لم تخرج واشنطن بعد من صدمة التسريبات لوثائق سرّية سلّطت الضوء خصوصاً على طبيعة تعاملها مع الغزو الروسي لأوكرانيا، من منظور سياسي وعسكري، وتشمل جوانب عدة أخرى ومتفرعة، مثل ضغوط الولايات المتحدة على الحلفاء، واعتبرتها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أول من أمس الإثنين، أنها تشكّل خطراً جسيماً على الأمن القومي الأميركي. وبينما لم تلفت التسريبات الإعلام الأميركي إلا منذ يوم الخميس الماضي، فإن الكشف يزيد متاعب "عصر التسريبات"، منذ الضرر الذي سببه موقع "ويكيليكس" عام 2010 للأمن القومي الأميركي مروراً بموجة إدوارد سنودن عام 2013.
واشنطن تدعو للحذر
واعتبر البنتاغون يوم الإثنين، أن عملية التسريب للوثائق الأميركية الجديدة، ومعظمها أصلية على ما يبدو (رغم تضمن بعضها تعديلات)، تشكّل خطراً "جسيماً جداً" على الأمن القومي الأميركي. وقال مساعد وزير الدفاع للشؤون العامة، كريس ميغر: "ما زلنا نحقق في كيفية حدوث ذلك، لقد اتُّخذت خطوات للاطلاع عن كثب على كيفية نشر هذه المعلومات ووجهتها".
ولفت المسؤول الأميركي إلى أن بعضاً من الصور المتداولة على الإنترنت يُظهر على ما يبدو معلومات حسّاسة، موضحاً أن هناك "صوراً يبدو أنها تُظهر وثائق مشابهة في الشكل لتلك التي تُستخدم في تقديم تحديثات يومية لكبار قادتنا حول عمليات على صلة بأوكرانيا وروسيا، وأيضاً تحديثات استخبارية أخرى"، مشيراً إلى أنّ بعضاً منها "يبدو معدّلاً". بدوره، دعا المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، الإثنين، إلى "توخي الحذر، بما أننا نعلم على الأقل، أنه في بعض الحالات، تمّ التلاعب بالمعلومات".
وترتبط الكثير من الوثائق المسرّبة بالحرب في أوكرانيا، ويقيّم بعضها أوضاع النزاع في نهاية فبراير/شباط ومطلع مارس/آذار الماضيين، بما في ذلك حجم الخسائر الروسية والأوكرانية، بينما يتطرّق بعضها الآخر إلى الوضع على جبهات محدّدة، مثل باخموت.
أظهرت أوراق البنتاغون كذب الحكومة بشأن حرب فيتنام
وتتحدّث الوثائق عن دفاعات كييف الجوية وعن المساعدات الدولية للقوات الأوكرانية. ويبدو أن قسماً من الوثائق يشير إلى أن الولايات المتحدة تتجسّس على بعض حلفائها. وفتحت وزارة العدل الأميركية تحقيقاً جنائياً بالتسريب، بينما تُقيّم وزارة الدفاع العواقب المحتملة له. وقال البنتاغون إن مسؤولين أميركيين تواصلوا مع حلفاء واشنطن بشأن هذا الأمر، كما تمّ إطلاع اللجان البرلمانية ذات الصلة. ويمكن أن يُعرّض التسريب مصادر استخبارية أميركية للخطر، فضلاً عن تزويده روسيا بمعلومات قيّمة عن أوضاع القوات الأوكرانية. ويمكن أن تشكّل الوثائق حرجاً لواشنطن مع حلفائها.
وبحسب وثائق جديدة سُرّبت واطلعت عليها وكالة "أسوشييتد برس"، فإن العملاء الأميركيين يبدو أنهم التقطوا مسؤولين في الاستخبارات الروسية وهم يتفاخرون بأنهم تمكنوا من إقناع الإمارات "للعمل معاً ضد وكالات الاستخبارات الأميركية والبريطانية". وتقول إن "الإمارات ترى على ما يبدو الانخراط مع الاستخبارات الروسية كفرصة لتمتين العلاقات المتنامية بين أبوظبي وموسكو، وتنويع الشراكات الاستخبارية وسط قلق من فكّ الولايات المتحدة التزامها بالمنطقة".
