يسيطر القلق والخوف على الأوساط الحقوقية وأسر المعتقلين في مصر، بعد انتشار معلومات داخل السجون المختلفة المحبوس فيها المعتقلون السياسيون على ذمة التحقيقات في قضايا مختلفة، عن تعميم مشروع تجديد حبس المتهمين عن بُعد عبر تقنية "فيديو كونفرانس"، والذي دشنته الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وسط ترويج إعلامي من قبل وزارتي العدل والاتصالات لفوائد المشروع ولكونه الخطوة الأولى في طريق التقاضي عن بُعد. ويقضي المشروع بأن يبقى المتهمون داخل السجون في قاعة خاصة، يتواصلون منها مع هيئة المحاكمة المنعقدة في قاعة مشابهة بالمحكمة، مع السماح بحضور المحامين داخل قاعة المحكمة. وما زاد القلق أن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أطلقها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، هذا الشهر، تضمنت إشارة صريحة إلى التوسع في هذا المشروع على مستويات عدة، ولا سيما من حيث تعميمه على جميع السجون التي تضم معتقلين محبوسين احتياطياً على ذمة قضايا، وكذلك استغلاله في المحاكمات إذا كانت تقتصر على متهم أو عدد قليل من المتهمين يمكن إدارة جلستهم عن بُعد، وذلك من دون سند تشريعي يقنن هذه الممارسة، التي سبق وتراجعت عنها دول أوروبية عدة لتنافيها مع قواعد العدالة المنصفة، والتضييق على المتهمين ومحاميهم.
وإذا كان يمكن للبعض اعتبار أن هذا المشروع إيجابياً، بحجة أنه يوفر الراحة لجميع أطراف المحاكمة؛ من قضاة ومتهمين ومحامين وحراسة، إلا أنه بالتطبيق العملي على أرض الواقع في مصر، وبالنسبة للعدد الضخم من المعتقلين المحبوسين احتياطياً، فإن نظام المحاكمة الجديد يتحول إلى نقمة وأداة لتنكيل أكبر بهؤلاء المعتقلين.
المشروع يحرم المتهم والمحامي من التواصل المباشر مع القاضي ويصعّب التأثير عليه
ففي ظلّ التراجع الدائم لاحتمالات إخلاء سبيل المتهمين بقرارات المحكمة، خصوصاً في القضايا ذات الطابع السياسي، والتي تضم مئات المتهمين شبه المتطابقين في أوضاعهم القانونية، بات المتهمون يعتبرون جلسات نظر تجديد الحبس أو المحاكمة هي المتنفس الوحيد لهم للقاء محاميهم، وكذلك لرؤية أفراد أسرهم وأصدقائهم الذين يحضرون الجلسات بصعوبة، لا سيما في فترة جائحة كورونا. وحُرِم المحبوسون من الزيارات لأكثر من خمسة أشهر، ثم عادت بصورة مختصرة وبتدابير احترازية تمنع التواصل المباشر حتى مع المحامين، وتعدد الزائرين. يُضاف إلى ذلك أنّ هذا المشروع يحرم المتهم والمحامي من التواصل المباشر مع القاضي ويصعّب التأثير عليه، كما يمكن أن يكون الاتصال عرضة للقطع في أي لحظة، مما يعرقل استكمال الإجراءات، ولا يكون المتهم والمحامي تحت نظر القاضي لاستبصار ملامحهما عند الحديث والاستيضاح، والعكس أيضاً، وهو ما قد يحوّل الجلسة إلى صورية.
كذلك، فإن النظام الجديد لا يصب إلا في مصلحة الأمن، فمع الزيادة الكبيرة في عدد المحبوسين احتياطياً خصوصاً في القضايا السياسية، يساهم تجديد الحبس عن بُعد في توفير الجهد الأمني المبذول والتكاليف المالية لتنظيم دوريات نقل المتهمين بين السجون والمحاكم، خاصة في الأقاليم، عدا سجن طره الذي أقيمت فيه بالفعل محكمة بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013.
