ترسم الدوائر العسكرية والاستخباراتية الغربية صورة قاتمة للوضع بعد عامين من الغزو الروسي لأوكرانيا فالتقديرات تشير إلى أن موقف روسيا أصبح اليوم أقوى مما كان عليه في العامين الأول والثاني، وهي على وشك أن تستعيد زمام المبادرة في الحرب. وفي الوقت ذاته، ما زالت أوكرانيا بعيدة عن امتلاك ما يكفي من قدرات للانتقال إلى وضعية الهجوم في الربيع المقبل، ومعالجة نقاط الضعف، التي أدّت إلى فشل الهجوم المعاكس في مطلع صيف 2023، ما قد يؤدي إلى فشل أي هجوم جديد، إذا لم تحصل على ضمانات مؤكدة من الغرب باستمرار الدعم العسكري والاقتصادي ووصوله في الوقت المناسب.
الاستخبارات العسكرية النرويجية حذّرت، في تقريرها السنوي للعام 2024، في 14 فبراير/شباط الحالي، من ثلاثة عوامل يمكن أن تمهد الطريق لهجوم روسي كبير جديد في العام الثالث للحرب: تفوق روسيا في القدرة على التجنيد، وارتفاع معدل إنتاجها الحربي، وعدم فاعلية العقوبات الغربية كما كان متوقعاً.
من المتوقع أن يرتفع الإنفاق الدفاعي الروسي هذا العام ليصل إلى 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي زيادة غير مسبوقة في العصر الحديث
وتزامن نشر التقرير مع قرار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تعيين قائد القوات البرّية أولكسندر سيرسكي قائداً للجيش بدلاً من فاليري زالوجني. وركزت وكالات الأنباء الغربية في تغطياتها للحدث على أن تعيين سيرسكي جاء في ظل أزمة تعبئة، وتعطيل حزمة مساعدات عسكرية حيوية من الولايات المتحدة، ونقص كبير في الذخيرة تعاني منه القوات الأوكرانية، وتمتع القوات الروسية بالأفضلية في العام الثاني من الحرب.
استعادة زمام المبادرة
وفقاً للتقرير النرويجي، وتقارير غربية أخرى، حشدت روسيا أعداداً كبيرة من المجندين الجدد، يقدر عددهم بثلاثة أضعاف ما تستطيع أوكرانيا القيام به. وتتمثل خطة الجيش الروسي المعلنة في زيادة عديد القوات من مليون إلى 1.5 مليون جندي بحلول عام 2026. وأكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحافي السنوي، في 14 ديسمبر/كانون الأول 2023، أن بلاده تمكنت من تجنيد 486 ألف رجل طوعاً للانضمام إلى صفوف الجيش في عام 2023، وأن هذا الجهد سيتواصل في العام 2024.
في المقابل، وفي ظل الحديث عن نقص متزايد في عدد جنود الجيش الأوكراني على الجبهات، اكتفى الرئيس الأوكراني بالإشارة إلى خطة للجيش تقترح تعبئة ما بين 450 إلى 500 ألف مقاتل في عام 2024، دون توضيح كيف سيتم تنفيذها.
وفيما تناقص الدعم الغربي لأوكرانيا بالسلاح، وتراجع الإنتاج العسكري في أوكرانيا ذاتها إلى مستويات متدنية بسبب الهجمات الروسية المتكررة على المصانع والمرافق العسكرية، ارتفع معدل إنتاج روسيا من الذخيرة والمركبات القتالية والطائرات بدون طيار والصواريخ بمختلف أنواعها، ومنها فرط الصوتية والبالستية، بشكل كبير مع تسخير كل شي للمعركة في أوكرانيا.
ومن المتوقع أن يرتفع الإنفاق الدفاعي الروسي هذا العام بنحو 61 في المائة بالقيمة الحقيقية، وهي زيادة غير مسبوقة في العصر الحديث، لتصل إلى 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. إلى جانب تلقي روسيا دعماً كبيراً من الصين وكوريا الشمالية وإيران وبيلاروسيا، بما في ذلك كميات كبيرة من الذخيرة والطائرات من دون طيار.