وتحمل الوثيقة المتعلقة بذلك وسم "سرّي للغاية"، لكن الحكومة الإماراتية نفت الإثنين أي اتهام لها بأنها عمّقت العلاقات مع الاستخبارات الروسية، علماً أن لا دليل حول وجود أي اتفاق من هذا النوع بين الاستخبارات الروسية والإماراتية، وليس معروفاً ما إذا كان ما اعترضته الاستخبارات الأميركية من حديث لمسؤولين من نظيرتها الروسية، هو محاولة تمويه روسية.
عصر التسريبات من أوراق البنتاغون إلى سنودن
ويعجّ عصر التسريبات، بمعلومات حسّاسة، أضرّت بشكل من الأشكال بالأمن القومي الأميركي، وفتحت كل مرّة باباً للاطلاع على كنز من الأسرار الدبلوماسية، فضحها مبلغون سرّيون (whistleblowers)، كُشفوا بمعظمهم لاحقاً. ففي عام 1971، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" ما عرف بـ"أوراق البنتاغون"، حين قام الباحث دانيال إلزبرغ، بتسريب وثائق للصحيفة، شرحت بالتفصيل كيف كذّب وزير الدفاع الأسبق روبرت ماكنمارا (1961 – 1968) على الرأي العام الأميركي بشأن حرب فيتنام. كما تضمنت الوثائق معلومات تاريخية حول القرار الأصلي للرئيس الراحل هاري ترومان بدعم الحكّام الفرنسيين في فيتنام وآراء للمجتمع الأميركي الاستخباري يقول إنه لم تكن هناك خطة سوفييتية للسيطرة على فيتنام. وفي ذلك العام، قضت المحكمة الأميركية العليا بأنه لا يحق لإدارة الرئيس ريتشارد نيكسون منع الصحف من نشر الوثائق المسربة.
من جهتها، أدخلت فضيحة "ووترغيت" مصطلحات جديدة إلى ظاهرة التسريبات، حين أدّت عملية سرقة فاشلة في مقر الحزب الديمقراطي في مبنى "ووترغيت" في واشنطن، عنوانها تجسس الرئيس ريتشارد نيكسون على منافسيه، إلى فضيحة كشفتها صحيفة "واشنطن بوست"، والصحافيان بوب وودوارد وكارل برنشتاين. وبعد سنوات طويلة، كشف العميل السابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي"، مارك ويليام فلت، أنه كان مصدر المعلومات الأساسي للصحافيين.
وفي عام 2002، عقدت اجتماعات لقادة عسكريين ودبلوماسيين ورجال استخبارات في لندن وضع أحد الحاضرين خلالها ما سمّي بـ"مذكرة داوننغ ستريت" التي بقيت سرية لفترة طويلة. وفي الاجتماع قدّر رئيس الاستخبارات البريطاني حينها السير ريتشارد ديرلوف أن الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش أراد التخلص من الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين بالقوة العسكرية بذريعة علاقته بالإرهاب وأسلحة الدمار الشامل.
وفي 2004، سرّبت صور تعذيب السجناء العراقيين على يد القوات الأميركية بعد غزو العراق، في سجن أبو غريب. وفي عام 2006، أسّس الأسترالي جوليان أسانج، موقع "ويكيليكس"، الذي يعدّ "مكتبة واسعة" من الوثائق، تدفق نشرها خصوصاً في عام 2010، وقال أسانج إنه استمد رغبته في أن يكون "مسّرباً" من تسريب أوراق البنتاغون وعمل إلزبرغ في 1971، كما أنه سعى إلى جعل التسريب متدفقاً على الإنترنت (streamline).
وتمكن "ويكيليس" من تقديم نبذة وفكرة قوية عن عمل الدبلوماسية الأميركية، وبعد 3 سنوات، وسّع إدوارد سنودن، المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركي، فجوة التسريبات، ففجّر فضيحة برنامج التجسس الأميركي، ومنحته روسيا جنسيتها.
