يرفض المحلّل التركي المقرّب من "حزب الشعب الجمهوري" شوكت أقصوي، ما يتردد بأوساط المحللين والإعلام، بأن الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية محسومة لصالح مرشح "التحالف الجمهوري" رجب طيب أردوغان، لأن أهم كتلتين انتخابيتين، ما زالتا تصبّان في صالح مرشح "الشعب" كمال كلجدار أوغلو، وهما الأكراد (نحو 15 مليوناً)، خاصة بعد بيان "حزب الشعوب الديمقراطي" المؤيد لمرشح "الشعب"، وإسطنبول التي قالت كلمتها، خلال الجولة الأولى، وستكررها برأي المحلل التركي، خلال الجولة الثانية.
ويعتبر أقصوي خلال حديثه مع "العربي الجديد"، أن إسطنبول "أدارت ظهرها" لـ"حزب العدالة والتنمية" وأردوغان، منذ انتخابات عام 2019، ووصول "حزب الشعب الجمهوري" لرئاسة بلديتها الكبرى، فاختلفت الخدمات برأيه، وزالت بعض الصور النمطية المكونة عن حزب "الشعب"، خاصة أن رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، وصل من بلدية بيلك دوزو، "أكبر مناطق إسطنبول وأكثرها أصواتاً" بعد خدمات نوعية وتطور جذري يقرّ به جميع سكان إسطنبول الكبرى حتى اليوم.
وفي حين يلفت المحلل التركي إلى أن إسطنبول اليوم تبدلت كلياً على الصعيد الديمغرافي، فجاءها مثقفون وعلمانيون من مختلف الولايات، ولم تعد "إسلامبول" المرسومة بذهنية "العدالة والتنمية"، وقت أوصلت رئيس بلديتها رجب طيب أردوغان إلى رئاسة الحكومة، يشير إلى أن المرشح أردوغان تفوّق بالجولة الأولى في 51 ولاية، في حين لم يتفوق المرشح كلجدار أوغلو إلا في 30 ولاية، لكن السبق بإسطنبول بنحو 2%، له دلالاته التي ربما تزيد خلال الجولة الثانية، إذ "بلغت نسبة التصويت لصالح كلجدار أوغلو 48.55% في إسطنبول، مقابل 46.69% لأردوغان".
وتسابق كلا المرشحيّن اليوم على إسطنبول، لأنها، برأي الأتراك، ولاية وازنة وذات مزاج حاد، لها 98 مقعداً في البرلمان من أصل 600، ويبلغ إجمالي ناخبيها 11.350.971 مواطناً يعيشون في 39 منطقة وحياً، ما يمثل نحو 17.7% من أصوات الناخبين الكلي للدولة التركية.
وليس من السهل برأيهم، تبديل مزاجها خلال 14 يوماً، المدة الفاصلة بين الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهدتها البلاد، وبين الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، فجولة الإعادة ليست بالتأكيد انتخابات مستقلة يمكن سلخ نتائجها عن الجولة الأولى، فالمتنافسان، هما ذاتهما المرشحان الرئيسان في الجولة الأولى، بعد خروج المرشح السابق سنان أوغان الذي لم يحقق سوى ما نسبته 5.7% من أصوات الأتراك، وربما ظروف الانتخابات والعوامل المؤثرة في التصويت في الجولة الأولى، لم تتبدل كثيراً أو تبدل في اتجاهات التصويت، عدا اختلالات بالتحالفات نتجت عن توزع أحزاب تحالف "أتا" (أي الأجداد)، ما يبقي على وزن إسطنبول كبيضة قبان وثقل انتخابي يتسابق إليه المرشحان.
لكن الباحث التركي، رجب شان تورك، يعترض هنا على ما يروّج له البعض، بأن حزب "الشعب" أو رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، إمام أوغلو، أحدثا فارقاً خدمياً أو طوّرا من إسطنبول، بقوله "أعطني مشروعاً كبيراً أو علامة فارقة بإسطنبول قاموا بها". ويضيف لـ"العربي الجديد"، أن المشروعات الكبرى جميعها حققها "العدالة والتنمية"، بل وأردوغان من بدّل صورة إسطنبول وقت كان رئيس بلديتها منتصف التسعينيات.
