أعربت جهات ودوائر أميركية مختلفة، خلال الفترة الماضية، عن خشيتها من عواقب التصعيد الأميركي - الصيني المتزايد ليس فقط في الخطاب، بل أيضاً في عملية ما يبدو أنه تراكم مادي "تحضيري" محكوم بالتحول إلى تطور نوعي خطير لو بقي على وتيرته الراهنة.
وأخذ هذا التخوف طابع التحذير من العواقب "الكارثية" في حال انزلقت الأمور من الخطاب إلى تحويله إلى خطوات ملموسة على أرض الواقع، سواء من خلال خطأ في الحسابات، أو من خلال خروج دينامية التطورات عن السيطرة في لحظة ما، خاصة أنّ لغة التراشق والتحدي المبطّن بين الجانبين تسارعت في الآونة الأخيرة، كان آخرها تشديد الرئيس الصيني شي جين بينغ، أمس الأربعاء، على "زيادة التدريبات القتالية" للقوات الصينية التي قامت بمناورات عسكرية كبيرة بحرية وجوية حول تايوان لمدة 3 أيام.
تأتي كلمة الرئيس الصيني في أجواء مشحونة ازداد احتدامها منذ قضية تحليق المنطاد الصيني في الأجواء الأميركية، والتي أطاحت بزيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى بكين في فبراير/شباط الماضي. بعدها جاء اتهام الصين بمحاولة تزويد موسكو بأسلحة وذخائر لترتفع حرارة التوتر، وأخيراً الضجّة الأخيرة الكبيرة التي بدأت إثر اجتماع رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي مع رئيسة تايوان تساي إينغ وين في ولاية كاليفورنيا قبل 3 أيام. كما وساهم تطوران أساسيان من العيار الثقيل أيضاً في زيادة الضيق الأميركي من الصين، وهما رعاية هذه الأخيرة للاتفاق السعودي - الإيراني، وزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى بكين.
ويعتبر لقاء مكارثي – وتساي استفزازيا باعتراف جهات أميركية لم تر في الخطوة أكثر من ورقة أراد رئيس المجلس توظيفها سياسياً، وابتغى منها تسجيل موقف لصالح حزبه الجمهوري يوازي زيارة رئيسة المجلس نانسي بيلوسي الديمقراطية إلى تايوان في الصيف الماضي، خلافاً لرغبة البيت الأبيض.
في الحالتين، كان اللقاء غير محسوب وثمة من وصفه بـ"الاعتباطي" الذي "لا علاقة له بالسياسة الخارجية"، وعزز حجة بكين بأنّ واشنطن تلتف على التزامها بسياسة "صين واحدة" التي جرت الإشارة إليها في بيان شنغهاي عام 1972 بعد زياره الرئيس نيكسون الشهيرة إلى بكين، والمعروف أنّ واشنطن أقفلت سفارتها في تايوان عام 1979 بعد تبادل السفراء مع بكين، كترجمة لهذا الالتزام، مقابل احتفاظ واشنطن بحق تسليح تايوان لـ"الدفاع عن نفسها" وليس للدفاع عنها.
ومن هنا كانت ردة الفعل الصاخبة على تصريح الرئيس بايدن العام الماضي، حين قال إنّ الولايات المتحدة "نعم" ستستخدم القوة العسكرية لو قامت الصين باجتياح الجزيرة، وربما كان هذا التصريح نقطة انعطاف في تدهور العلاقات بين البلدين، رغم مسارعة المسؤولين في البيت الأبيض آنذاك إلى تصحيح تصريح الرئيس مع التشديد على أنّه "لا تغيير" في سياسة الالتزام بصين واحدة، لكن كان "السيف قد سبق العذل"، وزاد من التوجّس، حينها، أنّ الرئيس عاد إلى نفس النغمة بعد التصحيح مع التشديد بأنّ إدارته "لن تسمح" للصين بالتقدم على الولايات المتحدة.