المعهد الملكي للخدمات المتحدة (روسي) RUSI، وهو مركز أبحاث في مجال الدفاع، قدّر في تقرير في مايو/ أيار 2023 أن روسيا يمكنها إنتاج ما يصل إلى 2.5 مليون قذيفة مدفعية سنوياً. وبحسب المركز، فإن هذا الرقم لا يغطي حاجة روسيا في حال استمرار إطلاق القذائف بذات الوتيرة التي شهدها عام 2022، حيث أطلقت قرابة 12 مليون قذيفة، مع توقعات حينها بإطلاق سبعة ملايين قذيفة في 2023.
لكن النقص في الذخيرة يلاحظ أكثر لدى أوكرانيا التي تستورد 85 في المائة من القذائف من الغرب وأطلقت حسب خبراء عسكريين غربيين ما متوسطه 5 آلاف قذيفة يوميا، وأثناء الصيف الماضي ارتفع العدد إلى 8 آلاف في الهجوم المضاد حسب تقديرات خبراء لصحيفة "ديرشبيغل" الألمانية في 26 يوليو/ تموز الماضي، أي أن أوكرانيا بحاجة إلى 1.8 مليون قذيفة بأقل تقدير، و3 ملايين في حال قررت استمرار الهجمات المكثفة لاستعادة أراضيها.
في المقابل، تنتج الولايات المتحدة حوالي 240 ألف قذيفة سنوياً، لكنها تخطط لتوسيع الإنتاج إلى مليون قذيفة بحلول عام 2025. بدورها أنتجت البلدان الأوروبية حوالي 650 ألف قذيفة في عام 2023، ولكن أقل من نصف هذا الإنتاج ذهب إلى أوكرانيا، ما يعني أن "العطش" للقذائف في أوكرانيا سيستمر وأن الغلبة في هذا المجال في حال استمرار الحرب سيكون لروسيا.
وتسود حالة من الإحباط على مستوى الحكومات والمؤسسات الأوروبية، جراء ضعف تأثير العقوبات الغربية على اقتصاد روسيا وقدرة موسكو على تمويل المجهود الحربي. وعبّرت عن ذلك وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في حديث لها في 4 أغسطس/ آب 2023. فرغم العقوبات الغربية على موسكو منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، سجّل الاقتصاد الروسي نمواً ملحوظاً عام 2023. ولا يقلّل من أهمية هذا المعطى تأكيد خبراء غربيين أن "نمو الاقتصاد الروسي يرجع بالأساس للحرب في أوكرانيا والإنتاج المتزايد للأسلحة والذخيرة، ما يجعله نمواً مؤقتاً بعيداً عن فكرة الاستدامة".
العوامل الثلاثة التي انطلق منها تقرير الاستخبارات العسكرية النرويجية لتحديد التهديدات والمخاطر، على ضوء دخول الغزو الروسي لأوكرانيا عامه الثالث، محل إجماع في التقارير العسكرية والاستخبارية الغربية مبدئياً، مع فارق في تقييم حجم التهديدات والمخاطر، ومدى نجاح موسكو في التغلب على العقبات التي عانت منها في العام الأول للحرب، على الصعيدين العسكري والاقتصادي.
لكن كل التقارير تتفق على أن الجيش الأوكراني يعاني من نقص حاد في الذخائر ومن السيطرة الجوية الروسية، وأن استمرار وتفاقم مظاهر الخلل المشار إليها، في العوامل الثلاثة، كفيلان بإرساء معادلات جديدة في ميزان القوى على الأرض، ستبدأ نتائجها بالظهور عام 2025، باعتبار أن معارك العام الحالي سيغلب عليها أسلوب الدفاع من الجانبين، تتخلله هجمات معاكسة موضعية محدودة، لأن الطرفين ما زالا بعيدين عن امتلاك القدرات لشنّ هجمات واسعة.
