لم تكن أعمال التجريف التي نفذتها ما تسمى بـ"سلطة الطبيعة" الإسرائيلية أخيراً في مقبرة اليوسفية، المتاخمة للمسجد الأقصى، الاعتداء الأول والوحيد لسلطات الاحتلال على المقابر الإسلامية في مدينة القدس، بل شكّلت امتداداً لسلسلة طويلة من الاعتداءات، كان أبرزها حين جرى استهداف مقبرة مأمن الله في القطاع الغربي المحتل من القدس، قبل نحو عقدين، حين جرف الاحتلال مئات القبور وأقام على أنقاضها ما يسميه بـ"مركز التسامح". ومن أبرز الاعتداءات أيضاً، استهداف مقبرة باب الرحمة الملاصقة للسور الشرقي للمسجد الأقصى، حيث اقتطعت مساحة كبيرة من أرضها لصالح توسعة الطريق المؤدي من باب الأسباط إلى باب المغاربة. ومن مقبرة مأمن الله، إلى مقبرة باب الرحمة وامتدادها في الشمال، أي مقبرة اليوسفية، يواصل الاحتلال انتهاك المقابر الإسلامية في القدس المحتلة، لا سيما في محيط الأقصى، بالإضافة إلى ما طاول مقابر مدن فلسطينية أخرى منذ عمر الاحتلال. ويرى مختصون أن كل ذلك يأتي في سياق محاولات الاحتلال استكمال "الأسطورة التوراتية" في القدس، وخططهم الاستيطانية، ومحاصرة الأقصى. ويقول رئيس لجنة إعمار المقابر الإسلامية في القدس، المهندس مصطفى أبو زهرة، إن الاحتلال والمتطرفين لا يوفرون في انتهاكاتهم أي مقدّس، ويعتدون على المساجد، وعلى عموم مقدسات المسلمين والمسيحيين، وحتى على المقابر والأموات".
الخرائط والمخططات الرسمية الإسرائيلية تعتبر مقبرة باب الرحمة متنزهاً إسرائيلياً عاماً
المخطط الهيكلي
وتعليقاً على الاعتداء بالتجريف وطمس بعض القبور والأضرحة الذي تعرضت له مقبرة اليوسفية أخيراً، يوضح مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية، خليل التفكجي، أن التلة الواقعة قبالة سوق الجمعة، والتي فيها النصب التذكاري للجندي المجهول، تم استملاكها من قبل أمانة القدس من عائلة المظفر المقدسية، لإقامة متنزه عام هناك، في حين أن الطريق الواصل من سوق الجمعة إلى باب الأسباط هو وقف إسلامي، أما الطريق عند باب الأسباط، فوقف ذري (أهلي) لعائلتي الحسيني والأنصاري، كما تظهر وثائق جمعية الدراسات العربية. ويشير التفكجي في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن موضوع المقابر الإسلامية في القدس يندرج في إطار ما يسمى بالمخطط الهيكلي ("المدينة القديمة 6")، في عام 1968، وترتبط قضية مقبرة الرحمة على سبيل المثال، بأسطورة توراتية تزعم أن المسيح المنتظر سيدخل إلى القدس القديمة من باب الرحمة، في حين أن مقبرة اليوسفية تشكل مدخلاً لبرج اللقلق، حيث تعتزم سلطات الاحتلال بناء مستوطنة هناك.
ويشتمل مشروع إقامة هذه المستوطنة داخل أسوار البلدة القديمة من القدس، على بناء عمارات سكنية وبؤر استيطانية وكنيس يهودي على مساحة خمسة دونمات في قلب حي برج اللقلق، حيث سيمتد هذا الحي حتى مشارف باب الساهرة، ولا يبعد سوى عشرات الأمتار عن شمال شرقي الأقصى، وبالتالي فإن الاحتلال سيحكم سيطرته على الأقصى من جهة، ويوصل من جهة أخرى الحي الجديد بحي حارة اليهود، الذي يقطنه حالياً قرابة خمسة آلاف مستوطن.
