يكاد لا يمر يوم من دون أن ترتفع حدة التصريحات التركية واليونانية، مع توجيه الاتهامات المتبادلة بينهما بتحميل كل طرف الآخر مسؤولية التوتر في بحر إيجة. ويترافق ذلك مع تبادل التهديدات بالمواجهة العسكرية المباشرة بين الطرفين، وبدأت إرهاصات ذلك باستهداف خفر السواحل اليوناني لسفينة "مافي مرمرة" التركية قبل أيام في المياه الدولية.
ويستبعد مراقبون ومتابعون حصول مواجهة عسكرية مباشرة بين البلدين، بسبب عضويتهما في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتحالفهما مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عسكرياً، وحاجة الحلف للتضامن أكثر في ظل أوضاع عالمية بالغة التعقيد مع الحرب الروسية على أوكرانيا.
ويأتي ذلك بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار الطاقة، فيما تُربط أيضاً تصريحات حكومتي البلدين بالشعبوية السياسية. إلا أن هناك من يتوقع أن تتطور الأمور مستقبلاً لمواجهة عسكرية بين أنقرة وأثينا، من أجل فرض أمر واقع جديد في المنطقة والتوصل لاتفاقات بناء عليها.
جزر إيجة أصل الخلاف
الخلافات بين تركيا واليونان، وإن تعددت بنودها، إلا أن السبب الرئيسي لها يعود لمطالب كل طرف بالسيادة على مساحات واسعة من بحر إيجة وشرق المتوسط، إذ إن الجزر المتنازع عليها والتي تسيطر عليها اليونان حالياً تقع على مقربة كيلومترين فقط من السواحل التركية، وهي تبعد أكثر من 500 كيلومتر عن البرّ اليوناني، ومن هنا تنشأ نقطة الخلاف الأساسية.
تطالب أنقرة بالاحتكام إلى القوانين الدولية في ما خصّ المياه المتنازع عليها في بحر إيجة
وفي الوقت الذي تريد فيه تركيا احتساب المساحات المائية وفقاً للسواحل الواقعة على البرّ التابع للبلدين، تريد اليونان أن تُحتسب وفق السيطرة على الجزر، وهذا يعني أن تبقى لتركيا مساحة قليلة تمنعها عن شرق المتوسط، وهو ما ترفضه وتدعو حوله إلى الاحتكام للقوانين الدولية. من جهتها، تصر اليونان على وجهة نظرها بدعم تتلقاه من الدول الأوروبية وواشنطن.
وما زاد احتدام الأمور بين البلدين ارتفاع حدّة الصراع على ثروات شرق المتوسط في السنوات الماضية، لتأتي خطوة اليونان أخيراً بتسليح الجزر المتنازع عليها وانتشار القواعد الأميركية على أراضيها.
الأميركيون متهمون بـ"التحريض"
وتتحدث أوساط تركية عن وجود آلاف الجنود الأميركيين وآلاف المعدات العسكرية في قرابة 10 قواعد مختلفة في اليونان، ما يُشعر أنقرة بأنها المستهدفة من هذا الحشد، لبعده عن أي تهديد روسي أو صيني أو تجاري.
ودفع ذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للحديث أخيراً عن الجزر المتنازع عليها بأنها "محتلة"، وأن "تركيا قد تستعيدها على حين غرة"، في مصطلحات تشبه تلك المتداولة في العمليات العسكرية التركية في سورية والعراق.
وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في أحدث تصريحاته الصحافية، قال إن على "اليونان عدم الانجرار وراء تحريض الدول الأخرى وتكرار أخطاء الماضي، وأن تستخلص دروساً من التاريخ وألا تخوض مغامرات جديدة".
وأضاف في الوقت ذاته أن بلاده "تواصل مساعيها لحلّ كافة الخلافات مع اليونان بالطرق السلمية والدبلوماسية وتتعامل مع تصرفات أثينا بصبر".
