انعكاسات التحولات السورية على مشروع روسيا في ليبيا

16 ديسمبر 2024
جندي روسي في دوما، 22 أكتوبر 2022 (لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- التوسع الروسي في ليبيا: بعد سقوط نظام الأسد، تسعى روسيا لتعزيز وجودها العسكري في ليبيا بدعم خليفة حفتر، مستخدمة عناصر "فاغنر" للسيطرة على مواقع استراتيجية مثل قاعدة الجفرة.

- الغموض في العلاقات الروسية مع حفتر: رغم زيارات المسؤولين الروس إلى بنغازي، تظل طبيعة العلاقة غامضة، مع تقارير عن سعي روسيا لبناء "الفيلق الأفريقي" كوريث لـ"فاغنر"، دون إعلان حفتر عن علاقته بالنظام السوري.

- التحديات والضغوط الدولية: تواجه روسيا ضغوطًا دولية متزايدة من الولايات المتحدة وأوروبا للحد من نفوذها في ليبيا، بينما يحاول حفتر موازنة وجوده العسكري بفتح قنوات اتصال مع تركيا.

يدفع التغيير الحاصل في سورية مع سقوط نظام بشار الأسد الذي منح روسيا قواعد عسكرية في بلاده شكّلت نقاط اتصال ونقل رئيسية للعتاد والجنود الروس في مواقعهم في ليبيا، إلى طرح تساؤلات في ليبيا حول مستقبل المشروع الروسي، الرامي إلى التوسع في العمق الأفريقي عبر الأراضي التي يسيطر عليها اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر.

المشروع الروسي في ليبيا

وعلى الرغم من ارتباط موسكو باتصالات مع حفتر منذ عام 2017، إلا أن بدايات الوجود العسكري الروسي في ليبيا، جاءت إبان دعم موسكو لعدوان حفتر على العاصمة طرابلس بعناصر من شركة مرتزقة "فاغنر"، الذين كانوا برفقة مليشيات اللواء الليبي المتقاعد المنسحبة من جنوب طرابلس منتصف عام 2020 إثر انكسار حملته، ما سمح لهذه العناصر بالتوزع في مواقع حفتر العسكرية، مثل قاعدة الجفرة وسط جنوب البلاد، وقاعدة القرضابية في سرت وسط شمال البلاد، قبل أن تحصل على مواقع عسكرية استراتيجية مهمة في الجنوب كقاعدة براك الشاطئ والكفرة الحدودية مع السودان.

وتزامن انتشار "فاغنر" في ليبيا مع قلق غربي حيال التغوّل الروسي في هذا البلد، والذي عكسته زيارات وتصريحات مسؤولين أوروبيين وأميركيين لحفتر بين عامي 2020 و2023، وتحذيره من مغبة تعزيز تحالفه مع موسكو. لكن الأخيرة استمرت في نقل أطنان من العتاد والجنود إلى ليبيا، خصوصاً عبر قواعدها في سورية والتي كان الروس أيضاً بنوا جسراً جوياً فيها لنقل المئات من المرتزقة السوريين إلى ليبيا. وبالتزامن مع المقتل الغامض لقائد "فاغنر" يفغيني بريغوجين في أغسطس/آب 2023 (بموسكو)، زار نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف بنغازي والتقى حفتر (في نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، وهي الزيارة التي كانت بمثابة بداية لمرحلة جديدة في المشروع الروسي العسكري في ليبيا.

موسكو وحفتر حافظا على سياسة الغموض حول علاقتهما، كما لم يعلن حفتر عن علاقته مع النظام السوري المنهار

وتكررت زيارات المسؤول الروسي إلى بنغازي بعدها، وسط تقارير دولية كانت تتحدث عن عزم روسيا بناء مشروع "الفيلق الأفريقي" في ليبيا بإشراف يفكيروف، ليكون وريثاً لـ"فاغنر" التي مهدت الطريق لموسكو لتعزيز وجودها في ليبيا، وإلى جانب العديد من الأنظمة الانقلابية في دول أفريقية، مثل النيجر وأفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو. كما تُتهم روسيا بلعب دور في الحرب السودانية بين الجيش وقوات الدعم السريع، بدعمها قائد قوات الدعم محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي كانت مليشياته تعسكر في مناطق جنوب ليبيا في تحالف مع حفتر.

وعلى الرغم من تكرر زيارات يفكيروف المعلنة إلى بنغازي، فإن موسكو وحفتر حافظا على سياسة الغموض حول علاقتهما، كما لم يعلن حفتر عن علاقته مع النظام السوري المنهار، على الرغم من استمرار الجسور الجوية المفتوحة التي كانت تسيّرها خطوط "أجنحة الشام" لنقل مرتزقة سوريين. لكن شبكة الوجود العسكري في ليبيا باتت واضحة في الفترة الأخيرة، وفقاً لما أكده الخبير الأمني والعسكري الليبي عادل عبد الكافي، في حديث لـ"العربي الجديد"، فبعد أن اكتمل وجود الروس في قاعدة حميميم باللاذقية وميناء طرطوس، خلال الأيام الماضية (تجميع القوات الروسية في سورية بعد سقوط النظام)، زارت قطع روسية بحرية ميناء طبرق في شرق ليبيا بشكل فجائي.