إطباق الحصار على الأقصى
وتشكل انتهاكات الاحتلال للمقابر الإسلامية، وتحطيم الشواهد في مقبرة باب الرحمة الإسلامية والتاريخية، حلقة ضمن سلسلة طويلة من الانتهاكات الإسرائيلية، بدأت بتجريف القبور في يافا وغيرها من المدن الفلسطينية، مروراً بمقبرتي مأمن الله والنبي داوود وباقي المقابر في مدينة القدس المحتلة. ويتهم المقدسيون، ومن بينهم مسؤولون في الأوقاف الإسلامية، اليوم، سلطات الاحتلال، بتنفيذ مخطط جديد للاستحواذ على ما تبقى من مقبرة باب الرحمة، واقتطاعها لصالح مشاريع تهويدية تستهدف أساساً المسجد الأقصى ومحيطه، إذ يتركز العمل حالياً على إزالة أشجار معمرة وبناء جدران حديدية، ما سيغير من معالم المنطقة.
ووفقاً لمسؤول قسم المخطوطات في الأقصى سابقاً، رضوان عمرو، في حديثه لـ"العربي الجديد"، فإن تنفيذ هذا المخطط، سيؤدي إلى إطباق الحصار على المسجد من ثلاث جهات، الغربية والجنوبية والشرقية، وعزله عن محيطه الإسلامي، وإدخاله بين فكي كمّاشة التهويد، مع مصادرة ثلث مساحة المقبرة الحالية، وهي نصف مساحة الأرض الوقفية الأصلية التي كانت قبل عام 1967، والتي صودرت في مراحل سابقة. كما تم وضع اليد على تلة استراتيجية أثرية ملاصقة لباب الأسباط. وسيؤدي هذا المخطط إلى تعريض مئات القبور والأضرحة الإسلامية للإزالة، كما حصل في مقبرة مأمن الله وغيرها، ووقف الدفن نهائياً في المقبرة الأكثر أهمية في القدس، إضافة إلى تمهيد الطريق لمشروع التقسيم والاستيلاء على باب الرحمة والمنطقة الشرقية في الأقصى، وتنفيذ مشروع القطار الهوائي (تلفريك) ونصب قواعد له في الأرض الوقفية بمحاذاة أسوار الأقصى.
ويخشى المقدسيون من أن تؤدي هذه المخططات، من خلال الاستيلاء على جزء من المقبرة، إلى تغيير ملامح المدينة، وطمس ماضيها العربي والإسلامي، كما يؤكد المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد حسين، إذ كان سبق ذلك تعرض المقبرة لعمليات تخريب وتدنيس، واستخدام سموم، وتناول كحول، والقيام بأعمال مشينة فيها.
ويشير بروتوكول للمحكمة العليا الإسرائيلية، حول ملفات التماس قدمتها منظمات وشخصيات استيطانية بشأن مقبرة باب الرحمة، إلى أن هذه المقبرة عبارة عن مساحة عامة مصادرة من قبل بلدية الاحتلال في القدس، وأن الخرائط والمخططات الرسمية الإسرائيلية تعتبر مقبرة باب الرحمة متنزهاً إسرائيلياً عاماً. من جهته، يشدّد المفتي الشيخ محمد حسين، في حديثه لـ"العربي الجديد"، على أن "نبش القبور يمثل انتهاكاً صارخاً لحرمة الأموات في هذه المقبرة التاريخية، وعمليات الحفر تسببت بنبش مئات القبور لموتى المسلمين". ويلفت إلى أن ما يجري "هو اعتداءات بتكسير شواهد القبور ونبشها، وهذه محاولات يائسة للإسرائيليين، خصوصاً المتطرفين منهم، الذين يريدون أن يضعوا مكان هذه القبور حدائق تلمودية، وهذا أمر مرفوض في كل القوانين والأعراف والشرائع السماوية". ويشير حسين إلى أن الاحتلال "تجاوز كرامة الأحياء والأموات، والكرامة الإنسانية، ونحن في حاجة إلى وقفات جادة لحماية المقابر بشتى الوسائل القانونية والسلمية للدفاع عنها، ودفع أذى المتطرفين والاحتلال". وندّد بإنشاء ما يسميه الاحتلال "متحفاً للتسامح" على مقبرة مؤمن الله، والذي أكد أنه أمر غير معقول، متسائلاً عن "أي تسامح يمكن أن ينشأ على رفات وجثث المسلمين؟".