تغيير في استراتيجيات الحرب 2024
للمفارقة؛ حتى في حالة عدم امتلاك الطرفين الأوكراني والروسي مقومات التحول من وضعية الدفاع إلى المبادرة في الهجوم، فإن هذا الأمر يعطي أفضلية لروسيا، بتبنيها رؤية استراتيجية تهدف إلى كسب الحرب بمراكمة مكاسب ليست حاسمة، إلا أنها تؤدي إلى تعميق مأزق تآكل الدعم الغربي لأوكرانيا، وحرمان كييف من تعويض خسائرها. وهذا لا يتطلب بالضرورة في المدى المنظور شنّ القوات الروسية عمليات هجوم واسعة للاستيلاء على المزيد من الأراضي الأوكرانية، بل يكفيها امتلاك دفاعات قوية. وباعتراف الدوائر العسكرية والاستخبارية الغربية، باستطاعة روسيا كسب حرب الاستنزاف، لأن مخزونات الأسلحة الغربية يمكن أن تستنفد بشكل أسرع من نظيرتها الروسية، وهذا ينطبق على المعدات والذخائر.
أما بالنسبة لأوكرانيا، فلا خيار أمامها سوى اتباع أسلوب الهجوم لتحرير المزيد من أراضيها، لضمان استمرار الدعم العسكري والاقتصادي الغربي، وتفادي خطر الوقوع في فخ جمود الحرب، وما قد يحمله معه من سيولة سياسية في المواقف الأميركية والأوروبية، على ضوء ما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في خريف العام الحالي، ووجود مؤشرات على تراجع حظوظ الرئيس جو بايدن بإعادة انتخابه لولاية ثانية.
إلا أن كييف عام 2024 تجد نفسها في معادلة عسكرية صعبة وبيئة جيوسياسية صعبة، بغض النظر عن الخيار الذي ستأخذ به، فما تريده في هذه المرحلة هو إقناع الغرب باستمرار تقديم الدعم لها، غير أنها لا تستطيع الاعتماد على موقف غربي واضح وثابت على المدى الطويل.
فبعد عدة أشهر من تعهد بايدن خلال زيارته لكييف في فبراير 2023، بأن واشنطن سوف تدعم أوكرانيا في معركتها ضد روسيا "بقدر ما يتطلب الأمر"، قال بايدن في مؤتمر صحافي مشترك مع زيلينسكي، خلال زيارة الأخير لواشنطن في ديسمبر/ كانون الأول الماضي: "سنواصل تزويد أوكرانيا بالأسلحة والمعدات الحيوية لأطول فترة ممكنة... لكن من دون تمويل إضافي، فإننا نقترب بسرعة من نهاية قدرتنا على مساعدة أوكرانيا على الاستجابة للمتطلبات التشغيلية العاجلة التي لديها".
وترافق التغيير في خطاب واشنطن مع تحذيرات من وجود إشارات على تراجع وحدة الموقف الأوروبي الداعم لأوكرانيا، منها قرار بولندا بقطع إمداداتها من الأسلحة لأوكرانيا وإعطاء الأولوية لتسليح جيشها، وتعهد رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيتسو في حملته الانتخابية، قبل توليه منصبه في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي مرة أخرى، بعدم تسليم طلقة واحدة لكييف، وتعطيل المجر لحزمة المساعدات الأوروبية لأوكرانيا.
وعلى الرغم من تراجع روبرت فيكو عن تعهده، وتمرير المجر لحزمة المساعدات لاحقاً، يُجري الاتحاد الأوروبي مراجعة لحجم الدعم العسكري الذي قدمته الدول الأعضاء فيه لأوكرانيا منذ الغزو الروسي، ردا على تقارير أفادت بأن بعض البلدان الأوروبية لم تلتزم بتقديم ما يمكنها من الدعم العسكري.
