تبرز المخاوف في الغرب من غزو وشيك للجيش الروسي لأوكرانيا، رغم نفي موسكو ذلك، واتهامها كييف بالاستفزاز. الوضع مقلق. تحذيرات حلف شمال الأطلسي، وتمديد العقوبات الأوروبية، وسائل لإعادة روسيا إلى طاولة المفاوضات، لم تُجدِ نفعاً حتى الآن. انعكس ذلك عبئاً سياسياً على ألمانيا، إذ تطالب الولايات المتحدة الأميركية، وعدد من دول شرق أوروبا، بتجميد رخصة التشغيل لخط غاز نورد ستريم2، التي تخضع للتمحيص حالياً، من قبل وكالة الشبكة الفيدرالية، وهو ما يتمسك به حزب الخضر، أحد أطراف الائتلاف الحاكم، على عكس الزعيم الاشتراكي الجديد.
خطوط الطاقة وخطوط السياسة
تزامن كل ذلك مع ارتفاع أسعار الغاز إلى مستويات قياسية، ومع انخفاض مستوى الاحتياطي في البلاد، وتصاعد الأصوات المعترضة من قبل القيّمين على القطاعات الصناعية. وانعكس تشغيل المشروع من عدمه، صراعاً داخل ائتلاف إشارات المرور الحكومي في ألمانيا، بعد أسبوعين فقط من تسلم المستشار الاشتراكي الديمقراطي الجديد، أولاف شولتز، مهامه في المستشارية، وهو الذي يرفض التخلي عن خط نورد ستريم 2، ويعتبره مشروعاً للقطاع الخاص، فيما يقاومه الخضر لقناعته بأن الكرملين لم ينظر إلى خط أنابيب الغاز من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق بوصفه مجرد مشروع اقتصادي، وإنما لمصالح جيوسياسية.
بدأ الخلاف الأسبوع الماضي، بتصريحات متباينة، بين المستشار الاشتراكي، أولاف شولتز، الذي رأى أنه لا بد من التحقق من نورد ستريم 2 فقط، بوصفه مشروعاً للقطاع الخاص، والتأكد من توافقه مع قانون الطاقة الأوروبي، مع تأييد حزبه فرض عقوبات على روسيا دون المسّ بخط الغاز، فيما اعتبرت وزيرة الخارجية المنتمية إلى "الخضر"، أنالينا بيربوك، أن نورد ستريم 2، وفقاً للوضع الحالي، لا يفي بمتطلبات قانون الطاقة الأوروبي، ويتلقى الحزب البيئي الدعم من الشريك الثالث في الائتلاف الليبرالي.
وأكد المتحدث باسم السياسية الخارجية لكتلة الحزب في البوندستاغ، بيجان دجير ساراي، أن الإشارات العامة، المتعلقة بالمسائل القانونية، تظهر أن المشروع مثقل بأعباء، وأنه منذ البداية، لم يكن نورد ستريم 2 مشروعاً اقتصادياً فحسب، بل كان له أيضاً بعد سياسي.
ولم تتردد أنالينا بيربوك، اليوم الأربعاء، في أن تعرب عن "قلق كبير" بعدما وعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برد "عسكري وتقني" من روسيا إذا لم ينهِ خصومه الغربيون سياساتهم التي اعتبر أنها تشكل تهديداً. وقالت، بحسب "فرانس برس": "قلقي كبير"، لأن كلمات الرئيس الروسي جاءت قبل "تحركات قوات" على الحدود مع أوكرانيا، معتبرة أن هذه "الأزمة الخطيرة" مع موسكو لا يمكن حلها إلا من خلال الحوار.
وشددت الوزيرة الألمانية على ضرورة إجراء حوار مع السلطات الروسية باستخدام "وسائلها المتاحة"، وقالت في مؤتمر صحافي: "حتى لو قدمت مقترحات لا تشكل أسسنا للمفاوضات، يجب أن نتحاور"، مضيفة أنّ من "المهم أن نعود إلى طاولة المفاوضات" مع موسكو في إطار صيغة النورماندي التي تجمع ألمانيا وفرنسا وأوكرانيا وروسيا. وأنه يجب أيضاً استخدام "الفرصة المتوافرة في إطار مجلس حلف شمال الأطلسي وروسيا للتحاور والمساهمة حتى نتمكن من منع تصعيد جديد".
نورد ستريم 2 ما بين مؤيد ومعارض
ووسط الجدل القائم، يشير موقع تي أون لاين، أن شولتز يؤيد المشروع مذ كان أميناً عاماً لحزبه، في عهد المستشار الأسبق غيرهارد شرودر، ونقل الموقع عن مؤيدين للمشروع، بأن الخط الجديد يخلق قدرات نقل إضافية، ويضمن المزيد من المنافسة في سوق الغاز الأوروبية، وبفضل تحرير سوق الغاز في أوروبا، والغاز الطبيعي المسال، ستكون الإمدادات مضمونة في جميع الأوقات. وبالإضافة إلى ذلك، ستحتاج الشركات والمستهلكون إلى الغاز الروسي للحصول على إمدادات طاقة تنافسية ومستدامة في المستقبل.