مقبرة اليوسفية
وتعد مقبرة اليوسفية، أو ما يطلق عليها اسم مقبرة باب الأسباط، إحدى أشهر المقابر الإسلامية في القدس، ويعود إنشاؤها إلى عهد الدولة الأيوبية. وتقع هذه المقبرة على تلة مرتفعةٍ تمتد من الزاوية الشمالية لباب الأسباط، ومنها إلى ناحية الشرق بحوالي 35-40 متراً، وتلتقي حدودها مع الشارع العام المسمى طريق أريحا، والذي ينحدر جنوباً إلى أن يتقاطع مع الشارع الصاعد إلى باب الأسباط. وتكون المقبرة بذلك قد اتخذت رقعةً واسعةً على شكل شبه منحرف، حيث تتسع في الجنوب ليصل عرضها إلى حوالي 105 أمتار، فيما تضيق ناحية الشمال.
واليوسفية مقبرة غير ملاصقةٍ للسور، بخلاف مقبرة باب الرحمة، حيث تفصلها عن السور مسافةٌ تتراوح ما بين 10 إلى 15 متراً، وتستخدم كطريق نحو باب الأسباط.
وتوجد للمقبرة اليوسفية بوابتان: الأولى في الشمال بالقرب مما يُعرف بسوق الجمعة، حيث كانت مكاناً لبيع وشراء الأغنام والدواب أيام الجُمع، وذلك قبل إغلاق السوق من قبل بلدية الاحتلال، وتحويله إلى مكب للنفايات، أما الثانية فتقع في الجنوب، علماً أن البوابتين ترتبطان بطريقٍ مرصوفٍ بالحجارة البيضاء بعرض أربعة أمتار تقريباً، حيث تنفصل المقبرة إلى نصفين، غربي وشرقي.
أقام الاحتلال على أنقاض مئات القبور في مقبرة مأمن الله ما يسميه مركز التسامح
ولم تحظ مقبرة باب الأسباط باهتمام الكتّاب والمؤرخين مقارنةً بمثيلاتها في القدس، وذلك على الرغم من كبر مساحتها وعظم مكانتها لما تضمّه من رفات الشهداء والعلماء والمجاهدين والصالحين. وتُرجح المصادر أن مقبرة باب الأسباط قد أُقيمت في عهد الدولة الأيوبية، وسميت باليوسفية، نسبةً إلى صلاح الدين الأيوبي، حيث اسمهُ يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدُويني التكريتي. وذكر محمد بن يوسف الكندي، في كتابه "ولاة مصر"، أن أبا الحسن علي بن الإخشيد، المُتوفَّى في عام 355 هجري، حُمل في تابوت إلى بيت المقدس، ودفن مع أخيه ووالده في باب الأسباط. ويشير تاريخ الدفن هنا إلى عهد الدولة الفاطمية، ولم تكن هنالك مقبرة تعرف بهذا الاسم. ويمكن الاستنتاج في هذا المقام أن المقصود، هو مكان قريب من باب المدينة الشرقي والمعروف بباب الأسباط، ويرجح أن تكون المقبرة المقصودة هي مقبرة باب الرحمة، كونها تعود إلى الحقبة العُمريَّة، ما يؤكد أن إنشاء مقبرة باب الأسباط أو اليوسفية يعود إلى عهد صلاح الدين، وأنه جرى تطويرها ربما في زمن المماليك في ما بعد. ويأتي ذلك على الرغم من أن بعض المؤرخين يُرجعون إقامتها إلى قانصوه اليحياوي، كافل الديار الشامية زمن المماليك، والذي يقال إنه عمّر مدفناً له ولأولاده شمال مقبرة الرحمة.
تضم مقبرة اليوسفية، عدداً من المعالم، ومنها النصب التذكاري لشهداء حرب 1967، ونصب تذكاري لشهداء مذبحة الأقصى الأولى عام 1990. كما تضم ما يُعرف باسم "مقبرة الإخشيديين"، حيث قبر مؤسس الدولة الإخشيدية في مصر، محمد بن طغج الإخشيد، وقبر أنوحور بن محمد الإخشيد، وقبر علي الإخشيد، شقيق أنوحور. كما تضم عدداً من المدافن العائلية الكبيرة والبارزة، والتي يزيد عمرها عن قرن، وهي تعود إلى عائلاتٍ مقدسية تمتعت بمكانة سياسية واجتماعية واقتصادية ليس فقط في بيت المقدس، وإنما في كامل الديار الفلسطينية، ولعلَّ هذا ما جعل المقبرة غنية بأعداد الشهداء والأعيان والصالحين والمربّين والقضاة والأطباء والشيوخ.
