يصر النظام السوري على إبقاء محافظة السويداء في جنوب البلاد في دائرة التوتر، وكلما بدا أنّ الأوضاع هادئة فيها، يعمد إلى خلق قلاقل ما بين سكان المحافظة ذات الغالبية الدرزية، والبدو القاطنين في بعض الأماكن في ريفها الغربي، المتاخم لمحافظة درعا، على غرار ما جرى في الأيام الأخيرة. واقتحمت قوة أمنية تابعة للنظام، أول من أمس الأحد، قرية أم الرمان في المحافظة، وفق مصادر محلية، أشارت إلى أن امرأة قتلت في هذا الاقتحام وجرح آخرون، وهو ما أدى إلى موجة غضب شعبية تجلّت في قيام أهالي القرية بقطع طرق رئيسية في المحافظة احتجاجاً. وطالب أهالي القرية بمحاسبة المسؤولين عن الحادث، مؤكدين نيّتهم التصعيد في حال عدم تلبية مطلبهم من قبل النظام، الذي يواجه استياءً شعبياً متزايداً في المحافظة، نتيجة سوء الحالة المعيشية والفلتان الأمني والهجمات المتكررة على مزارعهم من قبل البدو.
وعلى صعيد متصل، عُقد السبت الماضي اجتماع بين وفد من ضباط روس ووفد من أهالي بلدة القريّا بريف السويداء، تمخّض عن موافقة وفد القريّا على عودة المهجّرين من عشائر البدو إلى منازلهم غربي البلدة، باستثناء شخصين لـ"تورطهما في الدماء". ووفق شبكات إخبارية محلية، فإنّ "وفد القريّا تحدث عن ضرورة إحلال السلم والاستقرار مع الجوار، وضمان حقوق الجميع، وعودة الحياة الطبيعية إلى المنطقة الواقعة بين بلدة القريّا ومدينة بصرى الشام، التي كانت قد شهدت اشتباكات دامية خلال العام الماضي". وتضم أراضي بلدة القريا الغربية مجموعة منازل لمواطنين من عشائر البدو، يبلغ عددهم قرابة 35 عائلة، تم تهجيرهم من منازلهم خلال العام الماضي، عقب حوادث دامية وقعت في المنطقة، وانتقلوا إلى مدينة بصرى الشام في ريف درعا الشرقي.
سياسة النظام السوري منذ أكثر من 50 عاماً تعتمد على تعزيز الانتماء الطائفي والمناطقي
وكانت منطقة القريّا قد شهدت، خلال العام الفائت، اشتباكات بين مجموعات محلية وعناصر من محافظة درعا ينتمون إلى "اللواء الثامن" التابع لـ"الفيلق الخامس" المدعوم من روسيا، أدت إلى مقتل وإصابة العشرات. وتعد بلدة القريا، بالإضافة إلى منطقة نمرة الواقعة جنوبها، بؤرة توتر مستمرة نتيجة وقوعها عند خط التماس بين الفصائل المحلية في السويداء ومجموعات "الفيلق الخامس" المتمركزة في محيط مدينة بصرى الشام، التي تعد أيضاً معقل "الفيلق" في الريف الشرقي من درعا. ولطالما حاول النظام السوري تعميق هوّة الخلاف على أساس طائفي بين البدو والدروز في محافظة السويداء من جهة، وبين الدروز وأهالي محافظة درعا من جهة أخرى.
من جهته، قال الصحافي نورس عزيز، وهو من محافظة السويداء، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "لا توجد موانع على الإطلاق أمام عودة البدو إلى منازلهم في المحافظة". وأوضح أنّ النظام السوري "قسّم المناطق السورية إدارياً منذ الستينيات من القرن الماضي، على أساس طائفي لتعزيز النزعة الطائفية"، مضيفاً: "كان هناك قرى تابعة لمحافظة السويداء ضمها لاحقاً إلى محافظة درعا القريبة على هذا الأساس". وتابع: "سياسة النظام السوري منذ أكثر من 50 عاماً تعتمد على تعزيز الانتماء الطائفي والمناطقي، مع إبقائه الوضع تحت السيطرة، للتحكم في الأمور وفق مصلحته". واعتبر عزيز أنه "من الطبيعي أن يُبقي النظام ورقة الخلاف بين البدو والدروز بيده، ويلوّح بها كلما احتاج إلى ذلك، ويجب ألا ننسى أنّ هناك متعاونين مع النظام من الجانبين".
