بعد عشر سنوات على الثورة التونسية، ونجاح تونس في تكريس ديمقراطيتها واختيار مؤسسات عبر الانتخابات، على الرغم من بقاء الكثير من المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية بلا حلول، اختار رئيس الجمهورية قيس سعيّد إعادة البلاد سنوات إلى الوراء، بعدما قاد انقلاباً مكتمل الأركان بإقالة الحكومة وتعليق عمل البرلمان وتولي السلطة التنفيذيّة والقضائية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس وزراء يُعيّنه سعيّد. وحاول سعيّد دعم قراراته الانقلابية بالاستناد إلى الدستور وتحديداً المادة 80 منه، بذريعة أنها تجيز له اتخاذ "تدابير استثنائية"، مقرراً من جديد تفسير الدستور وفق رؤيته التي لم يتفق معها أي خبير دستوري، ومتجاوزاً حقيقة دوره في تعطيل الحياة السياسية، خصوصاً بعد عرقلة عمل الحكومة برفض سعيّد تعديلات وزارية أجراها هشام المشيشي، بالتوازي مع عملية ممنهجة لتعطيل البرلمان خصوصاً عبر الحزب "الدستوري الحر" ورئيسته عبير موسي. وخلال كل هذه المراحل، كان سعيّد يتمسك بخطاب مهاجمة الأحزاب والحكومة، محاولاً إبعاد أي مسؤولية له عن تدهور الأوضاع الاقتصادية، ومروجاً أنباء نفاها القضاء حول تعرّضه لأكثر من محاولة اغتيال، مع سعيه لتوريط الجيش بالسياسة.
وإزاء الانقلاب المكتمل لسعيّد، باتت القوى الحية في تونس أمام تحدي الدفاع عن المسار الديمقراطي ومنع إسقاط المؤسسات، وهو التزام يتخطى الانتماءات الحزبية نحو الحفاظ على الإنجاز الذي حققته الثورة، وهو ما بدا أن معظم الأحزاب تعيه، بإدانتها انقلاب سعيّد، فيما بدا واضحاً أن الاتحاد العام التونسي للشغل لم يغطِ تحركات سعيّد، على الرغم من عدم وصفها بالانقلاب. وأكد الاتحاد، والذي يعول على دور رئيسي له لتجاوز الأزمة التي افتعلها سعيّد، حرصه على ضرورة التمسك بالشرعية الدستورية في أي إجراء يُتخذ في هذه المرحلة التي تمر بها البلاد لتأمين احترام الدستور واستمرار المسار الديمقراطي وإعادة الاستقرار إلى البلاد. وطالب الاتحاد في بيان، بـ"وجوب مرافقة التدابير الاستثنائية التي اتّخذها الرئيس قيس سعيّد بجملة من الضمانات الدستورية"، رافضاً لجوء أي طرف إلى العنف وسياسة التشفي وتصفية الحسابات.
وبدأ الانقلاب المفاجئ مساء الأحد عند العاشرة بتوقيت تونس؛ فبعد ساعات من احتجاجات لعشرات من أعداء الحكومة وحركة النهضة في أنحاء مختلفة من البلاد، تخللتها مهاجمة مقرات لحركة "النهضة"، أعلن سعيّد تجميد اختصاصات عمل البرلمان لثلاثين يوماً، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه، على أن يتولى هو بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة يعيّن رئيسها، كما قرر "تجميد كل اختصاصات مجلس النواب"، معتبراً أن "الدستور لا يسمح بحله، ولكن لا يقف عائقاً أمام تجميده"، معلناً أيضاً رفع الحصانة عن أعضاء المجلس النيابي، و"من تعلقت به قضية سأتولى رئاسة النيابة العمومية حتى تتحرك في إطار القانون". وادعى سعيّد، خلال اجتماع طارئ مع قيادات عسكرية وأمنية، أن قراراته تأتي عملاً بحكم الدستور والفصل 80 منه، ولإنقاذ الدولة التونسية، و"بالتشاور مع رئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي"، مشدداً على أن هذا "ليس تعليقاً للدستور، وليس خروجاً عن الشرعية الدستورية، نحن نعمل في إطار القانون"، منبهاً "الذين يحاولون التسلل أو اللجوء للسلاح، فلن نسكت أبدا عن أي شخص يتطاول على الدولة ولا على رموزها، ومن يطلق رصاصة واحدة ستجابهها قواتنا المسلحة العسكرية والأمنية بوابل من الرصاص".
