لم يكن العدوان الإسرائيلي على جنين ومخيمها في مطلع هذا الأسبوع منقطعا عن المخطط الاستراتيجي المرحلي الإسرائيلي، الذي تمت بلورته في أواخر العام 2021 لمنع انهيار السلطة الفلسطينية وتمكينها من السيطرة الأمنية على المدن الخاضعة لها.
ويرمي المخطط بشكل أساسي إلى إبقاء السلطة الفلسطينية ضعيفة في وجه إسرائيل، بحيث تضطر إلى تنفيذ مهام أمنية لصالح إسرائيل، وهو ما كشفه صراحة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قبل أيام من العدوان عندما دعا إلى "وجوب اجتثاث فكرة قيام دولة فلسطينية".
وكان هذا المخطط في بعده الاستراتيجي قد تبلور أصلا في قيادة الجيش وبالتنسيق مع المستوى السياسي في حكومة نفتالي بينت التي قامت على أساس تأجيل حل الملف الفلسطيني، مع السعي أولا إلى السيطرة (عبر الاستيطان) على ما أمكن من أراض فلسطينية في المناطق الريفية التي صنفها اتفاق أوسلو باعتبارها مناطق "سي"، وخاضعة مدنيا وأمنيا لسلطة دولة الاحتلال.
هذا هو السياق الإسرائيلي العام للعدوان المتواصل على جنين منذ إطلاق خطة "كاسر الأمواج" في مارس/ آذار 2022 بموافقة أميركية وصمت فلسطيني، وهو ما يفسر أيضا مخرجات لقاءي العقبة وشرم الشيخ والحديث العلني عن إلزام السلطة الفلسطينية بوقف مظاهر العمل الفلسطيني المسلح في هيئته الجديدة التي شهدتها محافظة جنين ثم نابلس وامتدادا إلى مخيم عقبة جبر، قرب أريحا.
وجاءت الهيئة الجديدة للعمل المسلح على شكل خلايا عسكرية من عناصر ينتمون لفصائل مختلفة، أي وحدة عمل عسكري عابر للفصائل، يمكن في حال السكوت عنه أن يشكل نواة جديدة لتجديد العمل المسلح تحت سمع وبصر السلطة الفلسطينية، وبمشاركة عناصر من فصائل مشاركة في النظام السياسي للسلطة الفلسطينية.
واستهدف المخطط الإسرائيلي، الذي وضع في العام الماضي، نموذج المقاومة الجديد، الذي سرعان ما حظي في بداياته باحتضان شعبي واسع بفعل توظيف شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، حتى اضطر الاحتلال نفسه إلى محاولة التخفيف منه إعلاميا بوصفه بـ"مقاومة التوك توك".
ووضعت هذه الصيغة المشتركة والعابرة للتنظيمات في المقاومة دولة الاحتلال أمام تحد جديد لم تشهد له مثيلا في الضفة الغربية المحتلة في العقدين الأخيرين، وتحديدا منذ الإجهاز على الانتفاضة الثانية.
مع ذلك، فإن المخطط الإسرائيلي لمحاربة الظاهرة امتنع، بفعل دراسة العبر من عدوان "السور الواقي"، عن شن اجتياح واسع لكل مدن الضفة الغربية أو نقاط الاحتكاك، مثل جنين ومخيمها ونابلس وطولكرم والمخيمات القريبة منها، كي لا يقوض هذا الاجتياح نهائيا السلطة الفلسطينية وبالتالي يحقق هدفا معاكسا لما أراده، إضافة للمخاطرة باشتعال الضفة الغربية كلها، وهو ما قد ينهي أيضا أي فرصة لتهدئة في قطاع غزة، بما يوحد الساحتين في انتفاضة مسلحة بدون أي شك.
وكان واضحا أن مخطط "كاسر الأمواج" يستهدف جيوب المقاومة المسلحة لمختلف المجموعات، لكن تم تنفيذه دون توقف بشكل متدرج حتى لا تشتعل الضفة كلها مجتمعة من جهة، ولتفادي ضغوط دولية فعلية من جهة أخرى.
