اتخذ حكم محكمة مينيابوليس، في ولاية مينيسوتا الأميركية، والتي أدانت أول من أمس الثلاثاء، الشرطي السابق ديريك شوفين، بثلاث تهم موجهة إليه، في قضية مقتل مواطنه من أصول أفريقية، جورج فلويد، بعدما ضغط على عنقه بركبته لأكثر من تسع دقائق، بُعداً وطنياً، وشكلاً احتفالياً، تنفس على أثره النشطاء الحقوقيون الصعداء، مبدين ارتياحهم لحكم قد يشكّل حجر أساس لقضاء أميركي أكثر عدلاً في محاسبة شرطة بلاده، الموصومة بتاريخ طويل من العنصرية تجاه الأقليات، وخصوصاً السود.
لكن هذا الشعور العارم بالارتياح، والذي سرى على القادة السياسيين في الولايات المتحدة، ظلّ لدى المطالبين بإصلاح الشرطة، وصولاً إلى نزع التمويل عنها، ممزوجاً بالتشاؤم، وسط خشية من أن يكون الحكم باباً لتنفيس قضية سُلّطت الأضواء عليها بشكل كبير، وتحولّت إلى قضية رأي عام، من دون أن يكون ذلك مدخلاً للتغيير، وسط عنف شرطي ممنهج، محكوم بعدد كبير من العوامل الاجتماعية والعرقية والسياسية والاقتصادية، وفي بلد أصبح موصوفاً بالانقسام، فضلاً عن العنصرية، المبنية على إرث العبودية.
يواجه شوفين حكماً بالسجن لمدة 40 عاماً كحدّ أقصى في التهمة الأكثر خطورة، وهي القتل من الدرجة الثانية
وقد يكون الرئيس الأميركي جو بايدن، الأكثر ارتياحاً، على المستوى السياسي، إثر المحاكمة، نتيجة طيّ هذه الصفحة التي ولّدت حراكاً ضخماً ضد العنصرية العام الماضي، إثر طيّه أيضاً بشكل نسبي ملف كورونا لناحية تداعيات الوباء الكارثية. لكن مقتل العديد من المواطنين السود على يد الشرطة، تزامناً مع محاكمة شوفين التي استمرت ثلاثة أسابيع، آخرهم مواطنة سوداء في اليوم ذاته من صدور الحكم، يبقي التوتر قائماً بين الشرطة والأقليات، وسط عقم في واشنطن لجهة التحرك جدّياً لإصلاح الشرطة. إلا أن كل ذلك لا يمنع من أن قرار المحكمة يبقى تاريخياً وغير مسبوق، في بلد لم يعتد على محاكمة شرطييه، وبـ"عدالة".
وكانت قضية فلويد قد ولّدت أيضاً انقساماً سياسياً في البلاد، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، إذ تمسكت فئة سياسية، جمهورية في الغالب، بسرديتها الخاصة المتعلقة بهذا الجدال التاريخي، رافضة "شيطنة" الشرطة. وحظيت المحاكمة باهتمام غير مسبوق، لاسيما منذ محاكمة أربعة شرطيين في العام 1991، في قضية مقتل المواطن الأسود رودني كينغ، ضرباً، وتبرئتهم في 29 إبريل/نيسان من العام ذاته، ما أثار حينها موجة احتجاجات عارمة في الولايات المتحدة. ومن أصل 984 أميركياً، قتلوا على يد الشرطة الأميركية عام 2020، وحده مقتل فلويد حظي بمحاكمة عادلة، حيث تضافرت عناصر عدّة مكنّت ذلك، أهمها الشاهدة دارنيلا فرازير، التي سجّلت جريمة قتل فلويد وصراخه "لا أستطيع التنفس"، بعد 10 دقائق من حصولها في 25 مايو/أيار الماضي.
وبعد حوالي عام على قتله فلويد في مدينة مينيابوليس في مينيسوتا، بعدما أوقفه للاشتباه بحيازته عملة نقدية مزورة من فئة 20 دولاراً، أدين الشرطي الأميركي ديريك شوفين، أول من أمس، بالتهم الثلاث التي وجهت إليه، وهي جريمة قتل من الدرجة الثانية وجريمة قتل من الدرجة الثالثة والقتل غير العمد، في محاكمة وصفت بالتاريخية في البلاد، وترافق قرارها مع مظاهر احتفال شعبي عمّت شوارع المدن والولايات الأميركية، كما تصدر القرار عناوين الصحف ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها.
