بعد نحو شهر ونصف شهر من الانتخابات العامة في الدنمارك، توصلت ثلاثة من الأحزاب السياسية إلى صيغة حكم ائتلافي تستبعد "الأجنحة" اليمينية واليسارية منها، وتبقي على رئيسة تصريف الأعمال من الحزب "الاجتماعي الديمقراطي" ميتا فريدركسن في منصبها.
وجاء التوصل إلى صيغة الحكم بشكل مختلف عما ساد خلال السنوات الأخيرة، بعد أسابيع من المفاوضات المحمومة لتشكيل حكومة موسعة. واستبعد منها لاحقاً بقية الأحزاب، وأغلبها من جناح اليسار، لترسو في نهاية المطاف على الجمع بين أقدم حزبين: "الاجتماعي الديمقراطي"، و"فينسترا" (الليبرالي)، بالإضافة إلى حزب ثالث تشكل صيف العام الحالي، هو حزب "موداراتنا" (المعتدلون) المحسوب على "الوسط" بزعامة رئيس الحكومة السابق لارس لوكا راسموسن.
ويعتبر الجمع بين معسكري السياسة في يمين ويسار الوسط هو الأول منذ أكثر من 4 عقود. ففي عام 1978 ترأس السياسي الدنماركي الراحل (اشتراكي في صفوف الاجتماعي الديمقراطي) أنكر يورغنسون حكومة جمعت بين حزبه والليبراليين (فينسترا)، لكنها لم تعمَّر أكثر من 14 شهراً.
ويتكرر الاضطرار إلى التعاون في "الوسط" هذه الأيام على خلفية الأزمات التي يعانيها البلد، فمثلما عانى قبل عقود من آثار "أزمة النفط" (بعد المقاطعة العربية في حرب 1973)، تجد فريدركسن نفسها مضطرة إلى التخلي عن تشكيل حكومة "الكتل" بحجة التغلب على تأثيرات التضخم وأزمة الطاقة ومواجهة ما يسمى محلياً "العدوانية الروسية"، بعد غزو موسكو لأوكرانيا وخوض كوبنهاغن في جهود غربية واسعة لدعم كييف.
وبالرغم من أن الاتجاه نحو الوسط ليس مفاجئاً للأحزاب البرلمانية، إلا أن الامتعاض واضح في صفوف الأحزاب اليسارية من إصرار فريدركسن على التوصل إلى اتفاق مع زعيمي الليبراليين والمعتدلين يكوب إلمان ينسن، ولارس لوكا.
أحزاب اليسار تبدي خشيتها من توجه فريدركسن أكثر نحو اليمين
وحتى قبيل تقديم الحكومة الجديدة ظهر اليوم الأربعاء بالتوقيت المحلي لبرنامج عملها، أبدت أحزاب اليسار (خصوصاً "الشعب الاشتراكي" و"اللائحة الموحدة" و"البديل" البيئي") خشيتها من توجه فريدركسن أكثر نحو اليمين، وخصوصاً في قضايا جوهرية تتعلق بالاقتصاد والضريبة والهجرة والقضايا المناخية، إلى جانب عدد من قضايا العدالة الاجتماعية.
ويعتقد المراقبون والمتابعون لتفاصيل الحكم في كوبنهاغن أن تعارض التوجهات الفكرية للأحزاب المشكلة للحكومة الجديدة، ليس عقبة كبيرة في السياسة الدنماركية، بل "تعبير عن واقعية سياسية في زمن الأزمات"، كما ذهب المؤرخ في جامعة آرهوس (وسط غرب) نيلز أولسن.
وتحتاج الحكومة الجديدة لتمرير برنامجها الذي جرى التفاوض على خطوطه العامة في قصر "أمالينبورغ" (في ضواحي كوبنهاغن) خلال الأسابيع الأخيرة، إلى اعتماد البرلمان. وبحسب الأرقام، لن يواجه مشكلة كبيرة، إذ إن لدى الأحزاب المتحالفة 89 مقعداً، فيما يتوقع أن يصوت لها أيضاً ممثلو جزر غرينلاند والفارو، لتتجاوز الـ90 صوتاً من أصل 178 برلمانياً.
في كل الأحوال، وبالرغم من التفاؤل الذي أبدته فريردكسن، المتهمة بسعيها "للتجديد لنفسها"، اعتبرت أحزاب اليسار واليمين المتشدد أنها ستشكل "معارضة قوية" إذا مست الحكومة الجديدة التشريعات السابقة، أو اقتربت من تغييرات جذرية على مستوى التقاعد ودولة الرفاهية والعدالة الاجتماعية عموماً.
ويخشى اليسار، على وجه التحديد، من "التنازلات" التي قدمها "الاجتماعي الديمقراطي" على مستوى الضريبة من الشركات الكبيرة والأثرياء وقضايا أخرى تتعلق بسياسات الهجرة. وبرغم الانتقادات والمخاوف الحزبية، أظهرت الاستطلاعات الأخيرة تأييداً شعبياً لتشكيل حكومة وسط في البلد الذي يعاني ضغوطاً مالية ومعيشية كبيرة.