في منتصف يوليو/تموز الماضي، أعلنت قيادة مليشيات حفتر عن إجرائها مراسم استقبال رسمي لفرقاطتين عسكريتين في ميناء طبرق من دون أن تعلن عن سبب رسوهما في الميناء ومهامهما، في الوقت الذي صرّح فيه مسؤولون إيطاليون عن مخاوفهم من مغبة عزم موسكو بناء قاعدة بحرية في طبرق قبالة الشواطئ الأوروبية.

وشرح عبد الكافي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أهمية قاعدة طبرق العسكرية بالنسبة للروس، في سهولة استقبالها الغواصات وسفن النقل العسكرية عبر ميناء طرطوس والمرور بها برّاً وجواً عبر قاعدة الخروبة، في شرق البلاد، في اتجاهين: الأول إلى قاعدة القرضابية في سرت، والثاني باتجاه الجفرة، مشيراً إلى أن الاتجاهين مرتبطان باستراتيجيات عسكرية مهمة.

وأوضح عبد الكافي أن قاعدة القرضابية في سرت تقع في الجهة المقابلة للسواحل الجنوبية الأوروبية، أما الجفرة فتقع في وسط الجنوب، وهي من أهم القواعد العسكرية الليبية وأكبرها، ولذا فالوجود الروسي يتركز فيها، كونها تشرف على فضاءات واسعة وتتحكم في شبكة تنقلات كبيرة. وأشار إلى أنه عبر هذه القاعدة، يمكن الوصول إلى قاعدتي براك الشاطئ في سبها والكفرة المحاذية للسودان، وكذلك يمكن الوصول إلى الحدود الجنوبية الليبية الرابطة مع النيجر وتشاد. ووفقاً لمعلومات عبد الكافي، فطائرات الشحن الروسية بدأت منذ الأيام الأولى لتداعي نظام الأسد في سورية في تسيير رحلات جوية إلى قاعدة الخروبة، القريبة من طبرق، ما يشير إلى احتمالات تفكيرها في تعويض خسارتها لمواقعها العسكرية في سورية عبر مواقعها في ليبيا، محذراً من أن ذلك سيزيد من حجم الوجود الروسي في عدده وعتاده في ليبيا خلال الفترات المقبلة.

رمضان النفاتي: حفتر يدرك أنه بمرور الوقت سيسقط إذا رهن وجوده بوجود روسيا، ولهذا نراه ينفتح على تركيا

ورأى عبد الكافي أن روسيا تتخذ من قواعدها في ليبيا مواقع لتدريب عناصر الأنظمة الموالية لها في أفريقيا منذ فترة، إلا أنه أوضح أن الجديد هو أن موسكو ستستفيد من انهيار نظام الأسد في سورية، بضمّ عدد من ضباطه والمسلحين الموالين له إلى "الفيلق الأفريقي". وإذ أقرّ عبد الكافي بأن سقوط نظام الأسد أحدث هزّة في سياسات موسكو التوسعية في أفريقيا عبر ليبيا، إلا أنه اعتبر أن المشروع الروسي تمكّن من قطع خطوات مهمة بترسيخ وجوده إلى جانب المجالس العسكرية في العديد من الدول الأفريقية ودفعها نحو إلغاء اتفاقاتها العسكرية مع فرنسا، وهذا يعني استعداد روسيا لأن تكون البديل عن فرنسا، ما يجعلها في حاجة للمزيد من الأسلحة والجنود والتدريبات لتنظيم وتقوية فيلقها الأفريقي. ورجّح أن تكون ليبيا خياراً أساسياً لروسيا لتعويض وجودها العسكري في سورية في حال ذهاب النظام السياسي الجديد في سورية إلى إلغاء الاتفاقات الروسية العسكرية مع نظام الأسد.

ضغط أميركي على حفتر

من جهته، رأى أستاذ العلاقات الدولية الليبي رمضان النفاتي أن عدم وضوح الوضع في سورية حتى الآن يؤثر على قدرة التكهن بشأن سيناريوهات تفكير روسيا حول مستقبل مواقعها العسكرية، ومنها سيناريو نقلها إلى ليبيا، موضحاً أن عمليات نقل العتاد والجنود الروس من سورية إلى ليبيا ليس جديداً، وهو يحدث منذ أشهر. وأوضح النفاتي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن حساسية الأوضاع في فلسطين ولبنان وارتباطها بالوضع في سورية ستؤخر وصول تأثيرات تغير الأوضاع إلى ليبيا، فليس من السهل، بحسب رأيه، عزل موسكو التي بنت لها موضع قدم قوية في سورية منذ سنوات، لافتاً إلى أن السياسة الروسية في ليبيا "معقدة، فهي تتحالف مع حفتر بشكل غير معلن عسكرياً، ولها اتصالات دبلوماسية وسياسية معلنة مع الحكومة في طرابلس، وأخرى غير معلنة مع أنصار النظام السابق، خصوصاً سيف الإسلام القذافي، وكل هذا يجعلها غير قادرة على التحرك بسرعة للتفكير في تعويض ثقلها العسكري في سورية بليبيا".

