لا تخلو مدينة عراقية من منطقة أو حي باسم "الحواسم"، ويحدث أن يكون في المدينة الواحدة أكثر من حي بهذا الاسم، كما هو الحال في مدن كربلاء وذي قار وبابل، حيث تنتشر هذه الأحياء التي تتخذ شكل المساكن العشوائية، والبيوت المتداخلة والمتشعبة. وتزداد هذه العشوائيات سنوياً، وتكبر متخذة شكل الأحياء الكاملة، في حين تغيب فيها الخدمات، مثل الماء والكهرباء والطرق ومجاري الصرف الصحي وغيرها.
و"الحواسم"، اسم كان قد أطلقه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على معركة عام 2003، ضدّ التقدّم البري الأميركي البريطاني لغزو العراق، والتي مهدت لاحتلال البلاد ونهاية نظام صدام. ولكن العراقيين وبعد عمليات النهب والسلب التي طاولت دوائر الدولة ومؤسساتها ومصارفها، أطلقوا على عمليات السرقة تلك تعبير "الحواسم"، وصارت هذه التسمية سارية كذلك على المقرات العسكرية والأمنية التي تسكنها العوائل الفقيرة.
بات في العراق أكثر من 35 حياً يطلق عليها اسم "الحواسم"
وبات في العراق أكثر من 35 حياً يطلق عليها اسم "الحواسم"، بحسب تعداد أجراه "العربي الجديد". وتنتشر غالبية هذه الأحياء في مناطق وسط وجنوب البلاد. كما لا تخلو المحافظات الغربية منها، وحتى الشمالية، وهي محافظات إقليم كردستان، تحتوي على هذه الأحياء، ويطلق عليها اسم أحياء "التنك". ويُقدر عدد من يسكن تلك المناطق بمئات الآلاف، وأخيراً باتت تُستهدف سياسياً كونها تمثل سلة أصوات دسمة للأحزاب، إذ تستغلّ قوى سياسية عدة أصوات ساكنيها عبر تقديم هدايا ومبالغ مالية أو وعود لهم بتمليكهم الأراضي التي شيّدوا عليها منازلهم وتشريع قانون خاص بهم. بينما يقدم آخرون وعوداً بتعبيد طرقات الأحياء، وتقديم خدمات بلدية. وفي انتخابات عام 2018، برزت تلك المناطق كأحد الأدلة للتأكيد على التلاعب بالانتخابات والتأثير على الناخبين باستغلال فقرهم وحاجتهم للخدمات.
في السياق، يصف عضو التيار المدني العراقي، أحمد حقي، مناطق الحواسم بأنها "مذبوحة بالفقر واستغلال الأحزاب السياسية لها"، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ الآلاف من سكان تلك الأحياء كانوا قد "تطوعوا لقتال تنظيم داعش، فيما آخرون انضووا ضمن فصائل مسلحة تمولها إيران. لذا، هذه المناطق منذ وجودها بعد عام 2003، ولغاية الآن، تعتبر صورة مصغرة عن الفوضى العراقية، وهي امتداد لما قبل الاحتلال الأميركي، إذ إنّ ساكنيها لم يصبحوا فقراء فجأة، بل كانوا كذلك وزادت حالتهم سوءاً بعد الاحتلال".
ويتابع حقي: "أحياء الحواسم الآن، باتت تزورها السيارات الفارهة مبكراً، إذ إنه لم يتبق سوى أشهر على موعد الانتخابات البرلمانية، لذا ستعود مأساة استغلال الأحزاب لفقر وحاجة الناس هناك للحصول على أصواتهم، مثلما استغلتهم مكاتب المليشيات للتطوّع من أجل القتال في سورية من قبل، وذهب قسم من الشبان بالفعل لحاجتهم إلى الـ900 دولار التي كانت تدفع لهم مع شحنهم بالشعارات الدينية التي وجدت مكاناً سهلاً لها، كون أغلب الشباب غير متعلمين". ويؤكد حقي أنّ "معيار نزاهة الانتخابات المقبلة هي فرض مفوضية الانتخابات الرقابة على حالات استغلال كوكب الحواسم في العراق"، وفق تعبيره.
أحياء الحواسم الآن باتت تزورها السيارات الفارهة مبكراً، إذ إنه لم يتبق سوى أشهر على موعد الانتخابات البرلمانية
من جهته، يقول كريم حيدر (28 عاماً)، وهو يسكن في حي "الحواسم" القريب من علوة الرشيد ببغداد، إنه "يقطن مع أهله في أرض كانت تابعة للشركة العامة للسكك الحديد، ولكنها ظلّت مهجورة لسنوات طويلة، وهو ما دفعنا إلى الاستحواذ عليها والبناء فيها، بعدما تركنا محافظتنا الأصلية ديالى". ويبيّن في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "الحي يختلف حالياً عما كان عليه عام 2003، فقد كان في السابق ساحة فارغة، أمّا اليوم، فهو حي سكني يحتوي على أكثر من 200 منزل".