وكمقدمة لتعميم هذا النظام، كشف مصدر أمني مطلع لـ"العربي الجديد"، أن مجمع السجون الجديد الذي سيفتتحه السيسي في وادي النطرون بمحافظة البحيرة قريباً، وسيكون الأكبر من نوعه في مصر، ستُخصص به قاعات مجهزة وشبكة كاملة لإقامة جلسات تجديد الحبس عن بُعد، وكذلك السماح بالمحاكمة عن بُعد في وقت لاحق. وأشار المصدر إلى أن المجمع سيقام به كذلك عدد من قاعات المحاكمة لمباشرة الجلسات في ما بعد الإحالة، مما سيمثل أيضاً صعوبة أخرى على المحامين وذوي المتهمين من المناطق البعيدة، خصوصاً في ظل مؤشرات تدل على نقل معظم المحبوسين السياسيين في مرحلة الاتهام والمحاكمة إلى هذا المجمع الجديد. إذ سبق وكشف محامون عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن نقل عدد كبير من المعتقلين المحبوسين والمدانين من بعض السجون البعيدة في الصعيد والوجه البحري إلى سجني طره وبرج العرب، تمهيداً لنقلهم إلى مجمع السجون الجديد قبيل افتتاحه.
ويعترض عدد كبير من المعتقلين بمختلف حالاتهم القانونية على هذا النقل، لصعوبة السفر إلى منطقة السجن -الذي وصفه السيسي في تصريحات له الأسبوع الماضي، بأنه سيكون نسخة من السجون الأميركية- والاعتياد على السجون السابقة الأقرب إلى العمران أو لمحافظات إقامتهم، لكن السلطات تغري المعتقلين بعدد من المزايا في السجن الجديد، مثل اتساع العنابر ووجود أماكن ووسائل جديدة للترفيه.
مجمع السجون الجديد الذي سيفتتحه السيسي في وادي النطرون ستُخصص به قاعات مجهزة لإقامة جلسات تجديد الحبس عن بُعد
وبافتتاح هذا السجن، سيرتفع عدد السجون في مصر إلى 79؛ منها 31 أنشئت في السنوات الثماني الأخيرة التي حكم فيها السيسي. ووفقاً لمحامين، تكتظ هذه السجون حالياً بأكثر من 1500 محبوس احتياطي تخطّوا المدة القصوى للحبس الاحتياطي، وهي سنتان، علماً بأن القانون يستثني فقط من قاعدة الحد الأقصى المحبوسين الذين سبق الحكم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد عند نظر قرارات حبسهم أمام محكمة النقض أو الإعادة. وعلى الرغم من النصّ الصريح على ذلك، فإن المحاكم والنيابة العامة كانت تطبقه على نحو مخالف، منذ تعديله في عهد رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور (2013-2014) إلى الصيغة المطبقة حالياً، بادعاء أنه يسمح بفتح مدد الحبس الاحتياطي لأي شخص وُجهت إليه اتهامات يعاقب القانون عليها بالإعدام أو السجن المؤبد، وبالتالي انتحلت دوائر نظر استمرار الحبس، صفة محكمة النقض ومحكمة الجنايات في مرحلة الإعادة.
وتعاظمت خطورة الحبس الاحتياطي مفتوح المدة وأثره الداهم على حرية الأفراد، في ظلّ إفراط النظام في اتباعه بعد 30 يونيو/حزيران 2013، ليتحول من إجراء تحفظي وتدبير مؤقت يهدف في الأساس إلى منع التأثير على مجريات القضية أو هروب المتهم، إلى عقوبة بحد ذاته. وسبق أن قدّر رئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب المصري (رئيس لجنة النقل حالياً) علاء عابد، أن عدد المحبوسين احتياطياً في مصر حتى يناير/كانون الثاني 2018، يتراوح بين 25 و30 ألف سجين من إجمالي عدد السجناء الذي يقارب 65 ألفاً. كذلك تشير تقارير وإحصاءات المنظمات الحقوقية المصرية والدولية إلى أنّ "حالات الحبس الاحتياطي وصلت إلى عددٍ لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر".