ليست التغيرات المناخية، الكاشفة عن انحسار الجليد البحري في القطب الشمالي، وحدها التي ترفع القلق على "سطح العالم" في المنطقة القطبية الشمالية. بل ثمة تغيرات ضخمة أخرى تجري فيه، خصوصاً مع تسارع استعراض العضلات العسكرية الغربية - الروسية بأشكال تعيد القطب الشمالي إلى فترة الحرب الباردة السابقة (حتى عام 1992).
استدعاء الصين يزيد القلق
على الرغم من أن السباق للسيطرة عسكرياً ليس جديداً في القطب الشمالي، لكنه أخيراً اتخذ أشكالاً جديدة مع توسع ساحات المواجهة بين الغرب من جهة وكل من روسيا والصين من جهة أخرى.
ومع أن الصين ليست محاذية للقطب الشمالي، لكن على مدار أكثر من عام ونصف عام، تسارعت الخطى الروسية لجرّها إلى المنطقة. وبالطبع الصين لا يهمها فقط الجانب العسكري من القصة، إنما ترى في ذوبان "الممر الشرقي" فرصة كبيرة للعبور التجاري منه، وتقليل المسافة من موانئها نحو أوروبا بنحو 30 في المائة عن العبور من قناة السويس ومضيق ملقا الإسباني.
لا يهم الصين الجانب العسكري فقط من القطب الشمالي، بل ترى في ذوبان "الممر الشرقي" فرصة كبيرة للتجارة
الجانب الروسي مهتم أيضاً باستقدام بكين إلى المنطقة كنوع من الضغط على الغرب، الذي يدرك اكتساب القطب الشمالي أهمية جيوسياسية مع ما تكشفه التغيرات المناخية.
موسكو أخرجت في العام الحالي بعض مخالبها. ففي مايو/أيار الماضي، وفي أثناء إحياء ذكرى الانتصار السوفييتي على النازية، أجرت فوق جزيرة سفالبارد النرويجية منزوعة السلاح، والتي يوجد فيها أيضاً مواطنون روس، استعراضاً شبه عسكري من خلال مسيرة مرتدي اللباس الأخضر في بارنتسبرغ (ثاني أكبر مدينة في الجزيرة)، ما عده الغربيون "محاولة استفزاز في منطقة منزوعة السلاح رسمياً".
بالنسبة للغرب، الأمر ليس عادياً. فقبل إحياء الذكرى، وفي نهاية إبريل/نيسان الماضي، كانت موسكو تستقبل وفداً صينياً وقّع على اتفاقية مشتركة لتسيير "دوريات مدنية مشتركة في البحار"، والقطب الشمالي منها. التوقيع لم يجر في موسكو أو في أقصى شرق روسيا، بل في مورمانسك، بالقرب من حدود فنلندا.
التصرفات الروسية وتوثيق التعاون مع الصين في القطب الشمالي ليست من قبيل الصدفة "بل هي إشارة توضيحية"، كما قرأها الأستاذ المتخصص في القطب الشمالي من معهد فريدجوف نانسن النرويجي، أريلد مو.
ونقلت صحيفة "في غي" في أوسلو عن مو قوله إن "توقيع الاتفاقية في مورمانسك هو نتيجة للقمة بين (الرئيسين الروسي والصيني) فلاديمير بوتين وشي جين بينغ في مارس/آذار الماضي". ذلك يعني أن تركيز الاهتمام على أوكرانيا منذ فبراير/شباط العام الماضي يدفع أكثر نحو سباق مستمر بلا هوادة. والجانب الأميركي يراهن أيضاً بقوة على منطقة القطب الشمالي في ظل تراجع السياسات الأمنية الدولية.
الاستعانة الروسية بالصين تزيد من القلق الغربي في القطب الشمالي، خصوصاً أن موسكو أعلنت أخيراً أنه سيتم إنشاء مركز أبحاث دولي في سفالبارد، يستثنى منه الغرب، وتحت رعاية شركة التعدين الروسية "أرتيكوغول"، بناء على اتفاقية قديمة من عام 1920 بشأن الأرخبيل تعطيها الحق في الوجود على الجزر.
مركز الأبحاث البريطاني "سيفيتاس" خلص قبل مدة إلى أن روسيا في طريقها لتحويل منطقة القطب الشمالي كلها إلى "ساحة معركة في المستقبل". سيحدث هذا مع انحسار الجليد من الممر الشمالي الشرقي (شمال روسيا) بسبب تغير المناخ، وجفاف العديد من مناطق القطب الشمالي الروسية، بحيث يمكن استخدامها عسكرياً وتجارياً.