سعيّد: من يطلق رصاصة واحدة ستجابهها قواتنا المسلحة العسكرية والأمنية بوابل من الرصاص
وأتبع سعيّد ذلك بإصداره أمراً رئاسياً، عصر اليوم الإثنين، قرّر من خلاله إعفاء رئيس الحكومة والمكلف بإدارة شؤون وزارة الداخلية هشام المشيشي، ووزير الدفاع إبراهيم البرتاجي، والوزيرة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالوظيفة العمومية ووزيرة العدل بالنيابة حسناء بن سليمان. كما قرّر أن يتولى الكتّاب العامون أو المكلفون بالشؤون الإدارية والمالية في رئاسة الحكومة والوزارات المذكورة تصريف أمورها الإدارية والمالية إلى حين تسمية رئيس حكومة جديد وأعضاء جدد فيها.
هذا الانقلاب الذي فاجأ مختلف الأطراف في تونس، وحاول سعيّد نفسه نفيه، خصوصاً بعدما حدد تعليق عمل البرلمان بـ30 يوماً، ندّدت به حركة "النهضة"، في بيان نُشر مساء الأحد، واصفة إياه بـ"الانقلاب على الثورة والدستور"، كما اعتبر القيادي في الحركة نور الدين البحيري أن "هناك أحزابا قريبة من سعيّد تسانده في مثل هذه التجاوزات"، فيما سارع رئيس البرلمان، رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، الذي نفى صحة ما قاله سعيد عن استشارته، لبدء التصدي للانقلاب عبر التوجّه مع نواب من "النهضة" ومن "قلب تونس" إلى مبنى البرلمان فجر الإثنين، لكن القوى الأمنية الموجودة أمام البرلمان منعتهم من الدخول.
وصباح اليوم الإثنين أيضاً، تجددت محاولة الغنوشي ونواب آخرين الدخول إلى البرلمان، لكنهم منعوا من الدخول إلى المبنى من جانب الجيش الموجود أمام المبنى. كما انتشر الجيش التونسي في مقر الحكومة في القصبة بالعاصمة ومنع الموظفين من دخول المبنى. وشهد صباح اليوم تجمّع عدد من الرافضين للانقلاب من مناصري "النهضة" و"قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة"، وفي المقابل تجمّع مناصرون لسعيّد أمام مبنى البرلمان في ضاحية باردو، وشهد هذا التجمع مناوشات وتراشقاً بالحجارة، وسط مخاوف من إمكانية تدهور الأوضاع الأمنية، وانزلاق البلاد إلى دائرة العنف.
وفي بيان صدر عن الغنوشي، أفاد عن اجتماع لمكتب مجلس النواب حضورياً في المجلس وعن بُعد برئاسة الغنوشي، وأجمع خلاله الحاضرون على رفض وإدانة ما أعلنه سعيّد، معتبرين جميع قراراته باطلة وتنطوي على خرق جسيم للدستور وانحراف شديد في الاجتهاد في تفعيل الفصل 80 منه، ومحاولة تحايل وتمويه مفضوحة بادعاء حصوله على موافقة رئيس مجلس النواب على هذه التدابير. وحمّل مكتب المجلس في البيان، سعيّد جميع التبعات الأخلاقية والقانونية والجزائية لخطوته. ودعا المكتب الجيش التونسي والقوات الأمنية للانحياز إلى صفوف الشعب التونسي والوفاء للقسم بحماية الدستور وعلوية القانون وصون هيبة الدولة ومؤسساتها الدستورية والإدارية وتأمين الحق في العمل والسير العادي لمؤسسات الدولة وعدم الخضوع لأي أوامر خارج روح الدستور وسلطة القانون. كما دعا النواب إلى الدفاع عن قيم الجمهورية وعلوية الدستور وخيار الشعب الحر وفق انتخابات حرة ونزيهة والتمسك بتونس الجديدة الحرة والديمقراطية والرفض المطلق لكل نزوع نحو الحكم الفردي الشمولي والمستبد، وحثهم على ممارسة اختصاصاتهم الدستورية ومواصلة عملهم اليومي إلى جانب شعبهم في مواجهة أزمة كورونا وتداعياتها الخطيرة اقتصاديا واجتماعيا. ودعا الشعب التونسي في الداخل والخارج إلى الهدوء والطمأنينة والاستعداد للدفاع عن استقلال تونس وحرية شعبها وتجربتها الديمقراطية ومؤسساتها الدستورية المنتخبة واليقظة التامة حتى إزالة الانقلاب البغيض وآثاره المدمرة على أمن واستقرار تونس.
