يدخل المشهد الحزبي في المغرب عام 2021 مثقلاً بأزمات وتحديات عدة، فمن اليمين إلى اليسار، تبدو الصراعات الداخلية هي سيدة الموقف، في ظلّ سياق سياسي دقيق وصعب يتسم بفقدان المواطن الثقة بالعملية السياسية والانتخابية كما في القوى السياسية المرتبطة بها.
وفيما ألقى الوضع الصعب الذي فرضه انتشار فيروس كورونا في المغرب منذ مارس/ آذار الماضي بظلاله على المشهد السياسي، عاشت العديد من الهيئات الحزبية في الأغلبية والمعارضة على حد السواء، منذ بداية السنة الحالية، مخاضاً مؤلماً وأزمات حادة وسط قيادتها وقواعدها.
وتمثل آخرها بما يعرفه أكبر الأحزاب المغربية، حزب "العدالة والتنمية"، من توتر تنظيمي منذ العاشر من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، تاريخ إعلان الاتفاق على استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل.
وفيما وجدت قيادة الحزب، الذي يبني عقيدته السياسية منذ نشأته على رفض التطبيع، نفسها في موقف محرج أمام مناضلي "العدالة والتنمية" والرأي العام، وهي تصطدم بقرار استئناف العلاقات مع تل أبيب، ألقى توقيع أمينه العام، رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، في 23 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، على الإعلان الثلاثي بين الرباط وواشنطن وتل أبيب بظلاله الثقيلة على الحزب ووصل إلى حد المطالبة بإقالته والدعوة إلى مؤتمر استثنائي للإطاحة به من على رأس الحزب.
حتى الآن، يبدو أن مساعي تطويق ارتدادات "زلزال التطبيع" على البيت الداخلي وتجنيب الحزب انعكاسات أزمة غير مسبوقة في تاريخه لن تكون بلا ثمن باهظ، وقد تكون بداية الانحدار والسقوط من القمة انطلاقا من المحطة الانتخابية القادمة صيف 2021.
ولئن كان "العدالة والتنمية" لم يعرف طيلة مساره أزمة كالتي يعيشها خلال الأيام القليلة الماضية، والتي لم تحصر إلى حد الساعة جميع تداعياتها، فإن حال ثاني أكبر حزب سياسي في المغرب، "الأصالة والمعاصرة"، لم يكن أحسن حالا من حال غريمه السياسي.
ويعيش الحزب منذ مؤتمره الرابع الذي عُقد بين 7 و9 فبراير/ شباط الماضي أزمة تنظيمية حملت وجهاً سياسياً، حينما تمكن عبد اللطيف وهبي، بمعية باقي قياديي تيار "المستقبل"، من حسم "معركة كسر العظام" مع خصومه في تيار "المشروعية" بقيادة عبد الحكيم بنشماش، الأمين العام السابق، في جو اتسم بالتوتر، وسيطرت عليه مظاهر الاحتجاجات والتشابك بالأيدي والانسحاب الجماعي من سباق الأمانة العامة.
تلك الأجواء جعلت الحزب الذي ينعت بأنه مقرب من السلطة أمام مفترق طرق ينذر بحدوث انشقاقات. إذ في الوقت الذي كان من المفترض فيه أن تبذل القيادة الجديدة مجهوداً كبيراً واستثنائياً لإصلاح ما أفسده المؤتمر، بدفن ماضي الخلافات وتحقيق المصالحة الداخلية التي تحفظ وحدة الحزب الطامح إلى تصدّر الانتخابات التشريعية في العام 2021، عاش الحزب خلال الأشهر الماضية أتون حربٍ جديدةٍ بسبب التدافع بين تيار "المستقبل" وتيار "المشروعية"، حول العضوية في المكتب السياسي، الجهاز التنفيذي للحزب. وتصاعدت وتيرة الأزمة، بعد إقدام وهبي على تعيين مكتب سياسي غير منتخب من طرف المجلس الوطني (برلمان الحزب)، والانفراد بإحداث لجنة القوانين، وتعيين أعضائها، فضلاً عن إعفائه 8 أمناء عامين جهويين.
وأثارت تلك القرارات موجة من ردود الفعل الغاضبة داخل "الأصالة والمعاصرة"، دفعت الرئيس السابق لفريقه في مجلس النواب، الغرفة الأولى للبرلمان المغربي، محمد أبودرار، إلى الاستنجاد بالقضاء، فيما سعى بعض معارضي القيادة الجديدة للبحث عن وجهة حزبية جديدة.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه أن تعرف ردهات المحاكم، خلال الأيام القادمة، جولة جديدة من الصراع بين القيادة الجديدة للحزب ومعارضيها، عاش حزب "التجمع الوطني للأحرار"، ثاني أكبر حزب في الائتلاف الحكومي الحالي في المغرب، خلال السنة الحالية، على إيقاع أزمة حادة وسط قيادته وفي فروعه، في وقت ما زالت فيه قيادة الحزب لم تتعافَ من تأثيرات المقاطعة الاقتصادية التي طاولت ثلاث علامات تجارية عام 2018، من ضمنها شركة توزيع المحروقات المملوكة لرئيسه وزير الزراعة، عزيز أخنوش.
