لم يحقق الاحتلال الإسرائيلي الكثير مما أراده، في اجتياحه القصير لمخيم جنين والمدينة فجر الإثنين وحتى مساء أمس الأول الثلاثاء، على الرغم من الدمار الهائل الذي تركته قواته، وقتله 12 فلسطينياً وجرحه أكثر من 100، وعلى الرغم من تصريحات المسؤولين المتتالية بأن العملية تحقق أهدافها، بل إنه فقد جندياً من جنوده الذين توغلوا في أزقة المخيم. وتشير التحقيقات الأولية إلى أنه أصيب بنيران رفاقه، في ظل حالة الخوف والارتباك، على إثر الاشتباكات العنيفة مع المقاومين الفلسطينيين الذين دافعوا عن المخيم في ليلة الانسحاب (ليل الثلاثاء-الأربعاء).
وبقي الكثير من المحللين الإسرائيليين على رأيهم الذي كان في أول أيام العدوان وقبله، بأن الاجتياح لن يوفّر الحلول الجذرية التي تبحث عنها دولة الاحتلال، خصوصاً للحد من العمليات الفلسطينية ضد المستوطنين وضد الاحتلال واستعادة قوة الردع، وأن العودة إلى جنين مسألة وقت قد لا يطول كثيراً. بل حتى جيش الاحتلال نفسه اعترف أن العملية كانت معقّدة وأنه فشل في تحقيق كامل أهدافه. جاء ذلك على لسان المتحدث باسمه دانيال هجري، أمس الأربعاء، حين قال إن القوات ستعود إلى جنين لاستكمال عمليات الاعتقال، بناء على المعلومات الاستخباراتية التي يُنتظر تلقيها لاحقاً، لكنه لم يتحدث عن التوقيت.
هجري: سنعود إلى المخيم، وبناء على معلومات استخباراتية سنعتقل المتبقين (من المطلوبين)
وأجرى هجري عدة لقاءات مع وسائل إعلام إسرائيلية يوم أمس، إحداها مع إذاعة "اف 103"، حيث قال: "سنعود إلى المخيم، وبناء على معلومات استخباراتية سنعتقل المتبقين (من المطلوبين) ونقوم باللازم معهم"، مضيفاً "نستعد لنشاط روتيني هو محاربة الإرهاب (على حد تعبيره) ولا يوجد حل سحري هنا".
وأشار هجري إلى تدمير جيش الاحتلال بنى تحتية للمقاومين في مخيم جنين وأجهزة اتصالات وكاميرات منصوبة داخل أزقة المخيّم، وعبوات ناسفة. وذكر أن الاحتلال اعتقل 300 فلسطيني، قال إن 30 منهم كانوا مطلوبين، لكنه لم يجد الآخرين. وأضاف أن حركتي "حماس والجهاد الإسلامي هما المسيطرتان في مخيم جنين، وآمل بعد عمليتنا (العسكرية) بأن تتمكن السلطة الفلسطينية أيضاً من تعزيز قبضتها"، وفقاً لتعبيره.
وتوقّعت المؤسسة الأمنية للاحتلال اعتقال عدد أكبر من "المطلوبين" لكن ذلك لم يتحقق، كما أن من اعتقلوا لا يعتبرون من وجهة نظر الاحتلال من قيادات الصف الأول. وأشارت صحيفة "هآرتس" في عددها أمس الأربعاء إلى فشل جيش الاحتلال في الوصول إلى كميات الأسلحة التي أرادها، كونها خُبئت على ما يبدو في أماكن مختلفة في المخيم.
غضب في صفوف المستوطنين
وعلى الرغم من أن العملية العسكرية جاءت مدفوعة بضغط من المستوطنين واليمين المتطرف في حكومة بنيامين نتنياهو، فإنها على ما يبدو لم ترض تعطشهم للدماء، بل أغضبتهم نهايتها "السريعة".
وذكر الكاتب في صحيفة "هآرتس" تسفي بارئيل، أمس الأربعاء، أن "فقدان بنيامين نتنياهو السيطرة السياسية دفع إلى عملية (عسكرية) استعراضية"، وأنه "لا يوجد شخص واحد في الجيش والشاباك والدوائر الصامتة في اليمين يعتقد أن هذه العملية ستقضي على الإرهاب في مخيم جنين، ناهيك عن مدينة جنين، ونابلس والقدس الشرقية وجميع الأراضي المحتلة". وتابع أنه يمكن للمرء أيضاً أن يفترض أن نتنياهو نفسه لا يصدق الكلمات التي خرجت من فمه عندما قال: "نحن نعمل على تغيير المعادلة ضد الإرهاب".
"هآرتس": فقدان بنيامين نتنياهو السيطرة السياسية دفع إلى عملية استعراضية
واعتبر الكاتب أن جيش الاحتلال تحوّل إلى لعبة بيد الحكومة والمستوطنين، في إشارة إلى أن ممثلي المستوطنين في الحكومة، والذين دفعوا الحرج عن أنفسهم باستنكارهم علناً أعمال المستوطنين الإرهابية بحق الفلسطينيين وإحراق بيوتهم، يريدون أن يقوموا بذلك بشكل رسمي من خلال جيش الاحتلال.
في المقابل، نقلت صحيفة "يسرائيل هيوم" سخط المستوطنين على قرار وقف العملية العسكرية في جنين بعد يومين فقط من انطلاقها. ويلوم المستوطنون الحكومة وائتلافها لعدم الإقدام على حملة عسكرية واسعة من اجل اجتثاث المقاومة الفلسطينية من جذورها، بما يشمل جمع أسلحتها. واعتبروا، وفقاً للصحيفة، أن قتل الجيش "أقل من 20 مسلحاً في غضون 38 ساعة هو عار". وتساءل آخرون: "لماذا توقّفنا؟ إنه لمن الصعب بدء حملة عسكرية، ولكننا كنا هناك بالفعل، فلماذا توقفنا؟".
في غضون ذلك، ذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أن المسؤولين في المؤسسة الأمنية للاحتلال، رأوا أنه كان من الممكن إنهاء العملية في جنين صباح أمس الأول الثلاثاء، لكن في جلسة تقييم الوضع الأمني التي جمعت المسؤولين الأمنيين بالمستوى السياسي الاسرائيلي تقرر تمديد العملية في مخيم جنين لفترة أطول بطلب من المستوى السياسي، في محاولة لتحقيق "المزيد من الإنجازات" بضرب مزيد من المقاومين، لكن مواصلة الاحتلال العدوان ارتدت عليه وتسبّبت بمقتل جندي.
وحرص جيش الاحتلال ومن يقف على رأس المؤسسة الأمنية والسياسية على التباهي بتحقيق "إنجازات" تمهد للانسحاب، قبل وقوع خسائر بشرية ومادية في صفوف قواته، على أمل الإعلان لاحقاً أن العملية "حققت أهدافها" وأن "القوات انسحبت بسلام" لكن ذلك لم يحدث.
"إنجاز" أراده الاحتلال من خلال مشاهد الدمار الكبير التي خلّفها الاجتياح الإسرائيلي الواسع في مخيم جنين وبنيته التحتية واستشهاد 12 فلسطينياً وإصابة عدد كبير من الفلسطينيين وتنفيذ اعتقالات واسعة واقتحام البيوت وترهيب السكان، بالإضافة إلى وضع يده على كميات كبيرة من الأسلحة والعبوات الناسفة، لكن المفاجآت والسيناريوهات الأسوأ التي حاول تجنّبها لاحقته حتى الرمق الأخير من عمر الاجتياح القصير.
العمليات الفلسطينية مستمرة
على الرغم من العدوان، استمرت العمليات الفلسطينية ضد الاحتلال، خلاله وبعده، آخرها أمس الأربعاء قرب نابلس، عندما أُطلقت النيران من مركبة باتجاه مركبة لشرطة الاحتلال ومبنى ما تسبب بأضرار مادية.
وسبق أن أعربت عدة جهات أمنية إسرائيلية عن تخوفاتها من عمليات "انتقامية" ينفذها فلسطينيون على خلفية اجتياح جنين، في سيناريو سيئ آخر بالنسبة للاحتلال حاول تجنبه.
كما شهد يوما العدوان عمليتين إحداهما في بني براك والأخرى في تل أبيب. وأوقعت الثانية عدة جرحى، خمسة منهم بحالة خطيرة. وتؤشر هذه العمليات إلى فشل أحد أهداف الاحتلال على الأقل بردعها، وأن المقاومة مستمرة.