ويقطن ضمن الحدود الإدارية لمحافظة السويداء عدة آلاف من البدو الذين لطالما دخلوا في خلافات مع الدروز حول حقوق الرعي وانتهاك حرمة بعض المزارع الخاصة بسكان السويداء. وحاول النظام، خلال سنوات الثورة السورية، توسيع هوّة الخلاف ما بين البدو والدروز في محافظة السويداء، لإبقائها ضمن دائرة الخطر، لضمان بقاء الدروز على الحياد إزاء ما يجري في البلاد. وانتهج النظام سياسة تخويف الأقليات المذهبية والقومية في سورية، كي لا تنخرط في الحراك الثوري، ولإيهامهم بأنه الحامي الوحيد لهم.
ومنذ تولي حافظ الأسد للسلطة في عام 1970، عمل النظام السوري على تأجيج الخلافات بين البدو والدروز في محافظة السويداء، والتي انفجرت بشكل دام في عام 2000 مع تولي بشار الأسد السلطة خلفاً لأبيه. فقد قتل 20 شخصاً وجرح 200 آخرون في ذاك العام، عقب تعدي بدو من رعاة الأغنام على مزارع وبساتين خاصة في السويداء. وشهدت المحافظة تظاهرات منددة بالأحداث، وهو ما دفع النظام إلى التدخل والقبض على المتورطين من البدو.
يستغل النظام الخلافات البسيطة بين البدو والدروز لتعميقها
في السياق، قال الكاتب حافظ قرقوط، وهو من أبناء محافظة السويداء، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ النظام السوري ومنذ عقود "يزرع الخلافات بين مكونات المجتمع السوري عموماً، وفي محافظة السويداء خصوصاً، لاختراقها من الداخل". وأضاف: "عملت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي، على خلق خلافات بين الدروز وعشائر البدو في المحافظة. إذ أشاع النظام في ذلك الوقت أنّ جزءاً من البدو منتمٍ لجماعة الإخوان المسلمين، وأنّ هذه الجماعة تكنّ حقداً على الدروز لأسباب طائفية". وأشار قرقوط إلى أنّ النظام السوري "حاول خلال سنوات الثورة إيهام الدروز، بأنّ البدو على علاقة بتنظيم داعش، لتعميق الخلاف بين الطرفين"، مؤكداً أنّ الخلافات بين الدروز والبدو "تتمحور فقط حول الرعي لا أكثر ولا أقل، بينما أجهزة الأمن التابعة للنظام، خلقت المشاكل في عام 2000، لتوطيد وجودها في المحافظة". وتابع: "النظام عزف على وتر الطائفية، وحاول تصوير الخلاف على أنه صراع بين سنّة ودروز، على الرغم من أن واقع الحال مخالف لذلك تماماً".
وأوضح قرقوط أنّ البدو "ينتشرون في أغلب نواحي المحافظة، وهناك اندماج ثقافي كامل بين أهالي السويداء من بدو ودروز، وهو ما كان يزعج النظام"، مشيراً إلى أنّ الأخير وأطرافا أخرى مثل "حزب الله" والجانب الروسي، "تحاول استغلال الخلافات البسيطة لتعميق الخلافات بين البدو والدروز". وأكد قرقوط أنه "حتى اللحظة، لم تنجح هذه الأطراف في دفع الطرفين إلى صدامات دموية، إذ استطاعت الفعاليات الاجتماعية والعشائرية، حصر الخلافات في نطاقات ضيقة للغاية". وأوضح أنه "مع الضعف الذي يعتري النظام السوري حالياً، يحاول حزب الله وإيران من خلال المال، اختراق محافظة السويداء لتخريب العلاقات الاجتماعية بين البدو والدروز"، معتبراً أنه على الرغم من ذلك، "فإن المساعي الإيرانية الواضحة تتجه للفشل، بسبب وعي الطرفين للمخاطر الكبيرة لهذه المساعي".