ويؤكد حيدر أنّ "الخدمات تكاد تكون معدومة، فمثلاً لا تتوفر خطوط الكهرباء الكافية لتغذية الحي، ولكن يقوم الأهالي بالاعتماد على المولدات، إضافة إلى سرقة الكهرباء من أحياء قريبة أخرى". ويلفت إلى أنّ "الأهالي لا يعتمدون على مياه الإسالة الحكومية، بل يلجأون إلى حفر الآبار والاعتماد عليها"، مشيراً إلى أنّ "الحكومة تعتبرنا متجاوزين على القانون، ولكنها في الوقت ذاته لا توفر لنا الحلول الكفيلة بإنهاء أزمة كل أحياء الحواسم في عموم البلاد".
وفي محافظة ذي قار، جنوب العراق، يؤكد المهندس علي المحمداوي أنّ "الحكومات العراقية وبسبب إهمالها الكبير لملف إعمار المدن، واعتماد الآليات الحديثة لحلّ أزمة السكن في العراق، وغياب التخطيط، والانشغال بالمشاكل السياسية والإخفاقات الأمنية، أوقعت نفسها في مأزق كبير، وهو اعتماد العراقيين على الأراضي المملوكة للدولة لتحويلها إلى أحياء سكنية".
ويشير المحمداوي في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "أزمة أحياء الحواسم والعشوائيات في تزايد وتفاقم مستمرين، ولا سيما أنّ هذه الأحياء تتمدد وتتكاثر في الوقت نفسه، وهو ما يتطلب حلولاً سريعةً وذكيةً لتطويق الأزمة ومنع تفشيها". ويرى أنّه "من غير المنطقي أن تقوم الحكومة العراقية، سواء الحالية أو الحكومات المستقبلية، بهدم منازل المتجاوزين على أراضي الدولة، لأن هؤلاء باتوا منذ العام 2003 ولغاية 2020، نسبة ليست قليلة، ويمثلون شريحة واسعة من المجتمع العراقي". ويعتبر المحمداوي أنّ "أسهل الحلول وأنجعها يتم عبر بناء مجمعات سكنية بمواصفات جيدة، واعتماد أسلوب البناء العمودي في المحافظات، على أن تكون أسعار المنازل معقولة، وتوزيع سكان العشوائيات والحواسم على المجمعات".
هناك تزايد مستمر في عدد الوحدات السكنية المتجاوزة على الأراضي المملوكة للدولة
وتعدّ أحياء العشوائيات و"الحواسم" إحدى أبرز المشاكل التي تهدد الوجه الحضاري والجمالي للعاصمة العراقية بغداد وبقية المحافظات، وقد تفاقمت هذه المشكلة بعد 2003 بشكل كبير، بسبب غياب الرقابة على مشاريع البناء في تلك المناطق، وطريقة تقطيع المنازل في الأحياء السكنية وانتشار الفقر والبطالة.
وكانت وزارة التخطيط العراقية قد أعلنت في وقتٍ سابق، عن خطة جديدة وواسعة لمعالجة ظاهرة العشوائيات في العاصمة بغداد، عبر "خريطة طريق تمّ وضعها من قبل لجان مختصة ضمن الوزارة". وتتضمن الخريطة، وفق بيان للوزارة، "برنامجاً لتخفيف الفقر الذي يعتبر المسبب الأساسي لانتشار العشوائيات، فضلاً عن التعاقد مع شركات صينية متخصصة في مجالات الطباعة الإنشائية لبناء وحدات سكنية بكلفة منخفضة ومناسبة". وجاء ذلك بعدما كشف مسح ميداني للعشوائيات، أجرته وزارتا التخطيط والبلديات عام 2013، أنّ أكثر من مليوني مواطن يسكنون العشوائيات التي فاق عدد مساكنها 345 ألفاً، وحصة العاصمة بغداد منها 33 في المائة.
إلى ذلك، يلفت رئيس لجنة التخطيط في مجلس محافظة البصرة نشأت المنصوري، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "هناك تزايداً مستمراً في عدد الوحدات السكنية المتجاوزة على الأراضي المملوكة للدولة، وهذا التجاوز يحصل لأسباب عدة، منها ضعف قوة القانون في الدولة العراقية، وتقصير الحكومات في توفير المساكن للمواطنين، إضافة إلى الكثافة السكانية التي بدأت تتضخم كثيراً في السنوات الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى توسّع المدن والاتجاه نحو الأراضي الزراعية واستغلالها لأغراض السكن، والاستحواذ على الأراضي المهجورة للدولة".
من جهته، يؤكد الخبير الأمني العراقي سرمد البياتي، أنّ "العشوائيات وأحياء الحواسم تعتبر من أخطر الأحياء في العراق، حيث ينفلت فيها القانون، كما أنّ هناك مؤشرات عديدة على انتشار السلاح فيها، وتحولها إلى بؤر غير معروفة الطبائع والانتماءات". ويضيف في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أنّ "هذه المناطق تحتاج إلى لفتة حكومية من أجل النظر بحياة وظروف الأهالي المعيشية فيها، كما أنها تحتاج إلى فرز أمني وتدقيق دائم ومستمر، ولا سيما أنّه غالباً ما تلقي القوات العراقية القبض على هاربين من العدالة كانوا قد اختاروا أحياء الحواسم ملاذاً لهم، باعتبارها بعيدة عن أنظار قوات الأمن".