تسود حالة من التوتر والتصاعد في العلاقات بين أفغانستان وباكستان، إلى حد حذّر فيه بعض المراقبين من اندلاع حرب شاملة بين الجارتين، اللتين تربطهما علاقات دينية واجتماعية وجغرافية وتاريخية. وفي خضم هذا الوضع، بدأت العلاقات بين حكومة طالبان والهند تترمم بشكل بطيء وهادئ، وذلك بعد أن تيقنت نيودلهي أن حركة طالبان ليست أداة في يد باكستان، عكس ما كان يروجّ قبل وصولها إلى الحكم، في أغسطس/آب 2021، بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان. وتريد نيودلهي استغلال وجود الفجوة بين كابول وإسلام أباد من جهة، والتنافس مع ما تقوم به الصين إزاء أفغانستان من جهة ثانية.
عودة السفارة الأفغانية إلى العمل
لم تكتف كابول ونيودلهي ببذل المساعي من أجل ترميم العلاقات التجارية والاقتصادية بين الدولتين، التي تدهورت عقب صعود طالبان إلى السلطة، بل بدأت العلاقات الدبلوماسية أيضاً تقوى، ما يشير إلى أن الهند الراغبة في ترميم العلاقات مع أفغانستان، تنوي أيضاً التماهي مع سياسة الولايات المتحدة حيال طالبان. ونجم عن ذلك تسليم السفارة الأفغانية في الهند إلى حكومة طالبان واستئناف عملها، من دون أن يكون للحدث أي ضجة كبيرة في وسائل الإعلام أو بين الأطراف السياسية داخل أفغانستان وخارجها.
وحول ذلك، اعتبر نائب وزير الخارجية في حكومة "طالبان"، شير محمد عباس ستانكزاي، في حوار مع التلفزيون الوطني، في 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن السفارة الأفغانية في الهند تسلمتها حكومة "طالبان"، وفتحت أبوابها، كما أن القنصليتين في مدينتي حيدر أباد ومومباي الهنديتين بدأتا أعمالهما، والسفارة بصدد مراجعة أمورها التقنية والمهنية كي تقدم الخدمات بشكل سلس وطبيعي. وأشار ستانكزاي إلى أن السفارة ستبدأ قريباً أعمالها في كل المجالات، تحديداً لجهة استقبال الزائرين وتقديم الخدمات.
أكد وزير دفاع حكومة طالبان أن كابول مهتمة بتطوير علاقاتها العسكرية مع نيودلهي
وسبق أن أصدرت السفارة الأفغانية في نيودلهي بياناً في 24 نوفمبر الماضي، أعلنت فيه وقف جميع الأنشطة وإغلاق أبوبها بشكل دائم، مشددة على أن السبب هو الضغوط المتزايدة من قبل الحكومة الهندية وحكومة طالبان، وأنها كانت بين خيارين ثقيلين: استمرار العمل وسط الضغوط الهندية أو إغلاق السفارة، وهي اختارت الثاني وأغلقت السفارة بشكل دائم.
كما جاء في بيان السفارة أنها بذلت الجهود على مدى الأشهر الماضية لتغيير تعامل الحكومة الهندية مع الدبلوماسيين الأفغان، "لكن مع الأسف لم يحدث ذلك". وأوضحت أنّ السفارة حاولت أن تقنع الحكومة الهندية على المدى الأشهر الماضية بأن تقوم بتمديد تأشيرات الدبلوماسيين الأفغان والعاملين في السفارة من دون جدوى، ما جعل السفارة تقرر إغلاق أبوابها.
كما أكد السفير الأفغاني السابق فريد ماموندزاي، في حوار مع قناة "بي بي سي" البشتوية عقب إغلاق السفارة، أن القرار جاء نتيجة عدم اهتمام الحكومة الهندية بالسفارة الأفغانية وعدم استجابتها لمطالب الدبلوماسيين الأفغان، ما جعل السفارة بحاجة إلى دعم أكبر، وأنه لم يكن موجوداً في حينه، لذا جرى إغلاق السفارة، معرباً عن حزنه لذلك.
من جهته، رأى الباحث الأفغاني محمد غفران صميم، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الهند كانت من الدول التي انتابها القلق الشديد بعد وصول طالبان إلى سدة الحكم، وذلك لارتباطها بعلاقات تاريخية متجذرة مع أفغانستان. ولفت إلى أنه كانت هناك أسباب كثيرة وراء قلق نيودلهي بعد وصول طالبان إلى الحكم، أهمها: نفوذ باكستان، كون معظم من كان يراقب الوضع في حينه اعتبر أن طالبان الأفغانية أداة بيد باكستان، وأنها ستعمل وفق إرادة إسلام أباد. وكان ذلك واضحاً من خلال الاحتفالات والتهاني الباكستانية إثر وصول طالبان إلى الحكم، في المقابل، لم تكن الهند لترضى بنفوذ باكستاني على هذا النحو.
