مع اتجاه تركيا والنظام السوري إلى عقد جلسة جديدة من المباحثات غداً الثلاثاء في العاصمة الروسية موسكو، وإصرار النظام على الانسحاب التركي من الأراضي السورية، يترقب أكثر من 4 ملايين مدني يقطنون الشمال السوري نتائج المباحثات، وسط مخاوف على مصير هذا الشمال الذي يرفض أغلب سكانه العودة إلى سلطة النظام.
وفي وقت تتفاوت فيه آراء أهالي الشمال السوري حول مستقبل المنطقة وإمكانية انسحاب الأتراك منها، فإن القراءات تختلف بشأن إمكانية موافقة أنقرة على الانسحاب، والذي قد تكون له تبعات سلبية عليها، وتداعيات ذلك.
مباحثات رباعية في موسكو
ومن المقرر عقد مباحثات رباعية غداً في موسكو، تضم نواب وزراء الخارجية في تركيا وروسيا وإيران والنظام. وذكرت وكالة أنباء النظام الرسمية "سانا"، أمس الأحد، أن وفداً، برئاسة معاون وزير خارجية النظام أيمن سوسان، غادر دمشق أمس متوجهاً إلى موسكو للمشاركة في الاجتماع الرباعي. وقال سوسان، وفق الوكالة، إن وفد النظام سيعقد مشاورات ثنائية مع الطرفين الروسي والإيراني اليوم الاثنين، وفي اليوم التالي (الثلاثاء) سيشارك في الاجتماع الرباعي. وأضاف سوسان أن الوفد "سيُركز بالتحديد على إنهاء الوجود العسكري التركي على الأراضي السورية ومكافحة الإرهاب وعدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية".
أحمد الحسن: هناك مشروع إقليمي تعمل عليه دول جوار سورية ودول الخليج العربي لمنع تدهور الأوضاع في سورية
وتكبر المخاوف من تقديم أنقرة تنازلات لصالح النظام، فهي كما يبدو تريد اتفاقاً لسحب ورقة الملف السوري من يد المعارضة التركية مع اقتراب الانتخابات العامة في تركيا، المقررة في 14 مايو/أيار المقبل.
ولا يخفي عبد الله الصالح، الذي كان معتقلاً في السنوات الأولى من الثورة في سجون النظام ويقيم حالياً في الشمال السوري، قلقه من تقارب أنقرة من النظام السوري، والذي ربما يفضي إلى تفاهمات قد تؤدي إلى انسحاب الجيش التركي من الشمال السوري وعودة قوات النظام والأجهزة الأمنية إليه، فـ"هذه الأجهزة لن تتورع عن ارتكاب فظائع بحقنا"، على حدّ تعبيره.
ويضيف الصالح في حديث مع "العربي الجديد": "نعرف هذا النظام جيداً، إنه يحمل حقداً تجاه الشمال السوري". غير أنه يرى أن الجانب التركي "لن يترك الشمال ما دام ليس هناك اتفاق سياسي شامل لكل القضية السورية"، مضيفاً أن "أي اتفاقات جزئية لن تكون لصالح تركيا، خصوصاً أنها تدرك أن تسويق أي حلّ مع النظام في الشمال لن ينجح".
من جهته، يقول إبراهيم الحسن، وهو نازح من ريف حماة الشمالي إلى بلدة الدانا في ريف إدلب: "لن نعود إلى ما قبل عام 2011 مهما كانت التضحيات". ويضيف في حديث مع "العربي الجديد": "ملايين السوريين هنا ما زالوا يرفضون سلطة الأسد". ويسأل الحسن: "ما مصيرنا في حال عادت أجهزة النظام القمعية؟ بالتأكيد ستحدث عمليات انتقام واسعة بحق الملايين من العزّل المتروكين من دون حماية".
ويُعدّ الشمال السوري غرب نهر الفرات، بدءاً من ريف اللاذقية الشمالي، إلى منطقة جرابلس على ضفاف الفرات الغربية، شرقي البلاد، منطقة نفوذ تركية. وشرق نهر الفرات، هناك منطقتا تل أبيض في ريف الرقة الشمالي، ورأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي. وأقامت الحكومة التركية خلال الأعوام الماضية العديد من القواعد العسكرية داخل الأراضي السورية، وتنشر آلاف الجنود خصوصاً في ريف إدلب.
ولكن أبو محمود، وهو من نازحي مدينة النعمان إلى منطقة كفرتخاريم في ريف إدلب، يعتقد، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الجانب التركي "لن يضحي بالشمال السوري بسهولة وبساطة"، مضيفاً أن "أنقرة تعي أن أي عودة للنظام تعني موجات لجوء جديدة إلى تركيا". ويقول أبو محمود، وهو معلم متقاعد، إن "الشمال السوري قنبلة بشرية انفجارها له تداعيات ليس على تركيا فحسب، بل على الغرب كلّه، فأغلب السوريين يريدون الوصول إلى الضفة الأخرى من المتوسط، وهو ما لا تتحمله أوروبا".
وتسيطر على الشمال العديد من الفصائل متباينة الأهداف، فمنطقة إدلب تقع تحت سيطرة "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) ذات التوجه المتشدد، وتدور في فلكها مجموعات تتشارك معها في "المنهج"، بينما تسيطر فصائل معارضة منضوية في "الجيش الوطني" على ريف حلب وتل أبيض ورأس العين.
