المصالح الفئوية وتعطيل المصالحة الوطنية

31 يوليو 2022
في رام الله احتجاجا على زيارة بايدن (عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -


كشفت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الأخيرة للمنطقة عن تراجع الاهتمام الأميركي بالقضية الفلسطينية، قضية سياسية وطنية، وحصر الاهتمام بها بالقضايا الحياتية والأمنية فقط، وهذا ما عبّر عنه الرئيس بايدن في محطات زارها، سواء في مستشفى المطلع بالقدس أو في مدينة بيت لحم، واجتماعه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي تعاطى خلاله بايدن بشكل باهت مع المطالب السياسية الفلسطينية رغم مطالبة أبي مازن الرئيس الأميركي الضغط على إسرائيل للعودة إلى المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، وفتح أفق سياسي.

ترفض إسرائيل العودة إلى تلك المفاوضات، بحكم الكثير من الاعتبارات، أهمها حصولها على كل ما تريده من اتفاق أوسلو، وتخلصها من كل ما لا تريده، ونتيجة التحولات العميقة في المجتمع الإسرائيلي، التي أدت إلى انزياح إسرائيلي كبير باتجاه التطرف والفاشية، وانطلاقاً من الضعف الفلسطيني، الناجم عن فشل عملية أوسلو في تحقيق الاستقلال الوطني الفلسطيني، وعن الانقسام بين حركتي فتح وحماس، الذي كسر ظهر الحركة الوطنية الفلسطينية، وأدى إلى استخفاف إسرائيل والقوى الغربية والأطراف العربية بالموقف الفلسطيني.

فشلت جميع جهود المصالحة وطي صفحة الانقسام، رغم مرور خمسة عشر عاماً على الانقسام الفلسطيني الداخلي، بل أصبح الانقسام بمثابة انفصال تام بين الضفة الغربية وقطاع غزة. حيث أوجد الانقسام سلطتين منقسمتين متناكفتين، أضعفتا القضية الوطنية الفلسطينية في المحافل الإقليمية والدولية، ومنحتا إسرائيل فرصة كي تستمر في مشروعها التصفوي التهويدي. وأضعفتا الحركة الوطنية، ما دفع الكثيرين للعزوف عن المشاركة في الشأن العام، وتراجعت ثقة الشارع الفلسطيني بالمنظومة السياسية القائمة، كما أدى ذلك إلى تبديد رأس المال الاجتماعي والسياسي الفلسطيني.

استغلت حكومات إسرائيل الواقع الناشئ عن الانقسام، عبر فرض حلول اقتصادية وأمنية، تحت ذريعة تحسين الواقع الحياتي الصعب على الإنسان الفلسطيني، بدلاً من الحلول السياسية والوطنية. مثل: تسهيل منح تصاريح دخول إسرائيل لأعداد كبيره، وربط الإنسان الفلسطيني بالتصاريح والعمل في إسرائيل، والموافقة على استخدام الفلسطينيين مطار رامون في جنوبي فلسطين من أجل السفر إلى الخارج. بالمحصلة، عملت إسرائيل خلال فترة الانقسام على إقناع الفلسطيني، سلطةً وشعباً، بأنها تملك مفاتيح حياته، الأمر الذي وضع الإنسان الفلسطيني أمام خيارات صعبة، بين قبول أو رفض سياسات إسرائيل الاقتصادية والأمنية والحياتية.

التقطت إسرائيل الانقسام الفلسطيني من أجل تحقيق هدفها الإستراتيجي، المتمثل في تصفية القضية الفلسطينية، وعملت على إدامة وتعميق الانقسام، لما يعود عليها من فوائد استراتيجية، كضرب وإلغاء وحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية، والتخلص من حتمية التعامل مع السلطة والمنظمة عنوانا لقطاع غزة، وذلك من أجل قطع الطريق أمام أي محاولة لعودة المسار السياسي.
استخدمت حكومات إسرائيل فيتو ضد أي مصالحة فلسطينية، وهددت بقطع اتصالاتها مع السلطة، في حال أدت المصالحة الفلسطينية إلى تشكيل حكومة توحد سلطة الحكم الذاتي في الضفة مع سلطة الأمر الواقع في غزة، وحذرت من إيقاف تحويل عائدات الأموال الضريبية الفلسطينية للسلطة، كما حدث مراراً بعد تصاعد أي أزمة فلسطينية-إسرائيلية.