في المقابل، فإن المعارضين للمشروع يجدون فيه زيادة في المخاطر بالاعتماد على الغاز الروسي، وأنه يكبح أهدافهم المناخية، لأنه، وفق منطقهم، وعلى الرغم من أن الغاز أنظف من الفحم، يتعلق الأمر في النهاية، بالتحول نحو الطاقة المتجددة كمورد لإنتاج الطاقة، وحيث إن كل خط غاز إضافي يقلل من الحاجة إلى التحول وفي أسرع وقت ممكن نحو أشكال بديلة لتوليد الطاقة.
هذا الصراع سينعكس سلباً على السياسة الخارجية الألمانية، ووجدت فيه صحيفة دي فيلت عاملاً قد يؤثر بالقطاعات الصناعية، لأنه، عدا عن ارتفاع الأسعار، لا يمكن استبعاد النقص المادي في الغاز للشركات ومشغلي محطات الطاقة، مع إطلاق مشغليها التحذيرات والمخاطر من زيادة انقطاع الأعمال بسبب نقص إمدادات الغاز هذا الشتاء. ولفتت الصحيفة إلى أن " تي إتش إي" المكلفة التحقق من سوق الغاز الألماني، تحاول تنظيم عمليات إمداد إضافية للغاز من طريق "مناقصة خاصة "، خلال شهر فبراير/شباط المقبل، وهذا ما يضع برلين أمام معضلة في ظل الصراع الأوكراني الروسي، والنقاشات حول المصالح البيئية والاقتصادية.
وكانت صحيفة هاندلسبلات، قد ذكرت أخيراً أن احتياطات تخزين الغاز في ألمانيا وصلت إلى مستويات منخفضة تاريخياً، مقارنة بالسنوات السابقة، ونقلت عن العضو المنتدب لمبادرة الطاقة، سيباستيان بليشكه، أن المخزون وصل إلى أقل من 60%. كذلك برزت مطالبات بضرورة التعامل مع الاحتياطات الموجود بعناية، نظراً لأن موسم الشتاء الفعلي والبارد القارس ما زال في بداياته، وإذا ما استمر السحب من الاحتياطي، كما هو في الوقت الحالي، فسيكون مستوى التخزين في البلاد منخفضاً جداً في فبراير المقبل.
وجدير بالذكر، أن ألمانيا تعتمد على الغاز الطبيعي الروسي بشكل كبير، فوفقاً لمراجعات إحصائيات الطاقة العالمية والصادرة عن شركة بريتش بتروليوم، وبيّنتها دويتشلاند فونك أخيراً، فإن ألمانيا حصلت على نصف وارداتها من الغاز الطبيعي في عام 2019 من روسيا (51%)، ومن المورّدين الآخرين لبرلين، النروج بنسبة 27%، وهولندا بما مقداره 21%، ومع 55,6 مليار متر مكعب، تعد ألمانيا أكبر مستورد للغاز الروسي داخل الاتحاد الأوروبي.
يبقى نورد ستريم 2 من أكثر مشاريع الطاقة إثارة للجدل في التاريخ الأوروبي، وكان من المقرر أن يبدأ خط الأنابيب البالغ طوله 1200 كيلومتر في تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا هذا العام، متجاوزاً بولندا وأوكرانيا. وفي يوليو/تموز الماضي، تراجعت الاعتراضات الأميركية على نورد ستريم2، ووافقت على استكماله، مقابل التزامات مالية ألمانية لمساندة قطاع الطاقة لدى أوكرانيا، وشروط أخرى، حيث تتعهد برلين باتخاذ إجراءات ضد موسكو، والعمل على المستوى الأوروبي لفرض عقوبات على روسيا، سواء في قطاع الطاقة أو في أي منطقة اقتصادية أخرى ذات الصلة، الأمر الذي بدا انتصاراً لسياسة المستشارة السابقة أنغيلا ميركل. وكانت صحيفة "شبيغل أونلاين"، قد أشارت إلى أن اهتمام ميركل بالمشروع يحمل بعداً سياسياً، وهو ما اعترفت به المستشارة في عام 2018، بعد أن كانت قد اعتبرته لسنوات طويلة اقتصادياً بحتاً، ويعود ذلك لكونها باتت مقتنعة بأن من مصلحة ألمانيا وأوروبا الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع روسيا، على الرغم من كل الصعوبات.