فصائل المعارضة ترفض تعويم النظام
ويغوص هذا الشمال منذ أكثر من ست سنوات بأزمات متعددة، إذ يشهد عدم استقرار أمني في ظلّ تناحر على النفوذ بين "هيئة تحرير الشام" من جهة وبين "الجيش الوطني" من جهة أخرى، فضلاً عن التناحر بين فصائل الأخير الذي لم يستطع التعامل مع حالة الفصائلية المتجذرة والتي تجر على سكان الشمال المشاكل.
ويرى الصحافي السوري المواكب للمشهد في الشمال السوري، أحمد الحسن، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الجانب التركي يتجنب التدخل المباشر في مشكلات الشمال السوري لأن الوضع معقّد، على الرغم من محاولات كثيرة لتبسيط المشكلات فيه". ويتابع: "جرى العمل خلال العامين الأخيرين على إيجاد تنظيم عسكري وإداري في الشمال، لكن الفصائلية والمناطقية التي ترسخت ما زالت تعرقل الكثير من المشاريع، كما أن السقف العالي للمطالب الثورية غير مرحب به دولياً، بما فيها تركيا".
ويعتقد الحسن أن "التوجّه التركي نحو التقارب مع النظام السوري غير قابل للتسويق في مناطق الشمال، وهو واحد من عوائق المشاريع المقبلة التي تُعد لحسم مستقبل الشمال السوري". ويضيف: "أعتقد أنه في المرحلة الحالية لا يوجد أي سيناريو سوى ضمان التهدئة، وهي أولوية تركية بسبب قلق أنقرة من حصول موجة تهجير جديدة، لكن على المستوى المتوسط والبعيد، يجرى العمل على تحويل هذه التهدئة إلى وقف إطلاق نار". ويرى أن هناك مشروعاً إقليمياً "تعمل عليه دول جوار سورية ودول الخليج العربي لمنع تدهور الأوضاع في سورية والحيلولة دون بروز تهديدات عابرة للحدود".
باسل المعراوي: الحكومة التركية والمعارضة معاً مع عملية عسكرية جديدة ضد قسد
والمفترض أن تدير الشمال السوري الحكومة السورية المؤقتة التي تتبع للائتلاف الوطني السوري، ولكن الوقائع على الأرض تؤكد أن سلطة الحكومة "محدودة" وتقف عاجزة أمام تحكّم الفصائل بالقرار الأمني والعسكري والاقتصادي. وتدور هذه الحكومة في فلك الجانب التركي، وبالتالي ليس من المتوقع أن تقف ضد موقف أنقرة حيال الأوضاع في الشمال السوري.
وبرز في الآونة الأخيرة، في ريف حلب الشمالي، "تجمع الشهباء" العسكري الذي يضم فصائل عدة، هي: الفرقة 50، أحرار التوحيد، أحرار الشام - القاطع الشرقي، وحركة نور الدين الزنكي، ما يشير إلى إمكانية ظهور تشكيلات عسكرية قد لا تتماهى مع موقف أنقرة، التي قد تنسحب من الشمال السوري مقابل "تسوية" مع النظام تتضمن عودة العلاقات الدبلوماسية ومعالجة أزمة نحو 4 ملايين سوري في تركيا.
وفي هذا الصدد، يؤكد القيادي في فصائل المعارضة السورية العقيد مصطفى البكور، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "موقف الفصائل بشكل عام يقوم على رفض أي عمل يؤدي إلى تعويم نظام الأسد من قِبل أي طرف"، مضيفاً أن "الجميع هنا يرى أن الحلّ الوحيد للمأساة السورية هو إسقاط نظام الأسد وإحالة المجرمين إلى المحاكم الدولية".
من جهته، يرى المحلل السياسي باسل المعراوي الموجود في الشمال السوري، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "التقارب بين الدولة التركية ونظام بشار الأسد لن يؤثر على جوهر السياسة التركية في سورية". ويضيف أن "السجال الذي دار بين الحكومة التركية وأحزاب المعارضة لم يتطرق إلى سحب الجيش التركي من سورية، بل كانت الحكومة والمعارضة معاً مع عملية عسكرية جديدة ضد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) فهي بنظر الأتراك تشكل خطراً وجودياً على أمنهم القومي".
ويشير المحلل السياسي إلى أن "الجيش التركي المنتشر في سورية يؤمن الحماية لخمسة ملايين سوري في الشمال، ويطمح الأتراك لإرجاع مليوني سوري من اللاجئين في تركيا إلى تلك المناطق، وأي انسحاب عسكري تركي سيدفع بمليوني لاجئ في الشمال إلى تركيا، وهو ما يزيد أعباءها". ويلفت إلى أن عموم السوريين في الشمال السوري "يرفضون أي تسوية مع النظام السوري، وعبّروا عن ذلك بتظاهرات حاشدة أخيراً كان شعارها: لن نصالح".
ويضيف المعراوي: "يؤخذ على الأتراك عدم تشكيل جسم عسكري موحد في الشمال السوري والقضاء على الفصائلية، والمحاصصة الفصائلية في أجهزة الأمن والقضاء"، لكنه يشير إلى أن "الإدارة المدنية مقبولة قياساً لمناطق النظام، إذ تتوفر الكهرباء بشكل دائم مع إعطاء حرية مزاولة أي مهنة أو فتح أي مشروع من دون تدخل سافر من الإدارة".