عمل أسانج على تسهيل تدفق التسريبات على الإنترنت
لكن التسريبات الجديدة التي بدأت بالانتشار على منصة "ديسكورد" للدردشة (خصوصاً لهواة ألعاب الفيديو)، مختلفة من حيث الشكل والمضمون، خصوصاً أنها المرة الأولى في "عصر التسريبات" التي تسلط فيها الضوء على عملية لا تزال جارية، وهي الحرب الروسية على أوكرانيا، كما أن وثائق حسّاسة مثل الخرائط أو الاتصالات الأميركية – الكورية الجنوبية، لا يتعدى عمرها 40 يوماً بالحد الأقصى، كما أنها تؤكد كيف أن الولايات المتحدة منغمسة في يوميات الحرب بين روسيا وأوكرانيا، على اعتبار أن الوثائق تثبت أنها تؤمن الداتا اللازمة الكاملة لكييف، وتشرف مباشرة على خطوط إمداد أوكرانيا بالسلاح والعتاد، وهي تسريبات وصفها مسؤول استخباري غربي رفيع لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، بأنها "كابوس كبير".
وفي إشارة إلى مدى سرّية هذه المعلومات، فإن بعض التحذيرات المصنفة حسّاسة، يقتصر تشاركها على التحالف الاستخباري المعروف بـ"العيون الخمس"، في إشارة إلى التحالف الاستخباري بين كندا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا. وأكدت كندا أول من أمس أنها ستواصل العمل مع شركائها في "العيون الخمس"، فيما قالت كوريا الجنوبية أمس الثلاثاء، بعدما كشفت الوثائق عن ضغوط أميركية عليها لإمداد كييف بالسلاح، وربما تجسس أميركي على سيول، إن هناك "جزءاً مهماً" من الوثائق المسرّبة والتي تتحدث عن قلق سيول من إمداد الأوكرانيين بالسلاح "مزوّر"، بحسب بيان صدر عن مكتب الرئاسة إثر اتصال بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ونظيره الكوري الجنوبي لي جونغ سوب. وأكدت الرئاسية الكورية الجنوبية كذلك أنه "أمنها السيبراني ممسوك بيد من حديد".
وفي تقرير مطول لها، شرحت وكالة "أسوشييتد برس"، أمس، أن التسريبات التي هزّت واشنطن، بدأت في منصة للدردشة، شهيرة بغرف الألعاب، وهي منصة "ديسكورد"، حيث تمّ إنشاء محادثة لمناقشة مجموعة من المسائل تحولت لمناقشة الحرب الروسية على أوكرانيا. وبحسب مشارك في الدردشة، قام أحد الأشخاص بمشاركة وثائق زعم أنها سرّية، بداية عبر طباعة مضمونها، ثم قبل أشهر قليلة، مشاركتهم كصور عن الوثائق.
ولم تلفت التسريبات أي جهة خارج غرفة دردشة "ديسكورد"، حتى أيام قليلة ماضية، عندما بدأ تداولها على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، وكشفتها "نيويورك تايمز" أولاً. وأكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي الإثنين، أن لا علم لدى واشنطن إذا ما كان سيتم نشر المزيد من الوثائق التي يزيد عددها حتى الآن عن المائة.
وكسابقاته من التسريبات، يشير الخرق إلى الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة وحكومات أخرى حول العالم في تأمين وحماية معلوماتها السرّية، إذ لطالما حذّر الكونغرس الأميركي في مراجعات له، وكذلك خبراء، من نقاط الضعف لدى وكالات مكافحة التجسس الأميركية، أو تحديات مراقبة حوالي 3 ملايين شخص (موظف) يملكون تصريحات أمنية (أي يحق لهم الاطلاع على معلومات حسّاسة)، أو مراقبة الوكالات التي تنتج هذه المعلومات.
وأعرب كيلين دواير، وهو مدعٍ عام سابق متخصص في الأمن السيبراني عمل في وزارة العدل الأميركية، للوكالة، عن اعتقاده بأنه وكالات الاستخبارات الأميركية كيّفت نفسها مع التحديات، وشهدت تحسناً في تجنب كل أنواع التسريب، لكن يبدو مما حصل أنها لم تبلِ بلاء حسنا".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)