وقالت وزارة الدفاع التركية، في وقت سابق، إن التحرشات اليونانية العسكرية البحرية والجوية بنظيرتها التركية بلغت 1123 مرة خلال الأشهر الثمانية من العام الحالي، فيما بلغ مجموع التجاوزات في العام الماضي 1616 تجاوزاً وتحرشاً. وأكدت الوزارة عزمها تقديم شكوى بحق اليونان إلى حلف الناتو بسبب تحرشها بالمقاتلات التركية في الأيام الأخيرة، وآخرها تحرش عبر منظومة صواريخ "إس 300" روسية الصنع.
من جهتها، نفت اليونان الاتهامات الموجهة إليها باستخدام منظومة "إس 300" الروسية في استهداف المقاتلات التركية، مشددة على عدم تفعيلها هذه المنظومة. وقال رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، قبل أيام، إن بلاده منفتحة على الحوار مع تركيا في أي وقت، وإن أنقرة صعّدت التوتر مع دخولها فترة الانتخابات وحاولت إظهار اليونان على أنها تقوم بأعمال عدائية.
وشدّد ميتسوتاكيس على أنه "لا يوجد أحد في الخارج يعتقد أن الجزر اليونانية تشكل خطراً على تركيا، خصوصاً عندما يشكك الرئيس التركي في سيادة اليونان على الجزر". وأضاف: "على العكس تماماً، هناك الكثير ممن يعتقدون بأن تركيا تشكل خطراً على جزرنا".
وأكد رئيس الوزراء اليوناني أن بلاده ستستمر في التمسك بالتحالفات التي أقامتها وتعزيز قواتها المسلحة، مبيناً أن "أثينا تريد دائماً أن تكون قنوات الاتصال مع أنقرة مفتوحة". وقال: "لم أغلق باب الحوار مع الرئيس أردوغان، أنا منفتح دائماً للقائه وأعتقد أنه ستتاح لنا الفرصة للقاء مرة أخرى".
وتتمحور الخلافات الأساسية بين البلدين حول الجزر البالغ عددها 18 جزيرة، والتي أعطيت لليونان وفق اتفاقيتي لوزان 1923 وباريس عام 1946، والحدود البحرية في هذه المنطقة، بشرط عدم تسليحها.
وأدت الخلافات على الجزر إلى توقف الاجتماعات الاستكشافية بين البلدين التي كانت قد استكملت بعد توقف لسنوات، حيث عقدت 4 جولات استكشافية ما بين يناير/ كانون الثاني 2021، وفبراير/ شباط الماضي مناصفة بين الدولتين. وكانت اللقاءات الاستكشافية بين البلدين قد عقدت للمرة الأولى في عام 2004، واستمرت إلى عام 2016، وعقد خلالها نحو 60 لقاءً، لم تحقق أي تقدم.
تركيا - اليونان: حدود المواجهة
ومتحدثاً عن حدود المواجهة وخيارات البلدين، رأى الكاتب والباحث التركي جاهد طوز أن "الأزمة الأخيرة تأتي مع التطورات الدولية، وخصوصاً مع أزمة أوكرانيا والمواقف الأميركية والأوروبية ضد روسيا، وما تبعه من أزمة الطاقة في أوروبا".
وأضاف طوز، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "بنظرة على مائة عام من تأسيس الجمهورية التركية، نرى عند وجود هذه الضغوط أنها تنبع من استخدام اليونان كورقة من أجل التحريض ضد تركيا، والتأثير على العلاقات بين البلدين".
وشدّد الباحث التركي على أنه "لهذه الأسباب، فإن التجاوزات اليونانية في المنطقة مرتبطة بهذه التطورات، تُضاف إليها الإمكانات التركية المتقدمة عسكرياً، ومحاولة تحجيم ذلك ومنع تحول تركيا إلى قوة عالمية عسكرياً".
ولفت طوز إلى أنه "في مقابل ذلك، فإن الموقف التركي يستند إلى القوانين الدولية، حيث قدمت أنقرة مطالبها، وفي حال حصول خرق واضح للأمن القومي وللسيادة التركية، فسيكون هناك رد كبير".
لكن الكاتب والباحث التركي استبعد، على الرغم من كل ذلك، أن تتطور الأزمة، "لأن المنطقة لن تستطيع تجاوزها، وتركيا واليونان دولتان في حلف الناتو، ولا أعتقد أنهما في المرحلة الراهنة، يمكن أن يدخلا في حرب".