وبعد المحاكمة التي استمرت جلساتها 3 أسابيع، أدانت محكمة مينيابوليس، شوفين (45 عاماً) بقتل فلويد. وبعد إشارة القاضي بيتر كاهيل إلى خطورة القضية، ودعوته هيئة المحلفين المختلطة عرقياً، والمكونة من نساء ورجال، إلى عدم الإذعان لـ"التحيز أو التعصب أو الشغف أو التعاطف أو الرأي العام"، احتاجت هذه الهيئة إلى أقل من 11 ساعة للتوصل الى قرار بالإجماع، بأن شوفين مذنب بالتهم الثلاث الموجهة إليه. وبعد قراءة القاضي بيتر كاهيل، حكم الهيئة، وضع أفراد الشرطة الأصفاد في يدي شوفين الذي كان طليقاً بكفالة ولم تظهر عليه أي علامات تأثر، واقتادوه خارج قاعة المحكمة، فيما عمّ الفرح عائلة فلويد، والمئات المحتشدين خارج مقر المحكمة، وفي ساحة فلويد في مينيابوليس، التي سمّيت باسمه بعد مقتل. ويواجه شوفين حكماً بالسجن لمدة 40 عاماً كحدّ أقصى في التهمة الأكثر خطورة، وهي القتل من الدرجة الثانية، على أن تعقد جلسة تحديد العقوبة في وقت لاحق. كما يواجه ثلاثة عناصر شرطة سابقين، آخرين هم تو ثاو وتوماس لاين وجي ألكساندر كوينغ اتهامات على صلة بمقتل فلويد، على أن تجري محاكمتهم بشكل منفصل في وقت لاحق من العام الحالي.
وتعليقاً على الحكم، أشاد محامي عائلة فلويد، بن كرامب، بما توصلت إليه هيئة المحلفين، باعتباره انتصاراً تاريخياً للحقوق المدنية، ويمكن أن يشكل ركيزة لإصدار تشريعات تتضمن إصلاحات للشرطة، خصوصاً في تعاملها مع الأقليات. وكتب كرامب على "تويتر"، أن "العدالة التي تألمنا لتحقيقها، حصلت عليها عائلة فلويد أخيراً. هذا الحكم هو نقطة تحول في التاريخ، ويبعث برسالة واضحة حول الحاجة إلى محاسبة مؤسسات إنفاذ القانون"، لافتاً إلى أن "العدالة للسود في أميركا، هي عدالة لجميع الأميركيين".
القس جيسي جاكسون: الجميع مرتاح، لكننا لا نحتفل لأن القتل يتواصل
وكانت المرافعات الختامية يوم الإثنين الماضي، قد تضمنت عرضاً لمقتطفات من مقطع الفيديو لوفاة فلويد، الذي شاهده الملايين حول العالم. وقال المدعي العام ستيف شلايكر، متوجهاً إلى هيئة المحلفين، إن "هذه القضية بالضبط ما كنتم تعتقدونه عندما شاهدتم ذلك الفيديو"، مضيفاً أن ذلك "لم يكن بمثابة عمل شرطي. لقد كان جريمة قتل. تسع دقائق و29 ثانية من إساءة استخدام السلطة بشكل صادم". وحاول محامي الدفاع عن شوفين، إريك نلسون، التأثير في الهيئة، لـ"رؤية تصرفات شوفين من منظور شرطي". موضحا "لم يستخدم القوة غير المشروعة عن عمد". كما أعاد القول بأن مرض القلب الذي كان يعانيه فلويد وتعاطيه المخدرات، كانا عاملين في وفاته، وذلك على الرغم من شهادات خبراء طبيين خلال المحاكمة حول سبب وفاة فلويد، وهو نقص الأوكسجين بعدما وضع شوفين ركبته على رقبته. بدورهم، أكد شرطيون أدلوا بشهاداتهم أمام النيابة العامة، أن القوة التي استخدمت وقت توقيف فلويد، كانت مفرطة وغير ضرورية.