وأوضح صميم أن للهند استثمارات كبيرة في أفغانستان، تم تدشينها وتفعيلها في عهدي الرئيسين السابقين حامد كرزاي (2002 ـ 2014) وأشرف غني (2014 ـ 2021) في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والشعبية، فضلاً عن ارتباط نيودلهي بعلاقات على مستوى الاستخبارات وتدريب الضباط والعسكريين وغيرها. غير أن كل ذلك بدا وكأن لا جدوى منه بعد وصول طالبان إلى الحكم.
وبرأي صميم، فإن الهند كانت تخشى من تنامي قوة الجماعات المسلحة التي تربك أمن إقليم كشمير المتنازع عليه مع باكستان، لكن الأمور لم تسر على النحو الذي كانت تتطلع إليه باكستان وتخشى منه الهند.
وأوضح الباحث الأفغاني أنه منذ سيطرتها على الحكم وترتيب الأمور في الأسابيع الأولى، بدأت طالبان تتعامل مع باكستان كدولة مستقلة ذات سيادة، وهو ما لم تكن ترغب فيه إسلام أباد، بسبب قضايا عدة، ومنها مسألة طالبان الباكستانية. وتباعاً، ازدادت الفجوة بين كابول وإسلام أباد بموازاة تأكيد المسؤولين في حكومة طالبان أن الحركة تولي اهتماماً بعلاقاتها مع الهند، إلى درجة أن وزير الدفاع في حكومة طالبان الملا يعقوب، ثاني أقوى شخص بعد زعيم الحركة هبة الله أخوند زاده في أوساط طالبان، أكد في حوار سابق مع قناة هندية أن طالبان يمكنها أن تفكر في التعاون الاستراتيجي والدفاعي مع الحكومة الهندية.
تعمل الهند وفق قاعدة تتماهى مع السياسة الأميركية في أفغانستان
ووفق صميم، فقد أغضب هذا التطور باكستان، خصوصاً أن عشرات الضباط الذين كانوا يدرسون في الهند، وعلقوا هناك بعد سيطرة طالبان على الحكم، استُقبلوا في مطار كابول من قبل مسؤولين في طالبان وجرى توظيفهم في مجالات عدة في أجهزة الأمن، ما يشير إلى أن استثمارات الهند السابقة لم تذهب سدى. كما أن قضية الجماعات المسلحة التي تخشى الهند من نفوذها، كجماعات طيبة (التي سميت بأسماء مختلفة وهي نشطة ضد الهند) وحركة المجاهدين وغيرها من الجماعات المسلحة في كشمير، لم يعد لها مكان في أفغانستان، بل متهمة من قبل طالبان بأنها تساند تنظيم "داعش" بالتنسيق مع أجهزة الاستخبارات في المنطقة. ولفت صميم إلى أن الأجواء كانت محضّرة لترميم العلاقات الأفغانية الهندية، والهند لم تكن لتضيع تلك الفرصة.
أنشطة الصين محفز آخر
بدوره، أشار المحلل السياسي الأفغاني محمد نبي، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن قضية باكستان ليست الوحيدة التي دفعت الهند إلى إيلاء الاهتمام الكبير بعلاقاتها مع طالبان الأفغانية، بل أيضاً أنشطة الصين المتزايدة في أفغانستان. إنها أرسلت سفيرها تشاو شينغ هو بشكل رسمي إلى أفغانستان، وقبلت أوراق السفير الأفغاني الجديد بلال كريمي، فضلاً عن أن نمو علاقات بكين مع كابول، التجارية والاقتصادية، حفزت الهند للتحرك بشكل نشط تجاه أفغانستان.
ولفت نبي إلى أن الصين هي المنافسة الثانية للهند بعد باكستان، وصنّاع القرار في الهند يعرفون جيداً أن الفرصة مهيئة جداً لها لتوطيد وتحسين علاقاتها مع طالبان، غير أنها تعمل ذلك بشكل هادئ وذكي تماشياً مع الموقف الدولي، تحديداً الأميركي، حيال طالبان، فلا تترك الساحة الأفغانية لباكستان والصين، ولكن في الوقت نفسه لا تظهر الكثير من الحماسة والرغبة من أجل موقف أميركا من طالبان.
الاهتمام بالتجارة والاقتصاد
لم يعد الاهتمام الهندي يقتصر فقط على العلاقات السياسية والدبلوماسية مع حكومة طالبان، بل هناك نية لتطوير العلاقات في المجال التجاري والاقتصادي. ويحصل التبادل التجاري بين الدولتين عبر الممر الجوي وعبر ميناء تشابهار الإيراني، الذي بدأت طالبان تعول عليه كثيراً كبديل لميناء كراتشي الباكستاني. وشهدت الأشهر الأخيرة زيارات لكبار المسؤولين في طالبان إلى إيران، ومنهم نائب رئيس الوزراء الملا عبد الغني برادر، ووزير الاقتصاد في حكومة طالبان نور الدين عزيزي.
