مرّ النضال الفلسطيني بمراحل عديدة ومتعددة، يمكن تقسيمها لثلاث مراحل أساسية، استنادا لهوية وبنية الطرف الممثل أو القائد فيها، حيث سيطرت القيادات التقليدية في مرحلة الاحتلال البريطاني التي كان يعول على تحركاتها السياسية وتحالفاتها الإقليمية والدولية من أجل استعادة الحقوق الفلسطينية. ثم انتقلت القيادة منها إلى قيادة النظام الرسمي العربي ولاسيما في المرحلة الناصرية، نتيجة اعتقاد الشعب الفلسطيني وجزء كبير من شعوب المنطقة أنها تملك الإرادة والإمكانيات التي تمكنها من تحرير الأرض واستعادة الحقوق المستلبة، وانتهت هذه المرحلة مع نكسة حزيران من العام 1967، وفشلت الأنظمة الإقليمية في العودة لسيطرتها لاحقا، حتى بعد حرب تشرين من العام 1973.
في حين شهدنا بعد النكسة مرحلة قيادية ثالثة تمثلت في قيادة فلسطينية فصائلية مدعومة إقليميا وأحيانا دوليا، فمن المعلوم أن صعود الفصائل الفلسطينية بعد النكسة كان مرتبطا بالتوازنات والخلافات الإقليمية والدولية، من الصراع على قيادة المنطقة العربية بين الجمهورية المصرية والمملكة السعودية، وصولا إلى الصراع بين القطبين العالميين الأميركي والسوفييتي، الأمر الذي انعكس على مواقف الفصائل وتوجهاتها بداية في قيادة حركة التحرر الوطني ولاحقا في الهرولة خلف الحلول الانهزامية. كما انعكس التنافس الإقليمي على المواقف الفصائلية في الحقبة التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو، ممثلة بمواقف فصائل المنظمة التي تحصل على جزء ولو بسيطا من أموال داعمي السلطة من ناحية، وفي مواقف القوى والحركات المدعومة من إيران من ناحية ثانية، كحماس والجهاد بشكل أساسي والجبهة الشعبية في بعض الأحيان وفق حجم وطبيعة الدعم، وهي المرحلة المستمرة حتى اليوم، أو بالأصح المرحلة التي نشهد في السنوات الماضية أفولها وزوالها. فقد عجز كلا الطرفين الفصائليين الأكبرين (فتح وحماس) عن قيادة شعب فلسطين، رغم الإمكانيات المادية التي يمتلكانها ورغم حجم مؤيديهما، وهو أحد تجليات الانقسام الفلسطيني الذي تجسد بسلطتين وهميتين في كل من الضفة وغزة.
طبعا قد لا نشهد قريبا بداية لمرحلة قيادية رابعة إن نجح أحد الفصيلين الفلسطينيين الأبرزين؛ فتح أو حماس؛ في قيادة الشارع الفلسطيني في الأشهر القليلة القادمة، غير أن تحقيق ذلك مسألة مستبعدة من وجهة نظر كاتب المقالة، أولا لعجزهما المستمر منذ بداية صراعهما على السلطة، وثانيا بحكم سوء إدارتهما للمناطق الخاضعة لسيطرتهما، وثالثا بحكم الاعتراض الواسع حول توجهاتهما الاجتماعية وتحالفاتهما الإقليمية التي تضعهما في تناقض واضح مع مفهوم التحرر الشامل والكامل وطنيا وسياسيا واجتماعيا. لذلك تبدو مظاهر المقاومة العفوية الفردية والجماعية المتصاعدة اليوم مؤشرات على بداية مرحلة قيادية جديدة غير تقليدية ومستقلة تستند إلى حاضنة شعبية واضحة بحكم انخراطها في الحيثيات النضالية الميدانية اليومية، بعيدا عن دعم هذا الطرف أو ذاك.
نجد في تاريخ النضال الفلسطيني حالات قيادية فردية اكتسبت مشروعيتها من نضالها الميداني، بعضها سابق للنكبة كحالة عز الدين القسام، وبعضها لاحق لها لاسيما في حقبة حركة التحرر الوطني، مثل وديع حداد وأبي جهاد، لكنها حالات قيادية فردية اكتسبت رمزية وطنية عابرة للمناطق والانتماءات دون أن تخلق منظومة قيادية ذات طابع مؤسساتي غير فردي، وهو الاختلاف الجوهري وربما الرئيسي عن الوضع الحالي. فنحن اليوم أمام حالة نضالية عفوية لكنها منظمة، تحركها المشاعر الشعبية، كالغضب والاستفزاز في الكثير من الحالات، على التوازي مع سماتها التنظيمية المتطورة المكتسبة من تراكم التجربة النضالية، كما في التعبئة والتحريض والتناوب والتوثيق والتغطية والحماية والسرية وغيرها الكثير من السمات التنظيمية الضرورية لأي عمل نضالي. وكأننا أمام تطور وربما نضوج لمنظومة نضالية جماعية لا تحتكم لمزاج قائد بعينه بقدر ما يحركها نبض الشارع المقاوم وبالتالي تنحكم لمصالحها الوطنية، وعليه قد تنجح هذه الحالة الجماعية في طي صفحة الانقسام الفلسطيني والسيطرة الفصائلية على الجسم السياسي الفلسطيني وحيثياته اليومية، كي تقود هي مسار التحرر الفلسطيني مستقبلا، إن نجحت في تطوير آليات تواصلها على امتداد فلسطين وخارجها أولا، وتمكنت من إدارة إمكانياتها البشرية واللوجستية على فترة زمنية طويلة ثانيا، وأفرزت خطابا وبرنامجا وشعارات موحدة ومحددة ثالثا. فحينها ننتقل لأول مرة إلى منظومة قيادية جماعية أفرزتها وفرضتها النضالات الشعبية الميدانية، وتزكيها نضالاتها ويقصيها تراجعها عنها إن حصل.