لكن النفاتي لفت إلى وجود معطيات جديدة في المشهد الليبي يمكن أن تكون على صلة بتغيرات وشيكة في البلاد، ومنها الزيارات الأميركية الكثيفة من قبل المبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند وعسكريين أميركيين لحفتر وأولاده في بنغازي ومناطق الجنوب أخيراً، ونشاط عواصم أوروبية في احتضان اجتماع عالي المستوى في لندن الأسبوع قبل الماضي لدعم خطة أممية لتغيير سياسي في ليبيا، "وقد يكون كل ذلك برأيه مرتبطاً بمشروع غربي لزيادة حجم الضغوط على موسكو في ليبيا، خصوصاً إذا لاحظنا أن يفكيروف أجرى زيارة مفاجئة لبنغازي والتقى حفتر بعد يومين من لقاء الأخير بعسكريين أميركيين من مستوى عال"، وفق قوله.

ووفق النفاتي، فإن هذه المعطيات يمكن من خلالها قراءة تغير مقبل في الملف الليبي يتعلق بروسيا، فالأحداث في سورية يمكن أن يوظفها خصوم موسكو الأوروبيون والأميركيون في الملف الليبي، من خلال دعم الجهود الأممية المتحركة أخيراً في اتجاه تغيير حكّام ليبيا السياسيين بحكومة جديدة لتلغي أي اتفاقيات أمنية وعسكرية من الممكن أن يكون مجلس النواب أو حكومته وقّعاها مع روسيا لصالح حفتر، كما هو المتوقع من النظام السياسي الجديد في سورية حيال الاتفاقيات التي وقّعها الأسد مع الروس.

لكن النفاتي اعتبر أن أي تحرك في ليبيا ضد الوجود الروسي "لا يمكن أن يتجاوز تضييق الخيارات والضغط الغربي على موسكو، فمثلاً لن يفكر الغرب في قيادة عمليات قتالية ضد القواعد الروسية في ليبيا حتى بالوكالة عبر المليشيات المناوئة لحفتر"، مضيفاً أن "موسكو لن تسمح بخسارة موقعها في ليبيا بسهولة بعد سورية، والخطورة في وضع حفتر الذي فرض نفسه كرقم مؤثر بسيطرته على الشرق بمحاذاة مصر والجنوب بمحاذاة الجزائر والحدود المفتوحة على دول الحزام الأفريقي، فإزاحة روسيا تعني إزاحة حفتر وتعني خلق فراغ كبير في المنطقة لا يخدم أمن مصر ولا الدول الأخرى المجاورة".

وبحسب النفاتي، فإن هذه الهواجس والمخاوف المرتبطة بسيطرة حفتر هي التي حدت بالأميركيين والأوروبيين للتعامل معه والاتصال به، ويدرك حفتر نفسه أنها تشكل خطراً عليه. وقال النفاتي إن حفتر "يدرك أنه بمرور الوقت سيسقط إذا رهن وجوده بوجود روسيا، ولهذا نراه في الآونة الأخيرة انفتح على تركيا لموازنة الوجود الروسي في مناطق سيطرته، ولا شك في أن اتجاهه هذا نحو تركيا جاء بعد تحسّن علاقات الأخيرة مع القاهرة التي لا ترغب في إزاحة حفتر لأهميته بالنسبة لعمقها الأمني في ليبيا".

واعتبر النفاتي أن كل السيناريوهات مفتوحة أمام مستقبل الوجود الروسي في ليبيا، خصوصاً أنه لا يرتبط بالجانب العسكري فحسب، بل بالجانب الاقتصادي حيث تقع القواعد الروسية بقرب مجالات مواقع الطاقة والنفط ومناجم الذهب في الجنوب لتستفيد منها في تقليل حجم الإنفاق على مشروعها، وهو أحد مواطن القلق التي دفعت بالمسؤولين الأميركيين للاتصال بحفتر للاقتراب أكثر من مشاريع الإنماء والبناء في الجنوب الليبي.

ومن بين السيناريوهات، بحسب النفاتي، تعثّر المشروع الروسي في ليبيا وعبرها إلى أفريقيا في إطار اضطرار روسيا لإعادة تقييم استراتيجياتها العسكرية والاقتصادية، ما يعني تقليل انخراطها في ليبيا وأقله تقليص دعمها لحفتر. وأضاف أن من السيناريوهات الأخرى، إعادة بناء روسيا لتحالفاتها، ما قد يُحدث تغييرات كبيرة في علاقاتها مع الأطراف الليبية الأخرى، خصوصاً إذا نجحت العواصم الأوروبية وواشنطن في إحداث تغيير سياسي خلال خطة البعثة الأممية الرامية إلى إطلاق حوار سياسي جديد لتغيير الطبقة السياسية الحالية.

المساهمون