يرى متابعون أن المواجهة قد تكون حتمية في وقت من الأوقات للتوصل إلى اتفاقات جديدة
وأكد طوز أن بلاده "تتابع التطورات عن قرب وبشكل جدّي، وتعمل ضمن 3 مسارات، هي توثيق حالات الاختراق للمجال الجوي والمياه الإقليمية وتقديم الوثائق للأمم المتحدة وحلف الناتو، وعبر الإعلام والمؤسسات حيث تحاول أن تتعامل وفق القوانين والمواثيق الدولية، وأن تفعّل الآليات المشتركة لتجاوز الأزمات بين البلدين". لكنه شدّد أنه على الرغم من كل ذلك، فإن "الخيار العسكري موجود" على الطاولة.
واستبعد طوز أن يتحول التصعيد بين تركيا واليونان إلى صراع عسكري، فـ"التوازنات الدولية لا تسمح بذلك، خصوصاً في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، لأن هذه الحرب ستكون متعددة الأطراف، وقد تقود إلى حرب عالمية ثالثة، وأي توتر سينعكس على الدول الغربية". وذكّر بأن "الحرب بين تركيا واليونان ستعزز أزمة الطاقة في أوروبا، وعدم استخراج ثروات شرق المتوسط".
ورأى أن اليونان "تلجأ إلى هذه الحيل للتغطية على أزماتها المحلية عبر تاريخها، وتوجه رسائل إلى الغرب للحصول على دعم عسكري واقتصادي، خصوصاً مع تقديم الولايات المتحدة والدول الأوروبية دعماً عسكرياً وأسلحة حديثة لليونان أخيراً". وأكد أن "التوترات تعزز هذه المطالب اليونانية".
وعلى خلاف ذلك، اعتبر المحلل السياسي بكير أتاجان في حديث لـ"العربي الجديد" أن "التصعيد بين تركيا واليونان سيستمر، لأن اليونان لا تلتزم بمعاهدتي لوزان وباريس الواضحتين في الشروط والبنود التي وضعت لعدم تسليح الجزر التابعة لليونان، والتي بينت حدودها".
وأضاف أتاجان أن "اليونان تقول إنها سترفع حدودها إلى 12 ميلاً، وهو ما يتعارض مع الاتفاقيتين، ومن ناحية أخرى تركيا تقول إنه في حال استمرار اليونان بهذا التصعيد، فلا بد لها أن ترد بالمثل". وبرأيه، فإنه "إذا حصل أي تدخل يوناني عسكري في الجزر أو المناطق التركية، فسيكون الرد التركي عسكرياً".
وإذ استبعد حصول مواجهات عسكرية في الوقت الحالي، إلا أنه رأى أنها من الممكن أن تقع خلال الأشهر المقبلة، لأن كلاً من اليونان وتركيا مجبرتان على ذلك، ولأن هناك جهات خارجية تصر على هذه المواجهة، على حدّ قوله.
وأضاف أتاجان أن أنقرة تملك في يدها خيارات عدة، منها التوجه إلى الأمم المتحدة والمحكمة الدولية وتدخل الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي لحل النزاعات بين البلدين". واعتبر أن التدخلات الخارجية مستبعدة حالياً، لأن البلدين يحاولان تجنب ذلك، لكنه وضع لن يصل إلى نتيجة، بل سيتطلب وساطة وتدخلاً خارجياً".
وشدّد المحلل السياسي على أن "اليونان من حيث المبدأ، ترغب بحصول مواجهة عسكرية، لأنها تشكّل فرصة بالنسبة لها، من خلال توجيه ضربة سريعة ثم الانسحاب، لكن السؤال هو: هل ستقبل تركيا بعدم الرد؟ بالتأكيد لا".
ورأى أن الردّ التركي "سيكون قوياً، ما يؤدي إلى مواجهات طويلة الأمد". ولفت إلى أن الولايات المتحدة وأوروبا تؤيدان اليونان على حساب تركيا، ما سيؤدي، بحسب السيناريو الذي توقّعه، انسحاب تركيا من الحلف، وانهيار الناتو، محذراً أثينا من مغبة الانجرار وراء التحريض الأميركي والأوروبي.