نلحظ في الآونة الأخيرة تناول شؤون الاحتلال الصهيوني بشيء من الغرابة والتناقض، فهناك من يتنبأ بزوال الاحتلال، بفعل تناقضاته الداخلية، وهناك من يسلط الضوء على مكتسبات الاحتلال الخارجية والميدانية، كاتفاقيات التطبيع في المنطقة، التي تنحو نحو التحالف الأمني والعسكري والاقتصادي الفج، ومثل تصاعد التمدد الاستيطاني وأعماله الإجرامية. وهو ما يحرض التساؤل عن واقع الاحتلال الحقيقي، بعيدا عن المبالغة في التفاؤل أو التشاؤم على حد سواء.
ولتكن البداية من خلال فهم دلالات مكتسبات الاحتلال، وتأثيرها وأسبابها، فعلى الصعيد الخارجي أو على صعيد العلاقة مع المنطقة العربية، نجد من خلال مراجعة تاريخ الصراع مع الاستعمار الصهيوني الإحلالي، هامشية دور النظام الرسمي العربي في مجريات الصراع عامة، وخصوصا الأنظمة المطبعة أخيرا، بل يمكن الحديث عن دور سلبي تاريخيا، لا سيما بما يخص كبح حركة التحرر، وإعاقة نضوجها وتطورها. في المقابل لا يصح تناسي دور شعوب المنطقة في دعم مسار التحرر من الاحتلال ومواجهته بالوسائل المتاحة، تلك الوسائل التي عمل النظام الرسمي العربي على محاصرتها وكبحها أيضا، لذا بات دور الشعوب محصورا بالدعم المالي؛ يخضع أحيانا لمحاسبات أمنية؛ والإعلامي والمقاطعة. أي واستنادا لدور النظام الرسمي العربي السلبي تاريخيا، لن يزيده تحالفه مع الاحتلال الصهيوني سلبية تجاه قضية فلسطين، مع التأكيد على تضمنه سلبيات عديدة على مجمل شعوب المنطقة ومستقبلها.
في حين تعود أسباب تسارع التمدد الاستيطاني، وتصاعد إجرامه داخل كلّ فلسطين، إلى الترهل الرسمي الفلسطيني، بل يمكن القول الانهيار والاستسلام الرسمي الفلسطيني، الذي دفع الشعب الفلسطيني لتفجير الانتفاضة الثانية في العام 2000، بعد فشل رهان الجسم السياسي على مشروع أوسلو وحل الدولتين، لكن لم يحدث بعدها أي تغيير يذكر على المستوى الفلسطيني، بل على العكس، تسارعت وتيرة الترهل الرسمي الفلسطيني، وتبلورت أدوار السلطة الأمنية، بصورة أوضح وأكبر، وهي إشكالية فلسطينية لا بد من تجاوزها وحلها بأسرع وقت ممكن، إذ سوف يساهم حلها في تغيير مسار الأمور ميدانيا رأسا على عقب عاجلا أم أجلا.
من زاوية أخرى متصلة بالموضوع، يتلقى الاحتلال الصهيوني ضربات متلاحقة متعددة، تساهم في مجملها في كشف طبيعته العنصرية والإجرامية، في الأوساط التي يدعي الانتماء لها، وخصوصا في الدول الغربية، كما تساهم في تصاعد مشاكله الداخلية. لكنها لم ولن تتحول قريبا إلى أزمات تعصف بالاحتلال داخليا أو خارجيا، لأسباب عديدة، أبرزها الحماية الأميركية والأوروبية، وتصعيد الإجرام الصهيوني الممنهج، الذي يجعل من مواجهة سكان فلسطين الأصليين أولوية على أي اعتبارات أخرى. وعليه فالحديث عن تفاعل تناقضات الاحتلال الداخلية والخارجية، من حيث تصاعد التيارات اليمينية العنصرية الداخلية، وافتضاح الممارسات الصهيونية الإجرامية، بحق شعب وأرض فلسطين، على المستوى الشعبي العالمي، عبر الإعلام البديل، وبعض المنظمات الدولية كمحكمة الجنايات الدولية ومنظمة أمنيستي، أمر غير وارد الآن، نظرا لحاجة المصالح الأميركية والأوروبية في المنطقة للحفاظ على احتلال استيطاني إحلالي عنصري. الأمر الذي يتجلى في زيادة دعم الاحتلال وحمايته، كما في محاولة تجريم حركة المقاطعة، وخنق المنظمات الدولية الناقدة للممارسات الإجرامية الصهيونية، ومحاولة تعديل الآليات والقواعد التي تضبط عمل تلك المنظمات.
بالمحصلة تتفاعل العديد من العوامل الدالة على عمق مشاكل الاحتلال الداخلية والخارجية، الثقافية والسياسية والأمنية، دون أن تؤثر على واقع الاحتلال ومكانته الإقليمية والدولية، نتيجة دوره في النظام العالمي المسيطر. كما تتسارع ممارسات الاحتلال العنصرية والإجرامية، التي تعكس طبيعته الحقيقية داخليا وخارجيا، وكأنها محاولات للهروب إلى الأمام، عبر طي صفحة الماضي الإجرامي، بحاضر أكثر إجرامية، فتلك المشاكل والتناقضات مستعصية على الحلول الالتفافية، يتطلب تجاوزها هدم مؤسسات الاحتلال العنصرية والإجرامية، العسكرية منها والأمنية والسياسية والثقافية والإعلامية، وهو أمر مستبعد حدوثه في الوقت الراهن، نظرا للدور التي تلعبه تلك المؤسسات في خدمة النظام العالمي المسيطر.
في مقابل كلّ ذلك، ورغم الضعف الفلسطيني الراهن، وترهل الجسم السياسي الفلسطيني الرسمي والفصائلي، يملك شعب فلسطين القدرة على تصعيد مشاكل الاحتلال الداخلية والخارجية، كما يملك القدرة على محاصرته، وصولا إلى هزيمته، إن واصل مساره التحرري المتشعب، ميدانيا وإعلاميا وحقوقيا وثقافيا وسياسيا وقيميا، وعمل كذلك على تجاوز، حل، مشاكله الذاتية، التنظيمية والسياسية والتمثيلية. وبالتالي فالرهان الوحيد الناجح هو الرهان على شعب فلسطين، وعلى الشعوب الأخرى، المناصرة للتحرر والعدالة الإنسانية.