أكدت مصادر دبلوماسية رفيعة المستوى في مجلس الأمن الدولي في نيويورك، لـ"العربي الجديد"، أنه جرى سحب مشروع القرار الذي كان من المفترض التصويت عليه، الاثنين، ويدين الاستيطان الإسرائيلي، بضغوط أميركية.
وبحسب المصادر، فإن الجانب الفلسطيني وبعد الضغوطات الأميركية واتصال وزير الخارجية الأميركي بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، السبت، سيكتفى ببيان رئاسي يتوقع أن يصدر عن المجلس هذا الأسبوع، تعمل الإمارات على صياغته، بصفتها الدولة العربية العضو في المجلس، وبالتنسيق مع الجانب الفلسطيني. ومن المفترض أن يشمل البيان الرئاسي عناصر مشابهة لتلك التي نصت عليها مسودة المشروع وصاغتها الإمارات.
والبيان الرئاسي أقل من القرار من ناحية قوته القانونية، ولا يحمل صفة الإلزام بمستوى القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، لكنه جزء رسمي من وثائق مجلس الأمن، ولا يصدر إلا إذا أجمعت جميع الدول الأعضاء عليه. وفي الوقت ذاته، يشكل فرصة أمام الجانب الأميركي لتخفيف اللغة وإدخال تعديلات إضافية عليه.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها إحباط الجهود الفلسطينية في مجلس الأمن قبل أن يطرح المشروع على المجلس للتصويت. ولعل آخرها كان عام 2020، حين سُحب آنذاك، بضغوط أميركية من إدارة دونالد ترامب، مشروع قرار رافض لـ"صفقة القرن"، تفاوضت تونس، التي كانت تحتل مقعدا غير دائم في مجلس الأمن في ذلك العام، بالاتفاق مع الجانب الفلسطيني عليه، قبل أن يسحب بضغوط الإدارة الأميركية وجاريد كوشنر، مستشار ترامب، ووصلت القضية إلى حدّ إعفاء تونس لمندوبها منصف البعتي من مهامه.
وراء الكواليس
والمشروع الذي كان من المفترض التصويت عليه، الإثنين، يدين الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويؤكد من جديد عدم شرعيته، بحسب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الصلة.
وعُقدت مجموعة من المشاورات مع الدول الأعضاء في مجلس الأمن، بعد توزيع المسودة الأولى، وأجريت بعض التعديلات عليها، في محاولة للتوصل إلى توافق بين الدول يسمح بتبنّيه أميركياً وعدم استخدام حق النقض (فيتو) ضده، بحسب ما أكد مصدر دبلوماسي رفيع المستوى في مجلس الأمن لـ"العربي الجديد" في نيويورك.
وصرح مصدر دبلوماسي آخر لـ"العربي الجديد" بأن الجانب الفلسطيني كانت لديه الأصوات اللازمة لتبنّي القرار، تسعة على الأقل، وهو الحد الأدنى من الأصوات المطلوبة لتبنيه بدون فيتو. ولكن الجانب الأميركي، ومنذ طرح أول مسودة لمشروع القرار، ضغط في اتجاه تبني "بيان رئاسي" بدلا من مشروع قرار، يشتمل على عناصر من مسودة مشروع القرار، لكن الجانب الفلسطيني بقي مصرا على التفاوض وتقديم المسودة حتى اتصال بلينكن بعباس، السبت، بحسب المصدر نفسه.
ويبدو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس خضع للضغوط الأميركية، وقبل ببيان رئاسي عن مجلس الأمن، بدلاً من التصويت على مشروع قرار يدين الاستيطان، وبذلك جنّب الولايات المتحدة موقفا محرجاً باستخدامها الـ"فيتو"، الأمر الذي ستجد نفسها مضطرة لتبريره ليس فقط أمام مجلس الأمن، بل وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كذلك، وفق القرار الجديد الذي اعتمدته الجمعية العامة في إبريل/نيسان الماضي، تحت عنوان "تكليف دائم من أجل عقد نقاش في الجمعية العامة عند استخدام حق النقض في مجلس الأمن".
وينص القرار المذكور على انعقاد الجمعية العامة بشكل تلقائي خلال 10 أيام عمل، بعد كل مرة تستخدم فيها أي من الدول الأعضاء دائمة العضوية حق النقض في مجلس الأمن.
وبسحب مشروع قرار إدانة الاستيطان الإسرائيلي يكون الرئيس عباس قد وفّر على الجانب الأميركي إحراجاً كبيراً، خاصة في الأسبوع نفسه الذي تنتقد فيه الإدارة الأميركية كل هؤلاء الذين لن يصوتوا لقرار الجمعية العامة المرتقب هذا الأسبوع حول أوكرانيا.
