لحظتان فقط شعر فيهما النظام السياسي في الجزائر بدنو أجله، التمرد السياسي في تسعينيات القرن الماضي، والحراك الشعبي في العام 2019.
لكن النظام، الذي يعني في المجمل كتلة واسعة من الجيش والأمن والقضاء والإدارة والإعلام والأحزاب، كان دائماً أكثر قدرة على التجدد، وأبرع في الإفلات من لحظة التغيير بكل الطرق الممكنة، ذلك أن رغبته بالاستمرار كانت أقوى من رغبة الشارع في التغيير.
وبغض النظر عما إذا كان النظام، الذي يربط استمراره باستقرار البلد دائماً، يملك هو نفسه الأساس الفلسفي والسياسي، والأخلاقي أيضاً، للبقاء، بسبب مسؤوليته عن تراكم الانكسارات المجتمعية والإخفاقات المتعددة الأبعاد، فإنه سيستفيد من "الراديكالية" في تسعينيات القرن الماضي، ومن "الشعبوية" في الحراك، اللتين كانتا تدفعان النظام إلى توظيف الخوف من انهيار الدولة للإبقاء على سيطرته على السلطة.
في تسعينيات القرن الماضي، اجتاحت "الراديكالية" (خاصة تلك التي تبنت شعار لا ميثاق لا دستور) الشارع، واستحكمت في تعبيراته السياسية، وقادت طوفانه نحو الصدام مع الدولة والاصطدام بالجيش، ومع المؤسسات والمنظومة المجتمعية في بعض القضايا. ودفعت هذه الراديكالية لخسارة حلفاء محتملين (كجبهة التحرير الوطني بقيادة عبد الحميد مهري وقوى أخرى)، كانوا أكثر رغبة في إحداث التغيير السياسي.
وفي منتصف حراك 2019، أمسكت "الشعبوية" والحشد الافتراضي بالشارع مرة أخرى، رغم الضخ السلمي، مستغلة عنفوان الحشود، ما أحدث شرخاً بين قطاعات واسعة داخل الحراك.
في الحالة الجزائرية، الراديكالية المغامرة التي لا تملك الرؤى الضرورية للتغيير، والشعبوية الواهمة التي تراهن على الكرنفالية السياسية دون مضمون واقعي، تتحولان، بصورة أو أخرى، إلى "برميل" قمح يتغذى منه النظام القائم، إضافة إلى برميل النفط الذي يملك. وتقدمان مسوغات أكبر لاستمراره، كونه (النظام) يحقق الحد الأدنى من المقتضيات الضامنة لبقاء الدولة، طالما أن هذه الراديكالية والشعبوية لا تفرقان بين الدولة والسلطة وبين النظام والجمهورية.
اللافت أن النظام الجزائري استخدم أسلوبين متناقضين تماماً في الحالتين ــ مع اختلاف السياق والفواعل ــ ونجح بكلتيهما في تثبيت خياراته بغض النظر عن الكلفة. لجأ إلى توقيف المسار الانتخابي والخروج عن الدستور للإفلات من معضلة التسعينيات وتجاوز "الراديكالية"، واستخدم الدستور والمسار الانتخابي للفكاك من حصار الحراك ومن "الشعبوية". يطرح هذا سؤالاً للمراجعة، عمن طور موقفه، النظام أم كتلة التغيير؟