ولكن، يلفت شان تورك، إلى أن نسبة أصوات إسطنبول خلال الجولة الثانية "على الأرجح لن تتغيّر"، وستكون في صالح مرشح "الشعب"، أو ربما يتعادل المرشحان فيها، لأن شيئاً على صعيد الأسباب السابقة التي دفعت الأكثرية للتصويت لكلجدار أوغلو، لم يتبدل، قائلاً: "من الخطأ التعويل على انقلاب جذري بأصوات إسطنبول".
وحول أسباب خسارة "العدالة والتنمية" والمرشح أردوغان أصوات إسطنبول، يرى الأكاديمي التركي أن السبب الأهم يكمن في رؤية الناخب، وعدم رضاه على حزب أو شخص يبقى بالسلطة لفترة طويلة، خاصة بواقع عزف "تحالف الطاولة السداسية" على هذا الوتر، ووعده الشعب بالتغيير، و"أخصّ هنا"، يقول شان تورك، جيل الشباب المسمّى "جيل زد"، فهو لا يعرف إسطنبول بالتسعينيات، ولا يعرف التغيير الذي أحدثه فيها أردوغان أو "حزب العدالة والتنمية".
ولكن، يستدرك المتحدث، علينا عدم إغفال مهارة حزب "الشعب" أو تحالف الطاولة السداسية برمتها، بالتواصل الاجتماعي والتأثير في عواطف الناخبين، الشباب والنساء خصوصاً، من خلال الوعود بالتغيير وطرد اللاجئين والبحبوحة الاقتصادية، خاتماً أن الفارق بالأصوات يعود لأسباب أيديولوجية وليست خدمية.
وتُعدّ إسطنبول، إلى جانب إزمير وأنقرة، محافظات كبرى يجري تقسيم كل واحدة منها إلى دوائر عدة، لتضم الدوائر بعموم تركيا 191 ألفاً و884 صندوق اقتراع، لكن الأهمية والثقل، دائماً لإسطنبول التي يسكنها أكثر من 11.350 مليون ناخب فوق سن 18 سنة، ما يشكل أكثر من 17.7% من العدد الكلي للناخبين الأتراك.
ويسأل مراقبون، هل بالفعل يمكن لهذه الولاية التي هي بحجم دولة، أن توصل من تنتخبه إلى حكم تركيا، انطلاقاً من المقولة المنسوبة للرئيس أردوغان "من يفوز بإسطنبول يحكم تركيا"، قبل أن تتبنى المقولة المعارضة ما بعد عام 2019؟
يقول المحلل المختص بالشأن التركي سعيد الحاج: "أنا من الذين يعتبرون عبارة "من يفوز بإسطنبول يحكم تركيا ومن يخسر فيها يخسر تركيا" عبارة صحيحة لكنها فضفاضة، أي يمكن الاستئناس بها، ولكن ليس شرطاً أن تكون واقعية عملياً، ومفهومها يدلل على أهمية الولاية لتحفيز الكوادر الحزبية، والمكنة الانتخابية، والناخبين، للتصويت وإحساسهم بأهمية أصواتهم. فهي خزان انتخابي كبير يقترب من نحو 20% من مجمل أصوات تركيا، كما أنها تركيا مصغرّة، لجهة أن سكانها يعكسون تركيا جغرافياً وحزبياً وسياسياً".
ويضيف: "لكن فكرة أنها الفيصل ومن يفوز بأصوات ناخبيها يصل للرئاسة، فكرة فضفاضة وليست مطلقة، لأن هناك أكثر من 80% من الأصوات خارج إسطنبول، كما أن إسطنبول لا يوجد فيها طغيان كاسح وغلبة كبيرة لحزب، هي متوازنة لحدّ كبير، في حين توجد ولايات محسومة والأصوات فيها قد يكون لها أثر كبير".
ويتابع الحاج لـ"العربي الجديد": "صحيح نرى تراجعاً بأصوات الناخبين لحزب العدالة والتنمية أو الرئيس أردوغان، لكن عدم خسارته بفوارق هائلة بإسطنبول، إلى جانب حفاظه، وحزبه، على شعبيته بولايات البحر الأسود مثلاً، أعطاه استمرارية بحكم تركيا، كما أن تفوق مرشح "الشعب" بإسطنبول، لم يوصله لحكم تركيا، بدليل النتائج النهائية بالمرحلة الأولى التي تفوق خلالها أردوغان".
