منذ بداية العدوان الإسرائيلي البرّي على قطاع غزة في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عمل الاحتلال الإسرائيلي على فصل القطاع إلى قسمين، من خلال احتلال محور الشهداء، أو ما يعرف إسرائيلياً باسم محور نتساريم وسط غزة، بهدف عزل محافظتي غزة والشمال عن محافظتي الوسطى والجنوبية.
وخلال أكثر من عام، عمد الاحتلال إلى توسعة هذا المحور بناء على تطورات العملية البرّية. فمن بضع مئات الأمتار، وصلت التوسعة أخيراً إلى ثمانية كيلومترات طولاً في عرض سبعة كيلومترات، توجد فيها قواعد عسكرية لجيش الاحتلال وخطوط إمداد عسكري، ما أسهم في فصل القطاع عن بعضه بعضاً.
وعبر عمليات التوسعة التي كانت تقوم بها قوات الاحتلال من بداية محور نتساريم شرقاً وحتى شاطئ البحر غرباً، فخخت القوات الإسرائيلية مئات المنازل وفجرتها ومحتها عن الخريطة بشكل كامل، مثلما حصل في مناطق مدينة الزهراء والمغراقة وشمالي النصيرات وسط القطاع والأطراف الجنوبية من حيي الزيتون وتل الهوى جنوبي مدينة غزة.
محور نتساريم ورقة سياسية
أسامة خالد: هناك حاجة لتجهيز هندسي يضمن عدم حصول اقتراب تكتيكي ناجح من قبل قوات المقاومة
أنشأ الاحتلال في محور نتساريم منظومات اتصالات وتجسس ونقاط رقابة موسعة، إضافة إلى نقاط عسكرية شاسعة، في وقتٍ يعمل فيه على توسعة هذا المحور بين فترة وأخرى بناء على الظروف العملياتية وحالة الميدان، والاشتباك مع الأذرع العسكرية للمقاومة التي تواصل عملها دون خطوط إمداد، ووسط نقص شديد في الإمكانات بفعل حالة الاستنزاف الميداني التي تشهدها الحرب جراء استمرارها لفترة طويلة.
وعملت عدة فرق وكتائب إسرائيلية تابعة لجيش الاحتلال في هذا المحور، كان أبرزها الفرقة 162 التي نشطت في مختلف مناطق القطاع، إضافة إلى ألوية عسكرية وهندسية متفرقة كانت تتولى مهمة البقاء في هذا المحور الذي يضمن عدم عودة النازحين الفلسطينيين إلى مناطق مدينة غزة وشمالي القطاع، والذين نزحوا في الأيام الأولى للحرب.
كان الهدف المعلن في بداية الحرب، هو تهجير الفلسطينيين نحو مناطق جنوب وادي غزة، إلا أن الاحتلال استخدم هذا المحور لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية تتمثل في الضغط على الفصائل الفلسطينية في عملية التفاوض، وهو أمر يظهر في عدم طرح عودة النازحين ضمن مقترحات التهدئة الجزئية التي يطمح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تحقيقها من دون الوصول إلى صفقة تنهي الحرب في غزة.
تضم مناطق وسط وجنوب قطاع غزة قرابة مليوني نسمة، ما يعني أن إجمالي من يوجدون في الشمال ومدينة غزة لا يزيد تعدادهم عن 500 ألف نسمة في أفضل حال، في ظلّ تكدس مئات الآلاف من النازحين في مساحة جغرافية لا تتعدى 35 كيلومتراً جنوباً ووسطاً.
وعلى الرغم من عمليات القصف اليومي التي تعلن عنها الأذرع العسكرية للمقاومة الفلسطينية للمحور وبعض العمليات الميدانية، إلا أن قوات الاحتلال واصلت توسعة المحور وتعزيزه بالتجهيزات اللوجستية والعسكرية وتأمين الجنود في داخله، للإبقاء عليه ورقةً سياسيةً وعسكريةً تخدم الأهداف الإسرائيلية مستقبلاً.
وسط كل ذلك، يخشى الفلسطينيون من أن تكون عمليات التوسعة الحاصلة تستهدف ضمان البقاء الإسرائيلي في القطاع لأطول فترة زمنية، والتحول نحو احتلال أجزاء من القطاع، بحيث تتحول هذه النقاط لمحاور انطلاق للجيش لتنفيذ عمليات عسكرية ضد مجموعات الفلسطينيين.