وشكل إعلان قياديين في الحزب الانتقال إلى مرحلة التنسيق وتسريع الخطوات، من أجل الإعلان عن ولادة "حركة تصحيحية" للقطع مع ما سموه منطق المقاولة الذي أصبح يدار به الحزب، أقوى لحظات الأزمة التي تضرب "الأحرار" ين جناحين، واحد يقوده الوزيران السابقان محمد أوجار ومحمد عبو، وثان يتزعمه مؤيدان لأخنوش، وهما وزير الشباب والرياضة السابق رشيد الطالبي العلمي، وعضو المكتب السياسي ومدير الحزب مصطفى بيتاس.
هذه الأجواء جعلت الحزب، الذي تأسس سنة 1977 على يد أحمد عصمان، صهر الملك الراحل الحسن الثاني، وعرف باسم "الحزب الإداري"، أمام مفترق طرق ينذر بحدوث انشقاقات في ظل سعي جناح الطالبي العلمي وبيتاس السيطرة على الحزب قبيل الانتخابات المقبلة، كما أثارت أكثر من علامة استفهام حول تأثير ذلك على حظوظه خلالها.
خارج هذا الثلاثي الذي من المنتظر أن تشتد المنافسة بينه خلال النزال الانتخابي لـ 2021، لا يختلف المشهد بشكل كبير داخل حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، أكبر حزب يساري في المغرب، الذي عاش خلافات بسبب مشروع قانون "تكميم الأفواه"، الذي أشعل نار الغضب ضد قيادة الحزب، بعد أن أضر بإرث الاتحاديين في الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات.
واعتبر ذلك حلقة من حلقات الخلاف بين مكونات القيادة الحزبية القائم منذ وصول إدريس لشكر إلى قيادة الحزب، وما تبعه من اتهامات لمكونات قيادية وقاعدية له بالابتعاد عن المسار النضالي الذي كان ينتهجه الحزب، ما أدى إلى ابتعاد شخصيات قيادية عدة عن الحزب، ورفضها العودة ما دام لشكر على رأسه.
في ظل هذا الواقع، الذي يشير إلى أن غالبية الأحزاب "ليست بأحسن حال"، بما في ذلك حزب "العدالة والتنمية"، قائد الائتلاف الحكومي، يظهر حزب "الاستقلال" الذي يجر وراءه تاريخاً طويلاً، بمظهر الحزب الذي يعرف استقرارا في بيته الداخلي، ويعمل بصمت من أجل تجاوز تداعيات مرحلة أمينه العام السابق حميد شباط، وعينه على استعادة ريادته للمشهد الحزبي لما بعد انتخابات 2021.
وبرأي أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، رشيد لزرق، فإن الحقل الحزبي يعيش حاليا مرحلة ما بعد الشعبوية، التي كان يجسدها زعماء من أمثال عبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق لحزب "العدالة والتنمية"، وإلياس العماري، الأمين العام السابق لحزب "الأصالة والمعاصرة"، وحميد شباط، الزعيم السابق للاستقلاليين، معتبرا أن هذه المرحلة تتسم بحراك داخلي، وعدم وضوح سياسي.
ويقول لزرق، في حديث مع "العربي الجديد "، إن المشهد الحالي هو في إطار إعادة التشكل، وأنه من الصعب توقع مآلاته، ولا سيما أن نظرية "الدومينو" التي تحكم سقوط القيادات الشعبوية لم تكتمل بعد، لافتا إلى أن ما يعرفه الواقع الحزبي، اليوم، يرجع إلى كون الظاهرة الحزبية بالمغرب تجد صعوبة في مأسسة الديمقراطية، بالنظر إلى كون الفعل الحزبي لم ينشأ انطلاقا من التجربة الديمقراطية والتداول على السلطة، بل ارتبطت ولادته بالصراع ضد الاستعمار، ما انعكس على تحديد تعاطيها مع القضايا والتحالفات، وكذلك على تموقعها داخل النظام الدستوري المغربي.
وأوضح أن المنظومة الحزبية مدعوة في القادم من الأيام إلى محو آثار مرحلة الشعبوية التي خربت تلك المنظومة، وفسح المجال لكفاءات حزبية طاولها تهميش، والتي ترفض العودة مجددا إلى الظهور مع هذه الأحزاب لكونها لا تثق بقياداتها وتخاف من استغلال اسمها.