الاستراتيجية الدفاعية الروسية، تشكّل الخيار الأمثل لموسكو في المدى المنظور
مما سبق؛ فإن اختيار موسكو لوضعية الدفاع استناداً للرؤية الاستراتيجية الروسية بعد الهجوم الأوكراني المعاكس خريف 2022، وقرار زيلينسكي تعيين أولكسندر سيرسكي قائداً للجيش بدلاً من زالوجني كضرورة للتغيير في خطط الحرب على أساس مراجعة أسباب فشل الهجوم المعاكس 2023، وكيفية الخروج من حالة الجمود على الجبهات إلى وضعية الهجوم، كلاهما يندرجان في إطار بحث موسكو وكييف عن نصر تكتيكي في عام 2024، من زاويتين مختلفتين.
فرص نجاح الاستراتيجية الأوكرانية
لا تُطرح على بساط البحث فرص نجاح الاستراتيجية الدفاعية الروسية، فهي تشكّل الخيار الأمثل لموسكو في المدى المنظور، ولذلك ينصب الجدل حول قدرة كييف على تغيير مسار الحرب بإخراجها من حالة الجمود، وما إذا كان تعيين الجنرال سيرسكي قائداً جديداً للجيش سيدفع بهذا الاتجاه.
ويصعب الحديث عن إمكانية سيرسكي في تغيير الواقع في ظل مشكلات الجيش الأوكراني المتعلقة بعدم القدرة على تجنيد العدد الكافي لشنّ هجمات مضادة، وشحّ الأسلحة الغربية الحديثة ومن ضمنها أنظمة الدفاع الجوي، والتردد لدى بعض الدول في تزويد أوكرانيا بطائرات وصواريخ بعيدة المدى، والنقص الكبير في الذخيرة.
الهدف الذي تطمح أوكرانيا إلى تحقيقه عام 2024 هو ذات الهدف الذي فشلت في تحقيقه في هجومها المعاكس 2023، أي وصول القوات الأوكرانية إلى بحر آزوف، وقطع خطوط الاتصال الأرضية الروسية مع شبه جزيرة القرم.
لكن حتى لو وضعنا جانباً واقعية تحقيق هذا الهدف، ومخاطر تكرار أخطاء الهجوم السابق، فإن عامل الوقت يعمل لصالح موسكو، بسبب المخاطر السياسية الكبيرة التي قد تترتب على حدوث تغيير في المواقف الأميركية والأوروبية الداعمة لأوكرانيا.
فباستثناء عدد قليل من الدول الأوروبية تبنت مقولة الحسم العسكري ضد روسيا، مثل دول البلطيق وبولندا، ترى الولايات المتحدة وألمانيا وغالبية الدول الأوروبية أن المطلوب هو إضعاف روسيا لإجبارها على القبول بالتفاوض مع أوكرانيا، وتُطرح في الكواليس أفكار غربية لا تستبعد تخلي أوكرانيا عن جزء من أراضيها كثمن للتسوية، شبه جزيرة القرم تحديداً، ما يفتح شهية روسيا للحصول على مزيد من التنازلات، خصوصاً إذا عاد الرئيس السابق دونالد ترامب أو مرشح جمهوري آخر للبيت الأبيض.
وهكذا ستحقق روسيا "نصراً تكتيكياً" بصمودها أمام الهجمات الأوكرانية وكسب حرب الاستنزاف، يمكنها البناء عليها خلال العامين المقبلين، في حين ستمضي أوكرانيا نحو مجاهيل سياسية حتى لو انتزعت نصراً تكتيكياً. فمهما كان نصر كييف مفصلياً لن يكون حاسماً، ولا يمكن استثماره مستقبلاً، إلا إذا استمر الالتزام الأميركي والأوروبي بدعم أوكرانيا "بقدر ما يتطلب الأمر"، وليس "لأطول فترة ممكنة"، والفرق شاسع بين المصطلحين، وهنا تكمن معضلة الحسابات الأوكرانية.