تُعاني مقبرة باب الأسباط كغيرها من المقابر والمعالم الإسلامية في القدس من انتهاكاتٍ إسرائيلية تهدف إلى تهويد القدس، حيث تعرضت في إبريل/نيسان 2015 إلى عبث ثلاث فتيات إسرائيليات، قمن برسم نجمة داود الإسرائيلية على إحدى المقابر، وكتبن جملةً بالعبرية معناها بالعربية "دفع الثمن". كما هدمت بلدية الاحتلال بعضاً من قبور اليوسفية في عام 2014، وتعرضت المقبرة أيضاً لانتهاكاتٍ بالكتابة على القبور في عام 2018.
مقبرة باب الرحمة
هي إحدى أشهر المقابر الإسلامية في القدس المحتلة، وتقع تحديداً عند السور الشرقي للمسجد الأقصى، وتتشكل من قسمين، شمالي وجنوبي، وتمتد من باب الأسباط، أحد البوابات الرئيسية للبلدة القديمة من ناحية الشرق، وحتى نهاية سور المسجد بالقرب من القصور الأموية في الجهة الجنوبية. تبلغ مساحة مقبرة باب الرحمة نحو 23 دونماً، وتضم قبور العديد من صحابة الرسول، أبرزهم عبادة بن الصامت وشداد بن أوس، إضافة إلى قبور لمجاهدين اشتركوا في فتح القدس أثناء الفتحين العمري والأيوبي. ومن أبرز معالم المقبرة أيضاً، قبر جماعي لنحو 130 شهيداً مصرياً ارتقوا في حرب عام 1948، كما تقع بعض القبور العثمانية في جوار باب التوبة.
ومنذ احتلال القدس في عام 1967، تعرضت مقبرة باب الرحمة، وامتدادها في الشمال، المعروف باليوسفية، لمسلسل مستمر من اعتداءات الاحتلال، كان أخطرها اقتطاع أجزاء كبيرة منها لصالح شارع استيطاني يصل باب الأسباط بباب المغاربة وسلوان. وفي يونيو/حزيران 2004، وقّع رئيس بلدية الاحتلال السابق في القدس، أوري لوفولينسكي، على أمر هدم إداري لجزء من المقبرة ومنع أعمال الصيانة فيها. وتعتزم حكومة الاحتلال حالياً تحويل جزء من المقبرة إلى حديقة توراتية ضمن مشروعها لتهويد المدينة.
مقبرة مأمن الله
تتعرض مقبرة اليوسفية حالياً للتجريف وطمس بعض القبور والأضرحة فيها
تعتبر كبرى مقابر القدس، وتقع على بعد كيلومترين من باب الخليل إلى الغرب من البلدة القديمة، وتبلغ مساحتها نحو مائتي دونم، وكانت منذ الفتح الإسلامي وحتى عام 1948 المقبرة الرئيسية لدفن موتى المسلمين، لكن محاولات تهويدها بدأت مبكراً، وأزيل حتى الآن 97 في المائة من شواهد قبورها، التي لطالما شكلّت حلقة وصل بين الأحفاد والأجداد.
وكانت سلطات الاحتلال قد حوّلت 70 في المائة من مساحة هذه المقبرة إلى حديقة أطلق عليها اسم "حديقة الاستقلال"، كما نُبشت قبورها، وأقيم على جزء من المقبرة فندق ضخم وموقف للسيارات، وما يسمى بـ"متحف التسامح"، إضافة إلى مدرسة وحمامات عامة. ويجري الاستعداد حالياً لإنشاء منتجع يحتوي على برك ضخمة للسباحة، على أرض المقبرة.
مقبرة النبي داوود
تقع على جبل صهيون، وتضم مجموعة من المدافن لعائلة الدجاني المقدسية، لكنها لم تعد تُستخدم بعد منع سلطات الاحتلال المقدسيين من دفن موتاهم فيها.