وإثر صدور الحكم، أعرب الرئيس الأميركي جو بايدن لعائلة فلويد، في اتصال هاتفي، عن "ارتياحه" لقرار المحكمة، معتبراً أنه "في غاية الأهمية". كما اتصلت نائبة بايدن، كامالا هاريس، وهي أول نائبة رئيس سوداء في تاريخ الولايات المتحدة، بعائلة الضحية، واصفة الحدث بأنه "يوم للعدالة في اميركا". ولاحقاً، وصف بايدن في كلمة تلفزيونية له بعد الحكم العنصرية بأنها "لطخة على روح امتنا"، داعياً إلى "مواجهة العنصرية الممنهجة والتفاوتات العرقية الموجودة داخل الشرطة ونظامنا القضائي الجنائي". واعتبر الرئيس الأميركي أن هذا هو الوقت المناسب "كي نتوحد كأميركيين". بدوره، رأى الرئيس الأسبق باراك أوباما، أن "هيئة المحلفين قامت بما هو صحيح"، لكنه شدّد على أن "العدالة الحقيقية تتطلب ما هو أكثر من ذلك". وفي بيان لها، اعتبرت حاكم ولاية ميشيغين، الديمقراطية غريتشين وايتمار، أن الحكم هو "تذكير بأن علينا استمرار الدفع باتجاه العدالة في كل زاوية من مجتمعنا".
وفي التعليقات أيضاً، ذكر مكتب وكالة "أف بي آي" في بورتلاند أن الحكم هو "فرصة لمرة واحدة لبناء مجتمع أكثر عدالة". وفي مدينة سانت لويس، في ميسوري، رأى "اتحاد الشرطة لمجتمع أخلاقي"، وهو اتحاد شرطة يهيمن عليه أفراد من أصول أفريقية، أن "النصر صغير، لكنه تاريخي"، مضيفاً أن "الحاجة الملحة هي لاستمرار النضال من أجل التغيير. نحتاج لإنهاء العنصرية الممنهجة". وقال القس جيسي جاكسون، من مينابوليس، لـ"أسوشييتد برس"، عبر الهاتف، إن الجميع "مرتاح، لكننا لا نحتفل لأن القتل يتواصل"، آملاً أن تشكل المحاكمة "نقطة تحول لوقف عمليات الإعدام خارج نطاق القانون".
من جهتهم، كان القادة في الحزب الجمهوري أكثر تحفظاً في مواقفهم تجاه الحكم. وقال السيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، إنه "قرار هيئة المحلفين، أظن أنه سيتم الاستئناف بمعزل عما إذا كانت المحاكمة عادلة أم لا، لكنني أكدت للجميع أن النظام يسير بهذه الطريقة، أقبل حكم الهيئة، وأترك الأمر للمحكمة".
وترافق اختتام محاكمة شوفين، مع تعزيزات أمنية مكثفة في أكثر من ولاية أميركية، لا سيما جرّاء الاحتقان الذي يسود لدى الأقليات، نتيجة استمرار عنف الشرطة. وكانت مينيابوليس، حيث جرت المحاكمة، ساحة للاحتجاجات الليلية منذ مقتل شاب أسود آخر يبلغ من العمر 20 عاماً، هو دونتي رايت، في إحدى ضواحي مدينة مينيسوتا في 11 إبريل/نيسان الحالي، على يد شرطية. وحصل ذلك بالتزامن أيضاً مع مقتل الطفل آدم توليدو على يد الشرطة في شيكاغو. وقتلت الفتاة السوداء ماخيا براينت، في اليوم ذاته من إصدار الحكم في جريمة شوفين، في مدينة كولومبوس، في ولاية أوهايو، بنيران الشرطة، التي رصدت عبر كاميرات لها محاولة الفتاة التهجم على سيدتين، حاملة سكيناً، ما أججّ أيضاً احتجاجات على مقتلها في المدينة. وعلى الرغم من الأجواء الاحتفالية السلمية التي أعقبت إدانة شوفين، إلا أنه تمّ تسجيل أعمال شغب وسرقة محال تجارية أو كسر زجاج واجهتها في بعض الأماكن.