ردود فعل دولية وضغوط أميركية وغربية
وبعد يومين من إعلان حكومة نتنياهو في 12 فبراير/شباط الحالي، نيتها التصديق على شرعنة تسع بؤر استيطانية في الضفة الغربية المحتلة، بُنيَت من دون إذن سلطات الاحتلال، بالإضافة إلى إعلان نيتها منح تراخيص لعشرة آلاف وحدة سكنية في عدد من المستوطنات، عبّرت وزارات خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، في بيان لها، عن "انزعاجها الشديد"، وعدم رضاها عن الخطوات الإسرائيلية الأخيرة المتعلقة بالاستيطان، و"معارضتها الصريحة لتلك الإجراءات أحادية الجانب".
وعلى الرغم من أهمية البيان، لكن أياً من تلك الدول ومعها الاتحاد الأوروبي (اعترض على الخطوة الإسرائيلية) لم تعلن عن أي خطوات فعلية تنوي اتخاذها للضغط على الجانب الإسرائيلي لوقف الاستيطان، وتطبيق القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، بما فيها قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، التي تدين صراحة الاستيطان، وهي ملزمة لتلك الدول، وآخرها القرار 2334 الذي تبناه المجلس في 2016، بعد امتناع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، قبل أسابيع من تسليمه السلطة لدونالد ترامب، عن التصويت، ما أدى إلى تبنيه بتأييد بقية الدول الأربع عشرة.
الكيل بمكيالين
سياسة الكيل بمكيالين التي تتبعها الحكومات الغربية، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، ظهرت جلية هذا الأسبوع في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وفي تعاملها مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، المستمر منذ عقود، مقارنة بالاحتلال الروسي لأجزاء من أوكرانيا، إذ يصادف في 24 من الشهر الحالي فبراير/شباط مرور عام على الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
في الحالة الأوكرانية، لم تكتف الدول الغربية بإصدار عدد من القرارات في الأمم المتحدة تدين الاجتياح الروسي، بالإضافة إلى قرار جديد ينتظر أن تتبناه الجمعية العامة، ترافقه اجتماعات في مجلس الأمن والجمعية العامة ومؤسسات أخرى، وحضور على مستوى وزراء الخارجية إلى نيويورك (من الأربعاء إلى الجمعة المقبلين)، بل فرضت قائمة طويلة من العقوبات على روسيا. كذلك، تدعم الدول الغربية كييف بمليارات الدولارات من الأسلحة والمساعدات الإنسانية، وتدافع عن حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها وقتال روسيا.
وجميع هذه الخطوات "تُحرّمها" تلك الدول على الجانب الفلسطيني، بل إنها منعت إصدار قرار لا يوجد فيه أي بند جديد لم تشمله قرارات سابقة لمجلس الأمن والجمعية العامة حول الاستيطان غير القانوني، التي ما زالت سارية المفعول.
عرقلة توجه السلطة الفلسطينية نحو مجلس الأمن
وأعلنت الإدارة الأميركية، الخميس الماضي، على لسان مساعد المتحدث باسم الخارجية الأميركية فيدانت باتيل، خلال مؤتمر صحافي في واشنطن، بشكل واضح، أنها تعتبر النشاط الاستيطاني والتوجه الفلسطيني لمجلس الأمن "خطوات غير مفيدة، وتضعنا بعيداً عن تحقيق حل الدولتين المتفاوض عليه". وبموجب هذه التصريحات الأميركية، يُزعم أن الخطوة الفلسطينية الهادفة إلى تطبيق القانون الدولي، والتي تؤكد عدم شرعية الاستيطان الذي يخرق هذا القانون، هي العائق الفعلي لما يُسمى "حل الدولتين" الذي يتبناه المجتمع الدولي.
في رسالة وجهها أخيراً مبعوث فلسطين للأمم المتحدة، رياض منصور، إلى مجلس الأمن، وصف القرار الإسرائيلي الأخير بأنه "دليل إضافي على سياسة إسرائيلية متعمدة لاستعمار وضم الأراضي الفلسطينية وانتهاك جسيم للقانون الدولي". ودعت الرسالة مجلس الأمن إلى "التحدث بصوت واحد، وتوجيه رسالة لإسرائيل بأنه يجب عليها أن تكفّ على الفور عن جميع السياسات والإجراءات غير القانونية، وأنها ستواجه المساءلة عن ازدرائها الصارخ للقانون الدولي والمجتمع الدولي".
لا رغبة غربية في الرد على "الازدراء" الإسرائيلي
وهذا "الازدراء" للقانون والمجتمع الدولي لا تقابله أي رغبة فعلية من الدول الغربية للرد عليه. المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، فرانشيسكا ألبانيز، قالت لـ"العربي الجديد" إن قرار مجلس الأمن رقم 2334 "دعا إسرائيل إلى الوقف الفوري والكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعلى الرغم من ذلك، استمرت إسرائيل في تعزيز وحداتها الاستيطانية عاماً بعد عام، ما يظهر أن مجرد تكرار ذات الرسالة لن يوقف هذه الممارسة غير القانونية".
وأضافت أن المطلوب في أي مشروع قرار جديد "تحديد الإجراءات الملموسة التي قد يتخذها مجلس الأمن لإجبار إسرائيل على إنهاء التوسع غير القانوني للمستوطنات، وتوفير سبل لتعويض أولئك الذين عانوا من الأذى نتيجة للأنشطة الاستيطانية".