الاعترافات بالدولة الفلسطينية والحرب على غزة: من الرصيد الأخلاقي إلى الأثر

30 يونيو 2024
"فلسطين ستكون حرة" في مهرجان البحر السنوي في نيويورك (كينا بيتانكور/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في مايو/أيار الفائت، شهدت أوروبا تحولاً في موقفها تجاه القضية الفلسطينية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل دول مثل أيرلندا والنرويج، مما يعكس تغيراً في الإرادة الدولية رغم الفيتو الأميركي.
- استمرار الحرب على غزة والجهود الدبلوماسية لاعتراف أممي بفلسطين واجها تحديات، لكن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بدعم 143 دولة يقر بأحقية فلسطين في العضوية، يشير إلى تغيير محتمل في المواقف الدولية.
- الرد الإسرائيلي على الاعترافات الأوروبية بفلسطين كان حادًا، مع استدعاء سفراء وتهديد بعقوبات، مما يعكس خوفًا إسرائيليًا من تحول هذه الخطوات إلى دومينو يؤثر على الاعتراف الأممي بفلسطين.

شهد شهر مايو/أيّار الفائت اعترافاتٍ أوروبيةً مهمةً بالدولة الفلسطينية، وهي اعترافاتٌ جاءت بعد تجاذباتٍ داخل أروقة الاتّحاد الأوروبي تجاوزتها الدول المنفردة بقراراتها. نُظرَ إلى اعترافات أيرلندا والنرويج وإسبانيا كاختراقٍ ستلحقه إنجازاتٌ تاليةٌ بالسياق ذاته، وهذا ما حدث بعدها بعدّة أيّامٍ بإعلان الاعتراف السلوفيني، وهو قرارٌ وصفته وزيرة خارجيتها برسالة أملٍ وسلامٍ، بعيدًا عن اعترافاتٍ مماثلةٍ جاءت من خارج الدائرة الأوروبية، كان آخرها الاعتراف الأرميني.

في ظلّ استمرار الحرب على قطاع غزّة، تصاعد الجهد الدبلوماسي للحصول على الاعتراف الأممي، الذي اصطدم بالفيتو الأميركي في مجلس الأمن، حين تصدت واشنطن لقرار اعتبار فلسطين دولةً عضوًا بالأمم المتّحدة، فجاء قرار الجمعية العامة معاكسًا ومقرًا بأحقية فلسطين بهذه العضوية، بدعم 143 عضوًا وامتناع 25 عضوًا، مع معارضةٍ أميركيةٍ إسرائيليةٍ بالطبع. من هنا، جاء اعتراف الدول الأوروبية المنفرد على عكس الإرادة الأميركية، وبخلاف إرادة العديد من دول أوروبا المركزية.

بدا على إسرائيل غضبٌ حادٌ من هذه الخطوات، وتراوح رد فعلها بين استدعاء السفراء، والتهديد بفرض عقوباتٍ على هذه الدول. يعكس رد الفعل هذا حقيقة القلق الإسرائيلي من تحول هذه الخطوات من فرديةٍ إلى دومينو متدحرج يطاول القارة الأوروبية، ويعطي/ يضع الاعتراف الأممي الرسمي بالدولة الفلسطينية موضع الأمر الواقع أمام واشنطن، وهذا ممكنٌ، إذ رشحت قبل أسابيع أنباءٌ، عن "مصادر" في الخارجية الأميركية، تقول إنّ واشنطن تفكر بتغيير مقاربة "أن يكون الاعتراف بالدولة الفلسطينية نتيجة لمفاوضاتٍ فلسطينيةٍ إسرائيليةٍ ثنائية".