ويختم الباحث الحاج: "لا يمكن، بأي حال، إغفال أهمية ووزن إسطنبول، بدليل رؤيتنا أن أردوغان أو مرشح المعارضة، يخصصان آخر حملاتهما بإسطنبول، وربما أكثر من مرة، لتحفيز وتحشيد الناخب وإظهار القوة".
وسواء كانت المقولة صحيحة بالمطلق أو مؤشراً مهماً، تبقى إسطنبول تحظى باهتمام الحكومة التركية المتواصلة لتبقى العاصمة الاقتصادية، رغم أن أنقرة عاصمة تركيا منذ 23 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1923، ويُجمع كل من يتطلع للاستثمار بتركيا، أن إسطنبول هي المنطلق، نظراً لما تحويه من استثمارات ضخمة، ومراكز اقتصادية متخصصة، وسوق استهلاكية بحجم دولة.
وفضلاً عن أهمية إسطنبول السياحية، على اعتبارها موقعاً أثرياً متكاملاً ومتحفاً تاريخياً كبيراً، فهي توفر فرص عمل لـ20% من اليد العاملة في تركيا، وتساهم بـ22% من الناتج القومي التركي، ويؤخذ منها 40% من مجموع الضرائب في الدولة، وتنتج 55% من الصادرات التركية.
لهذا، وربما لغيره من الأسباب، يحاول "حزب العدالة والتنمية" خلال الجولة الثانية، نيل ثقة ناخبي إسطنبول، إذ حافظ على رئاسة البلدية الكبرى للولاية منذ تأسيسه عام 2002، حتى الانتخابات البلدية عام 2019، بل ولم يصل حزب "الشعب الجمهوري"، أكبر الأحزاب المعارضة لبلدية إسطنبول، حتى قبل تأسيس "العدالة والتنمية"، إذ وصل رجب طيب أردوغان لبلديتها الكبرى منتصف تسعينيات القرن الماضي، عن "حزب الرفاه".
ويقول عضو حزب "العدالة والتنمية" الحاكم باكير أتاجان: "تاريخياً، منذ إعلان الجمهورية عام 1923 وحتى عام 1994 وإسطنبول تتبع لحزب "الشعب الجمهوري"، حالها كحال الولايات الكبرى أنقرة، وإزمير، وأضنة، ولكن جرى كسر هذا العرف عام 1994، حينما وصل أردوغان لرئاسة البلدية الكبرى، في مارس/آذار من ذلك العام عن "حزب الرفاه"، واستمرّ الأمر في رئاسة البلدية، بعد تأسيس "حزب العدالة" عام 2002 وحتى عام 2019". لذا برأيه، إسطنبول ذات هوية معارضة، "قلعة حزب الشعب كما إزمير"، ولا غرابة بتفوّق كلجدار أوغلو بأصوات ناخبيها.
ولكن، يستدرك أتاجان، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن تقليل الفارق بكل انتخابات لصالح حزب "العدالة والتنمية"، حتى وصل لنحو 220 ألف صوت خلال الجولة الأولى، من المؤمل أن يستمرّ، لنكون ربما أمام 100 ألف صوت لصالح مرشح "الشعب".
وحول ماذا يفعلونه كحزب لجسر الفجوة وكسب الأصوات، يقول عضو "العدالة والتنمية": "بالدرجة الأولى، نعيد التذكير، خاصة للشباب، بأن وجه إسطنبول الحالي ومشاريعها الكبرى، جميعها إنجازات أردوغان و"العدالة والتنمية"، كما جرى الإيعاز من الرئيس، بزيارة المنازل، والوقوف على آراء ومطالب سكان إسطنبول، ومحاولة شرح أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية، وما ينتظرهم بالمستقبل، خاصة بعد اكتشاف الغاز ووصوله للمنازل والمنشآت، من دون أن نوضح عدم تنفيذ وعود رئيس البلدية أكرم إمام أوغلو".
ورداً على سؤال هل يمكن بهذه الخطط الوصول للتفوّق بأصوات إسطنبول؟ يقول أتاجان: "صعب إن لم نقل مستحيلاً، ولكن على الأرجح سيجري تقليل الفارق"، معتبراً أن ملامح فوز أردوغان "باتت واضحة، وبنسبة ستصل إلى 53%".