الغنوشي: لا نتوقع من الجيش أن يتورط في قبول التسييس والجيش وطني ودافع عن الثورة
كما قال الغنوشي، في مداخلة هاتفية مع فضائية "تي آر تي" التركية، إن مجلس النواب في حالة انعقاد "ومتمسكون بالشرعية ورفض الانقلاب". وأضاف "عقدنا اجتماعا لمكتب مجلس النواب، وكانت جلسة شرعية وكاملة النصاب، واتخذنا قراراً بإدانة الانقلاب والتمسك بالشرعية". وتابع أن "فكرة الانقلاب استغلت عدم وجود محكمة دستورية للفصل في القرارات، والرئيس سعيّد ليس له اختصاص في تفسير الدستور في غياب المحكمة الدستورية". وعن دور المؤسسة العسكرية، قال الغنوشي: "لا نتوقع من الجيش أن يتورط في قبول التسييس... الجيش وطني ودافع عن الثورة، ونأمل عدم نجاح إقحامه في الأزمة". كما نفى الغنوشي استشارته في تلك القرارات المفاجئة للرئيس التونسي.
بالتوازي مع ذلك، كانت معظم الأحزاب التونسية تدين انقلاب رئيس الجمهورية. ودعا حزب "قلب تونس" الجيش والأمن لحماية الدولة وقيم الجمهورية، معتبراً أن ما حدث خرق جسيم للدستور، داعياً البرلمان للانعقاد فوراً. وقال في بيان، إن "القرارات المتخذة من قبل الرئيس سعيّد هي خرق جسيم للدستور ولأحكام الفصل 80 منه، وأسس الدولة المدنية وتجميعا لكل السلطات في يد رئيس الجمهورية والرجوع بالجمهورية التونسية للحكم الفردي".
من جهته، قال رئيس كتلة "ائتلاف الكرامة" سيف الدين مخلوف، لـ"الأناضول"، إن "قرارات سعيّد باطلة، والدستور التونسي لا ينص على تجميد نشاط البرلمان أو تغيير رئيس الحكومة". كما أعرب الحزب الجمهوري عن رفضه لقرارات سعيّد، واعتبرها خروجاً عن النص الدستوري وانقلاباً صريحاً عليه وإعلاناً عن العودة إلى الحكم الفردي المطلق وحنثاً باليمين التي أداها رئيس الجمهورية بالسهر على احترام الدستور. ودعا رئيس الجمهورية إلى التراجع الفوري عن تلك القرارات.
وصف حزب العمال اليساري المعارض ما أقدم عليه سعيّد من إجراءات بأنها معادية للديمقراطية
كما أن أحزاباً معارضة دانت خطوة سعيّد. ووصف حزب العمال اليساري المعارض ما أقدم عليه سعيّد من إجراءات بأنها معادية للديمقراطية، معتبراً أن التغيير في تونس لا يكون بمساندة الانقلاب. كما أعلن حزب "التيار الديمقراطي" المعارض، في بيان إثر اجتماع طارئ لمكتبه السياسي وكتلته النيابية، أنه يختلف مع تأويل سعيّد للفصل 80 من الدستور، ويرفض ما ترتب عليه من قرارات وإجراءات خارج الدستور. وأكد أنه "لا يرى حلا إلا في إطار الدستور". لكن الحزب "حمّل مسؤولية الاحتقان الشعبي المشروع والأزمة الاجتماعية والاقتصادية والصحية وانسداد الأفق السياسي للائتلاف الحاكم بقيادة حركة النهضة وحكومة هشام المشيشي".
في المقابل، خرجت "حركة الشعب" عن هذا الإجماع، إذ اعتبرت أن سعيّد، بالقرارات التي اتخذها، "لم يخرج" عن الدستور. وأضافت في بيان، أن رئيس الجمهورية "تصرف وفق ما تمليه عليه مسؤوليته في إطار القانون والدستور حفظاً لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها وضمان السير العادي لدواليب الدولة". وبقي مصير رئيس الوزراء المعزول هشام المشيشي قيد تساؤلات، ففي حين كان التواصل غير ممكن معه مساء الأحد وفجر الإثنين بعد إعلان سعيّد عن إقالته، وبروز أحاديث عن أنه محتجز، نقلت وكالة "رويترز"، اليوم، عن مصدر مُقرب من المشيشي ومصدرين أمنيين، أنه في منزله وليس رهن الاعتقال.