أجرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن اتصالاً، أمس الإثنين، مع نظيره الإسرائيلي إيلي كوهين، صدر إثره بيان يشير إلى "تهنئة" كوهين بمنصبه، مع التأكيد كالعادة على "الشراكة والالتزام بأمن إسرائيل"، كما على "مواجهة التهديدات المشتركة في المنطقة ومنها الإيرانية"، فضلاً عن تأكيد بلينكن على موقف الإدارة بخصوص "حل الدولتين واعتراضها على أي سياسات تهدد قابليته للتطبيق".
توقيت الاتصال ملفت، إذ كان أول تواصل معلن تجريه الإدارة الأميركية مع الخارج في عام 2023، فضلاً عن أنه جاء في يوم إجازة فيدرالية رسمية، مما أثار التساؤل عما إذا كانت في الأمر عجلة استدعت المكالمة، لا سيما أنّ مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي جيك سوليفان سيقوم، كما تسرّب، بزيارة إلى إسرائيل، بعد أقل من أسبوعين.
في الأيام الأخيرة من العام المنصرم، تصدرت سيرة الحكومة الإسرائيلية الجديدة الاهتمامات في واشنطن بصورة غير اعتيادية. الجهات الأميركية الرسمية والإعلامية واليهودية، انشغلت بها وكأنها عنوان لمرحلة إسرائيلية فاقعة لا تقوى هذه الأوساط على المجاهرة باحتضانها وفي ذات الوقت هي ليست في وارد التصادم معها.
وفي ذلك مشروع مأزق عكسته الردود التي طغت عليها تعبيرات "القلق العميق" والمخاوف على "الديمقراطية الإسرائيلية" التي تبدو الحكومة الجديدة سائرة باتجاه استبدالها بوضع "عنصري عرقي" فاقع، فضلاً عن تخوف معظم اليهود الأميركيين من إقدام الحكومة الإسرائيلية الجديدة كما أوحت تصريحات بعض أقطابها، على إعادة تحديد "هوية اليهودي" وفق المقاييس الأصولية للمتدينين الإسرائيليين الذين وصلوا إلى مواقع القرار.
وكأن في الأجواء إحساساً بأنّ إسرائيل تتجه هذه المرة لتكون دولة عنصرية دينية على المكشوف. وهذا نوع من التحدي كانت تتخوف منه دوائر أميركية وخاصة اليهودية الليبرالية منها، إذ إنه يستحضر السيناريو الجنوب أفريقي الذي أدى الأبرتهايد الفاقع فيه إلى اضطرار الغرب بالنهاية إلى سحب البساط من تحت نظام بريتوريا.
طبعاً الحالة الإسرائيلية مختلفة تماماً، لكن الأوساط الأميركية الحريصة على الصورة الشائعة عن "الديمقراطية" الإسرائيلية تبدي مخاوف جدية من مثل هذا الاحتمال؛ لأنها تعرف مدى هشاشة هذا الزعم وسرعة عطبه إذا ما دخلت طروحات وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير وأمثاله في الحكومة إلى التطبيق. عندئذ تسقط ورقة التين ويصبح مزيج العنصرية – الدينية حقيقة عارية فاضحة يتعذر الدفاع عنها كما كانت الحال في السابق عندما كان هذا المزيج مغطى بقشرة من التمويه عبر سنوات من المفاوضات زعمت إسرائيل بأنها تتوسلها كسبيل لتسوية سلمية، في حين كانت خلالها تعمّق الواقع الاحتلالي الكفيل بنسف هذا الاحتمال.
الفارق اليوم أنّ الوضع يسير نحو الكشف عن حقيقته بدون مواربة لو جرت ترجمة التوجهات التي اشترطها أقطاب مؤثرون في حكومة يحرص بنيامين نتنياهو على إرضائهم بزعم حاجته لتماسك حكومته. وما يزيد من "قلق" المتخوفين أنّ المزيج العنصري – الديني يأتي إلى الحكم في إسرائيل في وقت يتزايد "التأفف والضيق" من الاحتلال الإسرائيلي.
صحيح أنّ ذلك يقتصر على غمزات إعلامية بين الحين والآخر فضلاً عن مواقف أقلية في مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين جرى تصنيفها في خانة "اليسار" للتحريض ضدها، لكنها أقلية متزايدة في الحجم كما كشفت الانتخابات النصفية الأخيرة، ولا تتردد في المجاهرة بخطابها غير الودي تجاه إسرائيل وتوجيه الانتقادات الحادة لممارساتها.
على هذه الخلفية تبدأ الإدارة الأميركية عامها الجديد في التعامل مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي خسر جو بايدن حتى الآن معركة التحدي الأولى مع رئيسها. فقد تراجعت إدارته عن الفيتو الذي وضعته على تنصيب المتطرف إيتمار بن غفير (الذي وصفت الخارجية الأميركية مشاركته بذكرى مائير كاهانا بأنه "تصرف مقيت"). فبعد إصرار نتنياهو على ضمه إلى حكومته، سارع بايدن إلى استبدال الحزم بالنعومة القريبة من التملق بالقول إنّ نتنياهو "صديقي منذ عقود". وهذا غير صحيح، فالمعروف أنّ علاقتهما على الصعيد الشخصي اتسمت بالنفور خاصة أيام كان بايدن نائباً للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
العارفون في الأمر يقولون إنّ هذه الليونة في التخاطب تخفي الكثير من التوجس المكتوم والتوتر المرشح للتفاقم. يكاد يكون "من المستحيل تجنب الخلاف بينهما"، خاصة في الشأن الفلسطيني، بحسب السفير الأميركي السابق في إسرائيل دانيال شابيرو. ليس لأنّ بايدن "طاحش" جدياً في خيار الدولتين، بل لأنّ التوجهات المقبلة عليها حكومة نتنياهو ستحرج إدارة بايدن بعرقلة أبسط التزاماتها الرمزية تجاه الفلسطينيين مثل إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، والتي يبدو أنّ الإدارة تراجعت عنها قبيل عودة نتنياهو.
هذا الاحتكاك حصل مع إدارات سابقة ووصل أكثر من مرة إلى حدّ تهديد البيت الأبيض "بإعادة النظر" في العلاقات مع إسرائيل لو بقيت على تعنتها. إلا أنه بقي دائماً تحت سقف "العراك العائلي". الرئيس الـ39 للولايات المتحدة الأميركية جيمي كارتر (الفترة من 1977 إلى 1981)، استخدم هذه الورقة مع رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها مناحيم بيغن في اتفاق كامب ديفيد عام 1978.
كذلك لجأ إليها الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون وأيضاً وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر في مفاوضات فك الاشتباك بعد حرب 1973. أيضاً كررها الرئيس جيرالد فورد في تلك الأثناء، حين أرسل تهديده هذا بكتاب خطي إلى غولدا مائير لحملها على التزحزح. وفي كل هذه الحالات رضخت الحكومة الإسرائيلية لإصرار الإدارة الأميركية الذي بالنهاية صبّ في خدمة الدولة العبرية.
ويبقى السؤال هنا، هل يكرر بايدن التهديد بإعادة النظر هذه لكبح حكومة نتنياهو، أم أنّ التلاقي معها حول الملف الإيراني بعد "موت" اتفاق 2015 الذي كان موضع خلاف بينهما، يتكفل بتجنب "العراك"؟ السوابق وضبابية وعود – لا التزامات – بايدن الفلسطينية تقول إنّ الوضع الفلسطيني في الحالتين باقٍ على حاله في أحسن الأحوال.