وقال عزيزي، بعد عودته من زيارة إلى إيران في 10 نوفمبر الماضي، إن الهدف من كل تلك الزيارات هو موضوع التبادل التجاري مع العالم عبر ميناء تشابهار، موضحاً: "أبرمنا اتفاقاً مع إيران بهذا الشأن، والتجار الأفغان بدأوا يستخدمون الميناء". يذكر أنه في مارس/آذار 2019، توصلت أفغانستان والهند وإيران إلى اتفاقية تشابهار، التي منحت كابول إمكانية الوصول إلى مومباي عبر ميناء كالاماري في مدينة تشابهار الإيرانية الواقعة على ساحل خليج عمان.
وكانت غرفة التجارة والاستثمار الأفغانية قد أعلنت، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن التجارة بين الهند وأفغانستان ارتفعت خلال الأشهر الستة الماضية بنسبة 25 في المائة، وأن الفواكه والمكسرات الأفغانية تُصدّر بشكل روتيني وطبيعي إلى الهند، وأن الحكومة وغرفة التجارة في أفغانستان توليان اهتماماً كبيراً بالتجارة مع الهند، خصوصاً في ظل العقبات التي تواجه كابول في تصدير الفواكه والمكسرات وما تنتجه المصانع الأفغانية إلى إسلام أباد.
إسلام أباد تضيع كل البطاقات
في ظل كل ما يحدث، لا تزال باكستان مصرة على سياساتها السابقة ومتمسكة بمطالبها التي ترفضها حكومة طالبان. وحول ذلك، اعتبر المحلل السياسي الباكستاني محمد واحد خان، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "مع الأسف الشديد ازدادت الفجوة في العلاقات بين طالبان وباكستان، ووصلت الأمور، بحسب المؤشرات، إلى العداء والحرب العلنية، وطالبان تتحدث من منطلق القوة، لكن لباكستان الحق في بعض مطالبها مثل قضية طالبان الباكستانية، غير أن المشكلة الأساسية هي أن طالبان أفغانستان لا تقبل الحديث أصلاً في هذا الملف".
محمد نبي: دفعت أنشطة الصين المتزايدة في أفغانستان الهند للاهتمام بالعلاقة مع طالبان
ورأى نبي أنه وفقاً لذلك، استفادت الهند من الوضع، كما ستستفيد أطراف أخرى مستقبلاً، في مقابل بروز باكستان كخاسر أول وأفغانستان كخاسر ثان. واعتبر أن المشكلة الحقيقية تكمن في أنه كان لباكستان سقف عال من التوقعات والمطالب من حكومة طالبان، خصوصاً المؤسسة العسكرية في إسلام أباد، التي كانت تعدّ طالبان في يدها وستطبّق ما تمليه عليها، غير أن الأمور لم تسر على هذا النحو. ويبدو أن إسلام أباد أخطأت في التقديرات. ولفت إلى أن طالبان منذ البداية لم تكن لديها رغبة في الإصغاء لما تقوله إسلام أباد، التي تعتبر نفسها أنها تعاملت جيداً مع الحركة، ولكن الأخيرة تراها حليفة لأميركا خلال "الحرب على الإرهاب".
وأوضح نبي أن ثمة نقطة مهمة، وهي أن المؤسسة العسكرية في باكستان هي التي تقرر في جميع الملفات التي استخدمتها للضغط على طالبان، مثل قضية إجبار اللاجئين الأفغان في باكستان على العودة بالقوة إلى بلادهم. فحكومة تصريف الأعمال برئاسة أنوار الحق كاكر حكومة جاءت بها المؤسسة العسكرية.
وتوقع نبي أنه مع تغيير الحكومة الباكستانية في فبراير/شباط المقبل عقب الانتخابات التشريعية، "ستتغير سياسة بلادنا إزاء أفغانستان"، لكنه تساءل: "هل ستقبل حكومة طالبان أن تعود المياه إلى مجراها الصحيح وتغير سياستها إزاء الهند من أجل باكستان؟". وأضاف: "لا أتوقع ذلك، لأن طالبان لم تعد تحتاج إلى باكستان، فقضية اللاجئين أخرجتها باكستان من يدها ولم تعد صالحة للضغط، كما أن طالبان تتعامل دبلوماسياً مع أميركا والصين وروسيا وغيرها من الدول. أما في ما يتعلق بالتجارة والاقتصاد فقد بدأت طالبان تعول على ميناء تشابهار الإيراني وعلى تعاونها مع دول آسيا الوسطى، كما ستفتح قريباً ممر واخان المباشر مع الصين".
وخلص نبي إلى القول إن "أفغانستان لا تحتاج إلى دعم باكستان، بل العكس هو الصحيح، من أجل الوصول إلى دول آسيا الوسطى للتبادل التجاري، ومن أجل احتواء قضية طالبان الباكستانية والانفصاليين البلوش".