أنه حقّ فهو وحده صاحب حرية التصرّف فيه، يمارسه أو يعلقه أو يمتنع عنه، لكن حالة التوغد السلطوي ترى في الحاكم كيانًا أعلى من كل الدساتير، فيتم استحداث قوانين تتجاهل الدستور وتعتدي عليه، وتفرض عقوباتٍ على من يمارس حق العزوف والإمتناع عما يراه عبثيًا وزائفًا.
في ذلك، تكاد الدراسات السياسية النادرة التي تناولت ظاهرة الإمتناع عن التصويت في الانتخابات تجمع على أن الامتناع عن التصويت هو تعبير عن رفض للنظام السياسي ولقواعد اللعبة السياسية بدرجات متفاوتة، مع تنوع أسباب الامتناع والمقاطعة، من عوامل مادية أو اجتماعية أو ثقافية، تتعلق بالوعي العام.
بل أن من الباحثين السياسيين من يرى أن أصوات الممتنعين عن التصويت يمكن أن تحتسب أصواتا معارضة، تضاف إلى فئة المصوتين بـ"لا"، وخصوصًا عندما يتضح أن مقاطعة التصويت تعبير عن موقف، وليست نتيجة عدم قدرة على الوصول إلى مقرّ الاقتراع، ومن هؤلاء البرفيسور العراقي خليل حميد عبد الحميد الذي قدم بحثًا قبل نحو 12 عامًا تحت عنوان "ظاهرة الامتناع عن التصويت وانعكاساتها على شرعية السلطة السياسية". وتناول أستاذ الفلسفة المصري، حسن حنفي، ظاهرة الامتناع هذه قبل سنوات، في مقال بديع ذهب فيه إلى أن الامتناع عن التصويت ليس حيادا، بل مشاركة إيجابية عن طريق السلب والسلب عند الفلاسفة أقوى من الإيجاب، موضحًا أن الامتناع هو إيجابٌ مضاد عن طريق الرفض، رفض العملية السياسية كلها بشقيها نعم أو لا، كما يعنى رفض المرشحين للإنتخابات كلهم سواء من الأحزاب القديمة أو الجديدة.
وعلى ذلك، حين يقر نظام عبد الفتاح السيسي بأن 54 مليونًا من أصل 62 مليونًا و940 ألفًا و165 مواطنًا لهم حق الانتخاب، قد قاطعوا الانتخابات التي دعاهم إليها، فهذا يعني مباشرة أن أكثر من 85% من أصحاب الحق في التصويت قالوا لدعوته: لا .. ومن ثم فهم بحسب إعلامه خونة ومتآمرون على الوطن الغارق في أنهار عسل الديمقراطية والحرية.
وبالقياس على ما تواضعت عليه الدراسات السياسية والنفسية لآلية الامتناع عن المشاركة، أن عدم التصويت من أنواع الرفض، بل هو أرقاها، فإن النظام يعترف، في تجريمه كل الممتنعين وتغريمهم، بأن هناك 54 مليون صوت من 63 مليون صوت ضده.
السؤال الآن: لماذا تتوحّش سلطات السيسي مع الناخبين المصريين على هذا النحو الجنوني؟
هل هو سعار الجباية يدفعها إلى مد يدها في جيوب الناس، والإمعان في مص دمائهم، في سياق المشروع القومي لافتراس المواطن المصري؟ أم أنها الرغبة المحمومة في الانتقام ممن أداروا ظهورهم لكل هذا العبث وكل هذا الزيف وكل هذا الخراب السياسي؟
أظن أن كليهما صحيح.