تمر القضية الفلسطينية بمرحلة حرجة داخليا وخارجيا بحكم حجم وتنوع المصاعب والعقبات التي تواجهها، ما يجعلنا مجبرين على حل مشاكلنا الداخلية في خضم مسار نضالي تحرري مستمر لا يمكن إيقافه ولو مؤقتا، فالدولة الصهيونية ماضية في جرائم التطهير العرقي يوميا. وعليه فنحن أمام مستويين من النضال داخلي وخارجي، وأمام عشرات الوسائل النضالية ومئات الآراء والتباينات حول الأشكال النضالية، لا سيما الموقف من الكفاح المسلح والنضال العنفي. إذ غالبا ما تتدخل عوامل عديدة في تحديد موقف البعض من الكفاح المسلح والعمل النضالي العنفي، بعضها عوامل حاسمة ومركزية وبعضها عوامل ثانوية غير مؤثرة وإن كانت طاغية لدى البعض، وعليه لا بد من التمعن في محددات الموقف من هذا الشكل النضالي، وهي:
الشرعية القانونية
تنص العديد من المواثيق والقرارات الدولية على شرعية النضال في مواجهة القوى المحتلة والمستغلة، كما في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة". إذ توضح هذه المادة شرعية النضال بجميع الأشكال فرديا وجماعيا. كما نجد في القرار 3103 ما هو أكثر من الاعتراف بحق الشعوب في النضال ضد قوى الاحتلال والأنظمة العنصرية، من خلال تجريم قمع كفاح الشعوب ضدها، وذلك في متن المادة الثانية من القرار "إن أي محاولة لقمع الكفاح ضد السيطرة الاستعمارية والأجنبية والأنظمة العنصرية هي مخالفة لميثاق الأمم المتحدة...".
إذا ومن ناحية الشرعية الدولية أو حتى من ناحية الشرعية التاريخية والثقافية بما فيها التشريعات الدينية، لا نجد أي خلاف حول مدى شرعية النضال بكل أشكاله بما فيها النضال العنفي والمسلح فرديا وجماعيا، وهي مسألة لا يصح التشكيك بها مهما أختلفنا على الآليات والغايات غير المعلنة التي قد تتوخاها بعض القوى أو الأطراف التي تمارس هذا الشكل النضالي أو ذاك، وبغض النظر عن موقعها الجغرافي طبعا.
الضرورة
يرتبط الشكل النضالي عادة بطبيعة الطرف المسيطر، أي المستعمر أو المستغل أولا، وبتوجهات القوى التحررية المنظمة ثانيا، إذ غالبا ما شهدت الحالات الكفاحية الكبرى، لا سميا في نماذج الحركات التحررية، تنوعا بالقوى الكفاحية وتنوعا في أشكالها النضالية. وهو ما ينطبق على تجربة التحرر الفلسطيني الذي يواجه واحدة من أعقد نماذج الاستعمار الإحلالي. فالصهيونية قاعدة إمبريالية متقدمة في المنطقة تتمثل وظيفتها في إدامة تخلف المنطقة وتجزئتها وإعاقة مسار تطورها، ما يسهل على الدول الكبرى نهب ثروات المنطقة. لذا فهي قوة معتدية بشكل دائم، وهو ما يتجلى في تواصل جرائم التطهير العرقي الصهيونية بحق شعب وأرض فلسطين، وتعزيز سياساتها العنصرية تجاه سكان فلسطين الأصليين. أي أن دورها العسكري والإجرامي هو الطاغي والمسيطر، الأمر الذي يفرض شكل مواجهتها عاجلا أم أجلا. بمعنى أن طابعها العسكري يفرض على قوى التحرر الفلسطيني عدم استهجان واستبعاد شكل النضال العنفي والعسكري، طبعا لا يعني ذلك إهمال أو ثانوية سائر الأشكال النضالية بقدر ما يعني أن الصهيونية تفرض علينا مواجهة وتفكيك بنيتها العسكرية التي تقتلنا بها يوميا.
الطريقة
شهدت حركة التحرر الفلسطيني أشكالا نضالية عنفية متعددة، من الكفاح المسلح الخارجي إلى تنفيذ عمليات عسكرية من داخل فلسطين، ومن حرب الشوارع إلى إطلاق قذائف الهاون والقذائف محلية الصنع، يحتاج تقييم نتائجها إلى فهم طبيعة الصهيونية وتحديد إمكانياتنا وظروفنا وقراءة طبيعة المرحلة، فمن طبيعة النظام السائد عالميا وإقليميا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، والداعم بشكل علني ومطلق للصهيونية العنصرية والإجرامية، إلى محدودية إمكانياتنا الراهنة في ظل غياب قوى تحررية عالمية تدعم نضالنا العادل دون قيود أو شروط، وصولا إلى طبيعة الصهيونية التي وضحنا دورها كقاعدة عسكرية متقدمة في مواجهة كامل المنطقة، أجد أن العمليات النوعية التي تستهدف ضرب القواعد العسكرية أولا، ونموذج حرب الشوارع ثانيا، هما الأنسب، رغم صعوبة تطبيقهما اليوم، في ظل جدار الفصل العنصري، وحصار غزة، وتقسيم الضفة إلى باستونات معزولة ومحاصرة، وبحكم دور السلطة الوظيفي أمنيا، وغيرها من العوامل الميدانية والذاتية والموضوعية. في حين أعتقد أن استسهال العمل العسكري وتحويله إلى مجرد عمل انتقامي أو فعل دعائي لأغراض تعبويه، سلوك خطير يهدد مجمل مسار التحرر ومجمل النضالات الشعبية الحاصلة داخل وخارج فلسطين، بل وقد يحرف البوصلة عن هدفها الوطني إلى أهداف فصائلية أو نخبوية أو خارجية لا تعني الفلسطينيين بشيء.