انحسار الجليد من الممر الشمالي الشرقي، وجفاف العديد من مناطق القطب الشمالي الروسية، يساعدان روسيا على استخدامها عسكرياً وتجارياً
يؤشر ذلك أيضاً إلى انهيار ما كان يطلق عليه دبلوماسية "استثناء القطب الشمالي" (عن الصراعات وسباق التسلح)، حيث ظل التعاون منذ انهيار الاتحاد السوفييتي (1991) يتركز في إطار "مجلس القطب الشمالي" (من الدول المحاذية له)، دونما تهديد واستعراض عضلات عسكرية.
تفعيل القواعد العسكرية الروسية في القطب الشمالي
مراقبة التصرفات الروسية في المنطقة القطبية الشمالية توضح لدى الغربيين عودة الكرملين إلى سياسات قديمة تعتبر المنطقة حيوية، وخصوصاً أنها كانت حاسمة خلال فترة الحرب الباردة.
فعبر التاريخ السوفييتي، ظلّ القطب الشمالي محل اهتمام كبير، وأقام الاتحاد السوفييتي لأجل إظهار ذلك الاهتمام عدداً من القواعد العسكرية، وأرسل "رحلات استكشافية" مختلفة. تراجع ذلك الاهتمام مع تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وأغلقت القواعد والمطارات التي بنيت وبقيت لعقود طويلة.
التقارير الغربية، المستندة إلى مراقبة استخبارية عسكرية في أقصى شمال اسكندنافيا والمنطقة القطبية، تفيد بأن الروس باتت لديهم الآن نحو 50 قاعدة عسكرية بمختلف الأحجام. بل أعادت موسكو توسعة وتأهيل العمل بنحو 13 قاعدة جوية و10 محطات رادار خلال سنوات قليلة مضت، ونقلت جزءاً لا بأس به من القوة الضاربة النووية إلى المنطقة منذ عام. وإحدى أهم القواعد الجوية السوفييتية السابقة، ناغورسكوي الجوية الكبيرة في فرانز جوزيف لاند (أرخبيل)، والواقعة في أقصى الشمال القطبي، أُعيد أيضاً العمل فيها. بل زودت بمدرجات صلبة للتعامل مع الطائرات الثقيلة والقاذفات الاستراتيجية.
أمام تلك التطورات المتسارعة، ترتفع أصوات غربية بحثية وعسكرية توصي بـ"إعادة تسلح في القطب الشمالي". وتعتبر بعض الأصوات في الغرب أن الأوهام الغربية حيال التعاون في القطب الشمالي "نقلت منذ وقت قصير إلى مهملات التاريخ". وتوقعت مراكز بحثية غربية عدة، بما فيها "راند" الأميركي و"المعهد الدنماركي للدراسات الدولية"، تحول منطقة القطب الشمالي إلى ساحة معركة جيوسياسية.
ومع ذلك، لا يبدو أن الغرب يقف مكتوف الأيدي. فمقابل نقل روسيا طائرات "ميغ 31" المزودة بصواريخ كينجال، تسارع واشنطن وقوى غربية أخرى إلى ما يشبه سياسة الهجوم المكتوم في القطب الشمالي، بما في ذلك إعادة تفعيل قواعد ضخمة في جزيرة غرينلاند الدنماركية (خصوصاً قاعدة ثولا)، وتعميق تعاون عسكري مع كندا والنرويج.
تسارع واشنطن وقوى غربية أخرى إلى ما يشبه سياسة الهجوم المكتوم في القطب الشمالي
وعلى عكس روسيا التي تظهر إعلامياً "وبضجيج مقصود" تحركاتها القطبية، كما يصفها كبير باحثي "الدنماركي للدراسات الدولية" (دييس) فليمنغ سبويدسبول هانسن، فإن تحركات أطلسية غربية مسنودة بتقارير استخبارات عسكرية في منطقة القطب الشمالي، تجري على قدم وساق. وباتت الخشية أن تذهب الأمور نحو صراعات أكثر توسعا مما كانت عليه في فترة الحرب الباردة.
تغير مناخي يزيد التنافس
مقارنة بعام 2010 الذي شهد مرور أربع سفن فقط من "الممر الشرقي" في القطب الشمالي، صارت حركة السفن اليوم بالمئات، مع توقعات الخبراء ألا يحل عام 2040 إلا وتصبح المنطقة خالية من الجليد.
المنطقة تشهد ذوباناً جليدياً متسارعاً، نتيجة زوال الصفائح الجليدية الضخمة فيه، وما لذلك من انعكاسات مدمرة على درجات حرارة الأرض المرتفعة أكثر فأكثر خلال العقد الأخير. ذلك ما كان يسميه الباحثون وخبراء التغيرات المناخية قبل سنوات طويلة بـ"التأثيرات ذاتية التعزيز"، في دورة ارتفاع درجات الحرارة والذوبان، مع ما تؤدي إليه من زيادة تواتر ظواهر الطقس المتطرفة مثل موجات الحرارة وحرائق الغابات والفيضانات.