انتهى الأسبوع الأول من الحملة الانتخابية للاستفتاء الشعبي على مسوَّدة الدستور الجديد في الجزائر، والمقرر في الأول من نوفمبر المقبل، وسط فتور كبير وضعف لافت في التفاعل الشعبي والسياسي، إذ غابت الحماسة والنقاشات السياسية المطلوبة في مثل هذه الاستحقاقات، برغم أنها المرة الأولى التي يُتاح فيها للجزائريين الاستفتاء على دستور منذ آخر استفتاء مماثل جرى قبل 24 عاماً، في 28 نوفمبر 1996.
وما زال منسوب الحملة الانتخابية للدستور في الجزائر فاتراً، ولا يبدي الشارع الجزائري انشغالاً بالغاً بالاستحقاق الدستوري في الوقت الحالي لعوامل عديدة، فضلاً عن ظروف الأزمة الوبائية وإكراهات الظرف الاجتماعي والاقتصادي الصعب وقرب موعد الدخول المدرسي المقرر في 24 أكتوبر الجاري، الذي يعني أعباءً مالية جديدة بالنسبة إلى العائلات الجزائرية.
وترتبط أبرز عوامل هذا الفتور الشعبي، باستحواذ كتلة الأحزاب والشخصيات التي كانت موالية للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على المنابر والساحات، وسط انسحاب المعارضة من نقاشات تعتقد أنها مفروضة من قبل السلطة ومحسومة لمصلحتها، وتمدد شعور بالإحباط السياسي لدى قطاع واسع من الجزائريين جراء عودة هذه الوجوه والكيانات ومن مضمون الدستور وتبخر أحلام التغيير.
بالكاد يجمع فيلالي غويني، رئيس حركة الإصلاح، عشرة مناضلين في قاعة بمدينة ورقلة جنوبي الجزائر، خصصت لتنشيطه تجمعاً للدعوة إلى تأييد الدستور والتصويت له، وبالكاد أمكن الأمين العام لاتحاد المزارعين محمد عليوي، جمع صفين في قاعة بولاية مستغانم غربي الجزائر، في إطار الحملة الانتخابية، كان الأول (غويني) من بين الداعمين لترشح بوتفليقة لولاية خامسة في الانتخابات التي كانت مقررة في إبريل 2019، قبل أن تطيحها مظاهرات الحراك الشعبي، وتعهد الثاني لبوتفليقة بجمع خمسة ملايين توقيع من المزارعين لصالح ترشح بوتفليقة.
حتى الأحزاب الكبرى كجبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، وهما الحزبان اللذان كانا يمثلان السند السياسي الرئيس لبوتفليقة ودعما ترشحه لولاية خامسة، باتا يعتمدان في الحملة الانتخابية للدستور على التجمعات الجهوية التي تسمح بجمع مناضلي الحزب في مجموعة من الولايات في تجمع واحد، لصنع صورة للحضور السياسي والشعبي.
لكن هذه التجمعات تتحول في الغالب إلى حوار داخلي بين هذه الأحزاب ومناضليها، دون أن تمسّ القطاعات الشعبية الأخرى المعنية التي يفترض أن تتوجه إليها الحملة الانتخابية لإقناعهم بمسودة الدستور، وبسبب ضعف الإقبال، يتعمد التلفزيون الرسمي الذي يتابع تنقلات قادة أحزاب الموالاة، التركيز على الصفوف الأمامية وشعارات التجمع والخطباء، وتلافي تقديم صورة مكبرة للقاعة.
ويعتقد مراقبون أن عامل تنشيط الأحزاب والوجوه السياسية التي كانت محسوبة وموالية بالكامل للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والتي كانت أيضاً تدعم مشروع ترشحه لولاية رئاسة خامسة، ساهم كثيراً في عدم تفاعل الشارع مع الحملة الانتخابية، وكرّس القطيعة بين الشارع والفعل الدعائي للدستور، إذ يرفض الشارع الاستماع إلى خطابات هؤلاء.
كما تعزز عودتهم، وهم ممن كانت لافتات الحراك الشعبي تتوجه بوضوح ضد أحزابهم، كجبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي حالة من الإحباط المجتمعي في عدم وجود مؤشرات فعلية للتغيير، خاصة في ظل عجز السلطة عن الدفع بوجوه جديدة ذات مصداقية سياسية أو قدرة على الإقناع، كما أن تحكم وهيمنة السلطة على الحملة الانتخابية، منعاً لأي صوت معاكس، ضيق من إمكانية بروز وجوه جديدة، حتى ولو كانت موالية للسلطة.
المؤامرة حاضرة أيضاً
عامل آخر من ضمن العوامل التي لم تنتج تفاعلاً شعبياً مع الحملة الانتخابية للدستور، هو رهن مؤيدي السلطة والدستور للخطاب السياسي والانتخابي داخل مربع "المؤامرة"، وربط استقرار البلاد بالدستور الجديد، واعتبار أن عدم التصويت سيكون في مصلحة قوى متآمرة داخلية وخارجية، وهو خطاب كانت استخدمته السلطة وأحزاب الموالاة في انتخابات عام 2017 ، عندما روجت أن فشل تلك الانتخابات النيابية سيضع قوات الناتو على سواحل الجزائر، وهو خطاب لفظه الحراك الشعبي، إضافة إلى كونه مثلما يصفه المحلل السياسي أحمد فلاق بأنه "خطاب سياسي رديء وبالٍ".
ويؤكد فلاق أن أحزاب السلطة "لم تستوعب درس الحراك مطلقاً، وما زالت تعيش في عقود الحرب الباردة، وتتجاهل أنها تخاطب جيلاً يملك وسائل اتصالات حديثة ومطلع على العالم وأحداثه"، مشيراً إلى أن "هذا الخطاب نتاج إفلاس سياسي فادح لدى هذه الأحزاب والقوى غير القادرة على خلق خطاب ذاتي ينطلق من قناعاتها، لا من منطلق التبرير وخدمة السلطة".
لكن المحلل السياسي يعتقد أيضاً أنّه، بغضّ النظر عن ظروف ومقتضيات الأزمة الوبائية، فإن وجود كتلة شعبية كبيرة من المناوئين للدستور، سواء بسبب مضمونه أو آلية صياغته، ومن كل التيارات الإسلامية وغير الإسلامية، وعدم انخراط مجموع هذه القوى في مسار يخدم الدستور وتبنيها لموقف الرفض والتصويت بلا أو المقاطعة، قلص مساحة التفاعل الشعبي مع الحملة الانتخابية، إذ ترفض السلطات منح الترخيص لقوى المعارضة لتنشيط تجمعات شعبية للدفاع عن وجهة نظرها، برغم وعود سابقة بذلك.
ورغم أن الكثير من المراقبين يعتقدون أن ما بقي من زمن الحملة الانتخابية خلال الأسبوعين المقبلين، لن يغير كثيراً في صورة التفاعل الشعبي، إلا أن تقييماً أولياً لمجريات الحملة في أسبوعها الأول، قد يدفع السلطة صاحبة المسودة الدستورية المعروضة للاستفتاء، إلى الدفع بعناصر سياسية ومدنية جديدة في الحملة، تعزيزاً لطروحاتها.