الهدف
يحظى الكفاح المسلح بتأييد شعبي واسع جدا، الأمر الذي فرض على أي جهة أو طرف فلسطيني أم إقليمي أم دولي تبني ودعم هذا الشكل النضالي إن أراد الظفر بتأييد شعبي واسع فلسطينيا وأحيانا عربيا أيضا، ولنا عشرات النماذج الفلسطينية والعربية والإقليمية على ذلك، تاريخيا وراهنا. وهو ما يضعنا أمام معضلة حقيقية لا بد من تجاوزها، تتمثل في التحرر من قدسية العمل العسكري لصالح قدسية الهدف، والهدف المقصود هنا هو تحرير كل فلسطين، وعليه يجب الحذر من أي فعل نضالي لا يستهدف التحرير الكامل أو على الأقل لا يستهدف تهيئة الظرف الذاتي من أجله. بل علينا إدانة وفضح كل فعل يتسلق على قدسية تحرير فلسطين وعلى شرعية الكفاح المسلح، سواء أكان فعلا فلسطينيا أم عربيا أم إقليميا، كمن يمارس إجراما بحق شعوب المنطقة متذرعا بشعار تحرير فلسطين؛ طريق القدس يمر عبر حلب؛ أو من يمارس الكفاح المسلح ظاهريا ويستهدف فرض سيطرته على الساحة الفلسطينية؛ فتح سابقا وحماس اليوم، أو من قبل الساعين إلى التعايش مع آلة الإجرام الصهيونية بدلا من تفكيكها، كما في حالة متبني حل الدولتين سلميا أم نضاليا. فالكفاح المسلح فعل نضالي تحرري واضح ومباشر يستهدف تفكيك البنية العسكرية الصهيونية دون أي مواربة تذكر.
التنوع
لقد أشرنا سابقا إلى أهمية تنوع الأشكال النضالية في سياق حركة التحرر، فأي حركة تحرر وطنية هي فعل جماعي متنوع الأشكال والأساليب، ولنا بالحالة الجنوب أفريقية مثالا عن ذلك، إذ على التوازي مع نضال المؤتمر الأفريقي السلمي خاضت عديد القوى الجنوب أفريقية نضالها العنفي ضد نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي. ونجد في أدبيات ووثائق المؤتمر وفي مذكرات وخطابات نيلسون مانديلا العديد من الوثائق التي تؤكد على شرعية النضال العنفي، رغم تبني مانديلا والمؤتمر شكلا سلميا للنضال في أغلب الأوقات. بمعنى لم يسعَ المؤتمر إلى فرض شكل النضال السلمي، كما لم يسع الآخرون إلى فرض شكل النضال غير السلمي، بل على العكس تماما، كان هناك تأكيد على شرعية جميع الأشكال النضالية من ناحية أولى، وعلى أهميتها وتكاملها من ناحية ثانية.
فلسطينيا، الصهيونية قاعدة عسكرية إجرامية تمارس فصلا عنصريا وتطهيرا عرقيا بحق الشعب الفلسطيني، لذا فإن تفكيكها لا ينطلق من أحادية الشكل النضالي حتى لو كان عسكريا، لأن تفكيكها وتجاوزها يتطلب تفكيك ركائز هذه القاعدة الأساسية، ولا سيما الكتلة الاجتماعية المستندة إليها، والدعم الخارجي غير المحدود لها، وهو ما يتطلب العمل على تحرير أتباع الديانة اليهودية من عنصرية وإجرامية الصهيونية عبر طرح برنامج تحرر تقدمي وإنساني يناقض الخطاب الصهيوني العنصري والإجرامي، كما يحتاج إلى نضال ثقافي وسياسي يعري الصهيونية وداعميها من القوى الإمبرالية ويكشف مخططاتهم الاستعمارية والنهبية والإجرامية تجاه شعوب المنطقة والعالم، وعليه فإن تفكيك وتجاوز الصهيونية يتطلب نضالا متشعبا ومتنوعا ينظمه وينسقه برنامج ورؤية وهيكل تنظيمي يحظى بثقة وتأييد شعب فلسطين.
في الختام لا بد في موازاة ذلك من الإقرار قولا وفعلا بأهمية وضرورة النقد والتحليل لجميع القوى الفاعلة ولجميع الوسائل النضالية المتبعة، لا سيما بما يخص الجوانب المؤثرة على النتائج، مثل التوقيت والأسلوب والأهداف المعلنة وغير المعلنة، فالتقديس الأعمى لهذا الفصيل أو الشكل بمعزل عن سائر العوامل الناظمة للنضال قد يساهم في حرف النضال عن غاياته الوطنية إلى غايات فئوية ضيقة تضيع القضية والحقوق المشروعة بدلا من استعادتها.