كل هذه العوامل المتداخلة كانت كفيلة بتخريب آخر محاولة لترميم الصدع بين القوتين الكبيرتين، إذ كان يجري التوافق بين الرئيس بايدن وشي على زيارة بلينكن التي كانت مقررة في فبراير/شباط الماضي، والتي ألغتها قصة المنطاد. يومذاك شاعت روايات بأنّ توقيت دخول المنطاد إلى الأجواء الأميركية كان "محسوباً" لمنع حصول الزيارة، ومن التفسيرات أنّ بكين آنذاك كانت قد حسمت في تقييمها أنّ العلاقات لم تعد قابلة للإصلاح وأنّها متجهة نحو حالة من الحرب الباردة في أحسن الأحوال.
وبقدر ما كان لقاء مكارثي ورئيسة تايوان مزعجاً لبكين، كانت زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون للصين مزعجةً لواشنطن، خصوصاً أنّ تصريحاته حول الحياد في قضية تايوان أثارت حالة من النقمة الأميركية عليه، وطرحه بأنّ على أوروبا أن تكون "مستقلة وليس تابعة لدولة كبرى وأجندتها" قوبل بالاستغراب. وزاد الانزعاج الأميركي لأن بكين احتضنت تصريحاته وأشادت بها. وحينها، سارع الناطق باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي إلى احتواء الموضوع من خلال التنويه بأهمية "التعاون والتنسيق مع الحليف والصديق الفرنسي"، فيما سارع الناطق في السفارة الفرنسية إلى التأكيد على التزام باريس بموقفها المعروف من تايوان، وأنّه لا جديد في الأمر سوى أنّ الرئيس ماكرون كان غرضه حثّ الصين على العمل "من أجل السلام في أوكرانيا (...) وأنّ موضوع تايوان جاء في هذا السياق خلال التباحث مع الرئيس شي جين بينغ".
من التفسيرات أنّ كلام ماكرون يعبّر عن احتقان مزمن يعود إلى صفقة الغواصات النووية التي كانت أستراليا قد تعاقدت لشرائها من فرنسا، وفي اللحظة الأخيرة دخلت إدارة بايدن على الخط وألغت العقد لصالحها مع بريطانيا. وفي تقديرات أخرى فإنّ في كلام ماكرون "رسالة تأفف" أوروبية من الضغوط الأميركية بشأن تسليح أوكرانيا، وإنّ الرئيس الفرنسي سعى لحث شي جين بينغ على بلورة وساطة للخروج من الحرب. وفي قراءة ثالثة، إنّ زيارة ماكرون في أساسها كانت "اقتصادية – تجارية"، يشير إليها الوفد "الضخم" من رجال الأعمال الفرنسيين، الذين صاحبوه في الزيارة، بأنه تمادى في التودد للقيادة الصينية إلى الحدّ الذي أثار ضجة أوروبية ضده، خاصة ألمانية وبولندية.
هذه التطورات ومقدماتها تعود لتؤكد أنّ العلاقات الأميركية الصينية قطعت مسافة هامة في مسار التصدع، وثمة من لا يستبعد أنّ ترى بكين في حرب أوكرانيا فرصة لحسم موضوع تايوان باعتبار أنّها لحظة انشغال أميركي بهذه الأخيرة . يتردد ذلك في خطاب الصقور خاصة في الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء، لشد عصب التصدي للصين، لكن في المقابل تميل توقعات عدد من الخبراء إلى الاعتقاد أنّ القيادة الصينية تعطي الأولوية في المرحلة الراهنة للحسابات الاقتصادية – التجارية، وأنّها لا تستهين "بالتفوق" العسكري الأميركي في المدى المنظور. فالصين دقيقة بحساباتها وتغامر من دون استبعاد مواجهة قادمة "في العقد أو العقدين القادمين"، حسب تقديرات عسكريين متقاعدين، منهم الأدميرال جيمس ستافريدس.
العنصر المشترك في كل القراءات السابقة أنّ الجانبين الأميركي والصيني لم تخرج خطواتهما وخطاباتهما بعد عن إطار التهويل لغرض "الردع"، إذ إنّ كليهما يدرك خطر الذهاب إلى أبعد من ذلك، لكن يبقى السؤال هنا: ماذا إذا فشل "الردع"؟