ومن الواضح أيضًا أن المخطط الإسرائيلي قام، كما شهدنا في العامين الأخيرين، على عمليات اجتياح عينية لجنين ونابلس والمخيمات المحيطة بهما، مع حملات اعتقال يومية في مناطق متفرقة في الضفة الغربية المحتلة كلها.
وشهد العدوان الأخير، هذا الأسبوع، تصعيدا جديدا بفعل حجم القوات التي تم الدفع بها إلى جنين ومخيمها ونوعية هذه القوات، مع اعتماد واضح ومعلن ليس فقط على المروحيات العسكرية، وإنما أيضا على المسيرات القتالية في الجو والعتاد الثقيل برا بما يمكن من إعمال الهدم الفعلي للمخيم وأزقته "الإشكالية".
وقد سوق الإعلام الحربي للاحتلال، عبر "الإعلام العام"، أن "أهداف العملية" محددة ووقتها غير طويل، وكان الهدف من ذلك رغم غرابة الأمر، ضمان عدم مواجهة حرب على الحلبة الدولية والدبلوماسية، وقد تم له ذلك بشكل تام تقريبا، خصوصا بعدما ضمن الدعم الأميركي للعدوان كجزء من المخطط الذي أشرنا إليه آنفا وكانت الإدارة الأميركية مطلعة عليه مع وضع خطوطه العريضة في زيارة وليام بيرنز الأولى لإسرائيل بعد تنصيب بايدن في ديسمبر/ كانون الأول 2021.
وكانت المفارقة الشديدة خلال يومي العدوان صمت النظام العربي بشكل ملفت للنظر، بالرغم من صدور استنكارات وتنديد بالعدوان، إلا أن التحرك العربي الفعلي، وهو ما يبدو أن الاحتلال كان قد أخذه بالحسبان، بالبناء على جولات سابقة من الاعتداءات، جاء بعد انتهاء أيام العدوان.
وقد سبق أن أقرت إسرائيل في مناسبات مختلفة بأن العامل الزمني، أو "الثغرة الزمنية" المتاحة لها للعمل بحرية قبل أن تبدأ الضغوط الدولية، تراوح عادة بين 48 و72 ساعة، سواء بفعل الوقت اللازم لترتيبات دعوات انعقاد مجلس الأمن، أو الجمعية العمومية وحتى إقرار ذلك، أم بفعل عادة الانتظار التي يمارسها النظام العربي كما بينته جولات سابقة، حتى يتحرك بشكل فعلي، خصوصا لتفادي تململ وغضب في الشارع العربي.
ولعله يمكن القول في سياق إجمال العدوان الأخير على جنين ومخيمها إن إسرائيل قد لا تكون حققت كليا أهدافها العسكرية، وهي بالتأكيد لم تحقق بعد هدفها الاستراتيجي في قمع وإخماد نموذج جديد من العمل العسكري ضدها، ومنع أو ضرب الجيل الجديد الذي لم يعد خائفا من قوتها الفتاكة كما أبرزتها في عدوان "السور الواقي".
ما حدث فعليا هو تمخض العدوان الذي رافقته مشاهد التهجير من المخيم، عن إبراز حجم وعمق الحاضنة الشعبية لمجموعات المقاومة العسكرية، مقابل الرفض لسياسات السلطة الفلسطينية وعقيدتها في التنسيق الأمني.
وإذا كان العدوان قد حقق لإسرائيل شيئا فهو قدرتها على القتل والتهجير، دون رادع عربي، لكن هذا الأمر قد ينقلب في قادم الأيام على النظام العربي ككل وعلى مساعي التطبيع، التي يثبت أن كل من يتورط في وحله يجد نفسه كل مرة غير قادر على أن يلعب أكثر من دور "وسيط" يأمل أن تحفظ له إسرائيل ماء وجهه.