من جهته، اعتبر المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل أن جيش الاحتلال حقق نجاحاً معيناً على المستوى العملياتي، بتمكنه من قتل نشطاء فلسطينيين مسلحين وهدم مختبرات لتصنيع متفجرات وعبوات ناسفة في مخيم جنين، "وبشكل استثنائي نجح أيضاً، بحسب أقواله (أي أقوال جيش الاحتلال)، في عدم قتل مدنيين غير ضالعين (بالأحداث). ومع هذا فإن يومي الحملة (العسكرية) أوضحا القدرة الفلسطينية على تنفيذ عمليات انتقامية خلالهما، عملية الطعن في بني براك (في أول أيام العدوان) وعملية الدهس والطعن في تل أبيب". وأضاف هرئيل أمس الأول الثلاثاء أن "نهاية هذه الرقصة الدموية بعيدة، وأي حملة عسكرية لن تغيّر شيئاً في الوقت القريب"، وأن "العنف سيستمر في ظل انعدام أي أفق سياسي". لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أن العدوان أعاد لجيش الاحتلال حرية التحرك في جنين على المستوى العملياتي، وهو أحد الأهداف التي وضعها الاحتلال.
ولفت المحلل العسكري إلى أن طلبات الاستيضاح التي وجّهتها عدة دول ومنظمات أجنبية إلى إسرائيل تركّز بشكل أساسي على الدمار الذي خلّفته الآليات العسكرية الإسرائيلية في طرق المخيم، ما ألحق أضراراً بالبنية التحتية للمياه والكهرباء.
وأضاف أن قرار التدمير اتُخذ من قبل مسؤولين كبار في جيش الاحتلال ولم يكن مرتجلاً، وذلك في أعقاب تفجير عبوة ناسفة ضد مركبة عسكرية إسرائيلية تابعة لوحدة المستعربين في قوات حرس الحدود، قبل نحو أسبوعين، لدى دخولها لتنفيذ اعتقالات في جنين. وأدى الانفجار في حينه إلى إلحاق أضرار بالغة بالمركبة وإصابة سبعة جنود بجروح، وتبين أن العبوة مدفونة في عمق الأرض تحت الشارع.
منح السلطة الفلسطينية موطئ قدم في جنين
ورأى هرئيل أن "إسرائيل قد تضطر لاحقاً للمساهمة في إصلاح الأضرار، وتأمل أن تتم إعادة البناء من خلال السلطة الفلسطينية، وبالتالي قد يكون من الممكن السماح للسلطة بالحصول على موطئ قدم من جديد في جنين". وزاد أنه "من وجهة نظر المؤسسة الأمنية، هذه عملية ناجحة حتى الآن، لكنها لا تحمل أي فرصة حقيقية لتغيير جذري للوضع في الضفة الغربية".
وتابع أنه "في أفضل الأحوال"، يوجد احتمال لتقليص مؤقت للعمليات المقبلة من جنين، "وربما مع تحسن معيّن في حالة الردع الإسرائيلي في مناطق أخرى". لكنه ذكر أيضاً أن عدم استقرار السلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، كل هذا يضاف إلى العوامل التي من شأنها إبقاء الوضع مشتعلاً، رغم الحملة العسكرية.
"يديعوت": عملية إعادة بناء مخيم جنين تندرج في إطار استكمال العملية العسكرية، بالنسبة للمستوى السياسي
وذكر موقع "يديعوت أحرونوت" أمس الأربعاء أن عملية إعادة بناء مخيم جنين تندرج في إطار استكمال العملية العسكرية، بالنسبة للمستوى السياسي، وهو ما يلتقي مع ما كتبه عاموس هرئيل.
وأشار الموقع إلى إجماع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على أن وجود "سلطة فلسطينية قوية وقادرة على القيام بدورها يصب في مصلحة إسرائيل. ومن المقترحات المطروحة الآن أن تنخرط السلطة في مشروع إعادة البناء، وبالتالي تستعيد موقعها في جنين". لكن عملية تقوية السلطة، وفق الموقع، "تتطلب من رئيس الحكومة (نتنياهو)، إقناع أعضاء حكومته بالموافقة على القيام بخطوات اقتصادية وسياسية أمام سلطة محمود عباس. بدون خطوات اقتصادية وسياسية، سنعود إلى نفس النقطة خلال وقت قصير جداً. وهذا بالطبع، يتعارض مع مصلحة إسرائيل: جيرة حسنة من أجل الأمن"، وفق ما جاء في الموقع.
على أرض الواقع، وعلى الرغم من طموح الجهات الأمنية لترميم صورة السلطة الفلسطينية، إلا أن السلطة لقيت انتقادات واسعة وسخطاً كبيراً عليها وعلى أجهزتها في جنين، لعدم التدخل لحماية الأهالي خلال الاجتياح الإسرائيلي.