من أجل إدامة الانقسام وإعاقة المصالحة، اشترطت كل من إسرائيل والولايات المتحدة اعتراف حماس بإسرائيل ونبذها المقاومة المسلحة، والاعتراف بشروط اللجنة الرباعية لعملية السلام. ردد رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق بنيامين نتنياهو، في أكثر من مناسبة، عبارته المشهورة "على السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس ان يختاروا بين السلام مع إسرائيل، أو السلام مع حركة حماس"، ما أدى إلى إبقاء السلطة في حالة من الضعف والتردد، إزاء جهود إتمام المصالحة.

لم ترفض حركة فتح طيلة سنوات الانقسام إتمام المصالحة، إلا أنها أصرت على عدة شروط، أهمها: تسليم حركة حماس قطاع غزة للسلطة، وعودة موظفي ومسؤولي السلطة الأمنيين والمدنيين إلى القطاع، وتحديداً من أجل السيطرة على المعابر والضرائب. كما صدرت في السنوات القليلة السابقة بعض الأصوات من داخل حركة فتح، تطالب حماس بالاعتراف بشروط اللجنة الرباعية، بغرض الحفاظ على شرعية السلطة على الساحة الدولية، على حد زعمهم. كذلك، هناك من يطالب حماس بالموافقة على سيطرة السلطة على كامل غزة، تحت وفوق الأرض، والمقصود منها سيطرة السلطة على سلاح حركة حماس، رغم قناعة الجميع بأن حركة حماس لن توافق على ذلك، لأنها ترى سلاحها الورقة الأهم لها في مواجهة إسرائيل.

على الرغم من الأزمات التي يعاني منها قطاع غزة منذ سيطرة حماس عليه، راهنت الحركة على استفادتها من تبعات الربيع العربي، خاصة بعد تنحي الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وتولي الإخوان المسلمين رئاسة مصر بزعامة الرئيس الراحل محمد مرسي. فشل رهان حماس، وجاءت المحصلة عكس توقعاتها، ما عمق أزمة الانقسام الفلسطيني، وراكم تداعياته على مجمل الحالة الفلسطينية، سياسياً وحياتياً، خاصة في قطاع غزة الذي يرزح تحت معاناة مستمرة.

في ظل فشل مشروع السلطة ومنظمة التحرير السياسي، بالإضافة إلى مجمل المشاكل التي تواجهها السلطة في حكم الضفة، وعلى ضوء تراجع ثقة المجتمع الفلسطيني بسلطة رام الله، تمسكت حماس بسلطتها في قطاع غزة، ولم تعد ترى نفسها مضطرة للتخلي عن حكم القطاع، طالما الأمور تسير وإن بصعوبة.

ساهمت عدة أسباب محلية وإسرائيلية وإقليمية في إفشال جميع محاولات المصالحة الوطنية الفلسطينية، وتحديداً ما يتعلق منها بغياب الإرادة السياسية الحقيقية لدى طرفي الانقسام، وفي تغليب بعض المصالح الفئوية والحزبية والشخصية على المصلحة الوطنية الكبرى. كما أدت سنوات الانقسام الطويلة إلى خلق مجموعات مصالح لدى كلا الطرفين، ترى تلك المجموعات في الحفاظ على الوضع المنقسم الحالي استمراراً لمصالحها، رغم تداعياته الكارثية على مستقبل القضية الوطنية. ولم تعد بنى ومؤسسات السلطتين قادرة على استيعاب الواحدة للأخرى، نتيجة الخصومة والملاحقة بين الطرفين، في الضفة والقطاع. لعبت التجاذبات والمحاور الإقليمية دوراً في تغذية الانقسام الفلسطيني، ما ساهم في إطالة عمره، بدلاً من العمل على تقليص الفجوات بين الطرفين، الأمر الذي يوحي ببقاء الأمور في النظام السياسي الفلسطيني على حالها لفترة طويلة قادمة، لعل أمراً ما يحدث.