المقلق لإسرائيل وواشنطن هو التوازي بين مسارين: تآكل حضور إسرائيل الإقليمي الدولي وصولاً للعزلة، وتعزيز حضور القضية الفلسطينية والضغط باتجاه إيجاد حلٍّ جذري لها

واقع الأمر أن الحرب المفتوحة على قطاع غزّة بدأت بخطابٍ الحرب الإسرائيلي، الذي ولد متعاليًا وفجًا، وتلقى دعمًا غير مسبوقٍ من الولايات المتّحدة، ومعظم الدول الأوروبية، التي غلفت تل أبيب بدعمٍ سياسيٍ غير قابلٍ للاختراق، ودعمٍ عسكريٍ- أمنيٍ اقتصاديٍ مركبٍ. لكن ومع انطلاق العمليات العسكرية واستمرارها، بدأ خزان الدعم هذا ينفذ، وبدأت الأصوات الداعمة لإسرائيل تتخلخل، لتحاول تارةً خلق مشهدٍ "متوازنٍ" بين "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وبين معاناة المدنيين، وتارةً تذهب للانتقاد الصريح والعلني والحاد لتل أبيب، كما في حال تكتل الدول المناهضة للحرب داخل الاتّحاد الأوروبي، الذي بدأ بإسبانيا وبلجيكا وأيرلندا.

مع استمرار الحرب، وتوالي التقارير والاستنتاجات القانونية الدولية، سواء من الأمم المتّحدة بأذرعها ووكالاتها، التي تشمل محكمة العدل الدولية، أو من المحكمة الجنائية الدولية، أو من المنظّمات غير الحكومية الدولية، التي رصدت جرائم الاحتلال في القطاع ووثقتها وأشهرتها، ووضعت الحقائق على الطاولة، وقادت إلى استنتاجاتٍ رئيسةٍ تقول: إنّ المقاربة التي سادت خلال العقود الفائتة مقاربةٌ بائسةٌ وغير ذات جدوى، لا سلام يبدأ إلّا بفرض الدولة الفلسطينية، وخلق تفاوضٍ من أعلى، وهذا ما عبر عنه العديد من كبار السياسيين في أوروبا، أبرزهم جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتّحاد الأوروبي.

مع مرور أشهر الحرب، تعاظمت خسائر إسرائيل الدولية غير القابلة للاستعادة أو التعويض في جزءٍ كبيرٍ منها، وفق ما يرى إسرائيليون. إذ أثرت التظاهرات والاحتجاجات حول العالم على صناع القرار، سواء في المؤسسات أو على مستوى الدول، وأدت إلى تراجع برامج التعاون والشراكات مع إسرائيل، وهذا ما طاول الحقول كافّة، السياسية والاقتصادية والثقافية، وتركز في أوروبا مع امتدادٍ متصاعدٍ إلى الولايات المتّحدة.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

من هذه الخسائر ما جاء في الأكاديمية والبحث العلمي أيضًا، إذ رصد تقريرٌ لـ"هآرتس" في إبريل/نيسان الماضي حالاتٍ لإخراج إسرائيليين من مجموعات بحثٍ دوليةٍ، وإلغاء مشاركاتٍ في مؤتمراتٍ دوليةٍ، وتجميد تعييناتٍ، وبعيدًا عن استبعاد الأكاديميين الإسرائيليين من عشرات المشاريع البحثية والمؤتمرات الدولية، اتخذت جامعاتٌ بعينها قراراتٍ لوقف التعاون مع جهات إسرائيليةٍ، كما أوقفت جامعاتٌ أوروبيةٌ وأميركيةٌ عدّةٌ تعاونها الأكاديمي والبحثي مع جامعاتٍ إسرائيليةٍ. كما تصاعدت التهديديات بإخراج إسرائيل من برنامج هورايزون يوروب البحثي، وهو أكبر صندوقٍ علميٍ عابر للدول، وبرنامجٌ بحثيٌ عملاقٌ بقيمةٍ تتجاوز المئة مليار دولار.

لكن المقلق لإسرائيل وواشنطن هو التوازي بين مسارين: تآكل حضور إسرائيل الإقليمي الدولي وصولاً للعزلة، وتعزيز حضور القضية الفلسطينية والضغط باتجاه إيجاد حلٍّ جذري لها. فبينما حاولت تل أبيب إعلاء "حقّها بالدفاع عن نفسها" وطمس أيّ خطابٍ يتحدث عن "اليوم التالي"، حاولت واشنطن رسم ثنائية أمن إسرائيل مقابل المقاربة الإنسانية في قطاع غزّة. لكن تصاعد ثنائية عزل إسرائيل مقابل تعزيز القضية الفلسطينية باتت مساحةً ضاغطةً على الطرفين.

جاء تآكل حضور إسرائيل الدولي مدفوعًا بجهدٍ قانونيٍ وضعها في مربعات جرائم الحرب، في ثلاثة مواقع مركزية هي: محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومؤسسات الأمم المتّحدة، خصوصًا المعنية بالشأن الإنساني الإغاثي، ما جعل دعم إسرائيل من قبل أيّ دولةٍ مكلفًا، وقد يضيف تبعاتٍ قانونيةً عليها، ما دفع العديد من حلفاء تل أبيب إلى تقديم نبرةٍ مختلفةٍ بالتعامل مع تل أبيب بعد الحراك القانوني، من هذه الدول بريطانيا وألمانيا.

مع مرور أشهر الحرب، تعاظمت خسائر إسرائيل الدولية غير القابلة للاستعادة أو التعويض في جزءٍ كبيرٍ منها

في حين جاء تعزيز حضور فلسطين الدولي من الشارع أولاً، إذ أثبتت الحركات الاجتماعية حول العالم، خصوصًا في أوروبا والولايات المتّحدة، فاعليتها وقدرتها على تحريكٍ منظمٍ وضاغطٍ للشارع، ما عززه الحضور المنظم والمؤسساتي للجاليات العربية وقدرتها على التأثير. كما دعم هذا الحضور وجود نخبٍ حاكمةٍ يساريةٍ في العديد من الدول الأوروبية التي اتخذت قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، منها إسبانيا على سبيل المثال.

أما على مستوى الأثر، فلا يزال أثر هذه الخطوة أخلاقيًا يتصل بتعزيز الشخصية القانونية الدولية للشعب الفلسطيني، لكنها خطوةٌ بحاجةٍ إلى متابعاتٍ كي تتحول من رصيدٍ معنويٍ إلى رصيدٍ ماديٍ ناجزٍ، يتمثّل بالحصول على اعترافٍ أمميٍ بدولة فلسطين عضوًا، من دون إعمال الفيتو الأميركي من جهةٍ، وفرض واقعٍ سياسيٍ لا يمكن تجاوزه بمشاريع الإذابة السياسية للكيانية السياسية الفلسطينية من جهةٍ أخرى.

إنّ إذابة الكيانية السياسية الفلسطينية هدفٌ نصف معلنٍ لهذه الحرب، إذ قال بنيامين نتنياهو في اجتماعٍ مع أعضاء الليكود إنّ أهمّ منجزاته خلال سنين حكمه منع استعادة الترابط بين الضفّة الغربية وقطاع غزّة، وضرب الكيانية الفلسطينية الموحدة، معبرًا في غير مناسبةٍ عن رفضه المطلق لفكرة الدولة الفلسطينية، سواء كانت تحت حكم "فتحستان" أو "حماستان"، ما يجعل الحراك على المستوى الدولي هجمةً مضادةً مناسبةً ومكبلةً للرؤية الإسرائيلية، التي يعبر عنها نتنياهو ويتفق معه فيها معظم الإسرائيليين.

لكن الشرط الموضوعي الذي لا يمكن إغفاله هنا، هو استعادة عافية البناء السياسي الفلسطيني الجامع، وبلورة رؤيةٍ وطنيةٍ استراتيجيةٍ للأمام، عبر بوابة منظّمة التحرير، بمنطقٍ جامعٍ يحيط بكلّ الطيف الفلسطيني، ويشمل كلّ فصائله، ويوظف كلّ الفرص والإمكانات وقواعد التأثير المساندة دوليًا، هذه مهمّةٌ ملحةٌ وآنيةٌ لا يمكن التقدم من دونها، إذ ليس من المنطق اعتبار كلّ الزخم الدولي رصيدًا إن لم تكن الحاضنة الوطنية الجامعة جاهزةً لتحويله إلى قوّةٍ مؤثرةٍ وفق برنامج عملٍ متدرجٍ ومتكاملٍ.

إذن، وصول عدد الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية لـ147 إنجازٌ مرشحٌ للتزايد، كما أنّ نزيف إسرائيل في علاقاتها الدولية مرشحٌ للزيادة مع استمرار الحرب، وغياب الاستجابات الإسرائيلية والأميركية. لكن ضمان استدامة هذه التحولات وانتقالها إلى أدوات قوّةٍ فلسطينيةٍ بحاجةٍ إلى خطواتٍ استراتيجيةٍ لا تكتيكيةٍ.