ويستند السلوك الإسرائيلي إلى سياسة فرض الأمر الواقع واستغلالها لاحقاً في عمليات التفاوض التي لم تسفر عن شيء على مدار عام كامل، في ظل المراوغة الإسرائيلية في كل جولة من جولات التفاوض مع المقاومة الفلسطينية والوسطاء.
نيات الجيش ونيات المستوى السياسي
يرى الخبير العسكري والأمني، أسامة خالد، أن عمليات توسعة محور نتساريم على الصعيد العسكري تنبع من نيات الجيش الإسرائيلي في مزيد من التأمين لطرفيه من الحافة الشمالية والجنوبية من خطر النيران القوسية، خصوصاً قذائف الهاون والمقذوفات الصاروخية القصيرة.
ويقول خالد لـ"العربي الجديد"، إن هناك حاجة لتجهيز هندسي يضمن عدم حصول اقتراب تكتيكي ناجح من قبل قوات المقاومة نحو نقاط تمركز القوات الجاثمة ومقرات وغرف القيادة والسيطرة داخل المحور، بالإضافة إلى رؤية جيش الاحتلال ضرورة قضم مزيد من الأراضي الغزية لتضييق الخناق على السكان الفلسطينيين، بما يساهم في هندسة جغرافية جديدة للقطاع.
ووفق خالد، هذه التوسعة ستجعل نيران جيش الاحتلال تصل بشكل أكبر وأعمق لمناطق وجنوب وغرب مدينة غزة ووسطها وكذلك مناطق النصيرات ودير البلح أيضاً، مع مزيد من الاحتكاك بين المقاومة وجيش الاحتلال، والذي سيحاول التوغل والاجتياح الدائم لمناطق أعمق على طرفي المحور، وبالتالي بقاء الميدان في حالة من التطورات العسكرية.
ويبيّن الخبير العسكري والأمني كذلك، أن التوسعة هي سلسلة من إجراءات مستمرة من جيش الاحتلال، تساهم في تحقيق أهداف كبرى أعلنها، وهي خلق واقع أمني وسياسي جديد وسيطرة أمنية وعسكرية دائمة تضمن حرية العمل العسكري في مناطق القطاع المختلفة. وبالتالي فإن فرضية بقاء قوات الاحتلال في هذا المحور، برأيه، عالية، خصوصاً مع حجم التجهيزات الهندسية واللوجستية القائمة على أرضه، والسلوك الميداني فيه وحوله، وربطه مع التصريحات السياسية لقادة الاحتلال وتعثر مسار المفاوضات.
أحمد الطناني: موقف جيش الاحتلال هو الانسحاب من المحور باعتبار الوجود فيه لا يحقق أي هدف عملياتي حقيقي
من جهته، يعتقد مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات الإستراتيجية، أحمد الطناني، أن الاحتلال يهدف بدرجة أساسية إلى تحقيق أوسع عمق تأميني لمحور نتساريم، كونه يقع في منطقة بينية بين أكثر من كتيبة من كتائب المقاومة، خصوصاً كتيبتي تل الهوى والزيتون (شمالاً)، وكتيبتي النصيرات والبريج (جنوباً)، ما يعني أن التمركز العسكري في محور نتساريم سيكون عرضة لهجمات مقاتلي المقاومة من مختلف الاتجاهات، كما ستكون عرضة لنيران المدفعية وقذائف الهاون من المناطق المذكورة.
ويقول الطناني لـ"العربي الجديد"، إن ذلك يعزز حاجة الاحتلال إلى توسيع العمق وتأمين مساحات فارغة ومكشوفة تُصعّب أي عملية تسلل أو تقدّم للمقاتلين لمهاجمة القوات المتمركزة داخل محور نتساريم، كما أن توسع هذا العمق يزيد من المديات اللازمة لنجاح عملية إطلاق قذائف الهاون ووصولها إلى مواقع تمركز جيش الاحتلال في المحور، كما يساهم العمق التأميني في تعطيل قدرة المقاومة الاستخبارية على رصد حركة وتجهيزات جيش الاحتلال داخله.
ويضيف أن هناك غرضاً عملياتياً مرتبطاً بالإبقاء على حالة الحركة المستمرة للقوات في محيط المحور، ما يُصعّب من قدرة المقاومة على تجهيز خطط هجومية، نظراً لعدم وجود ثبات للقوات تسمح للمقاومة بتحليل وتفكيك المشهد الميداني، والبحث عن ثغرات يمكن للمقاومة استثمارها في تنفيذ هجمات ناجحة.
ويلفت الطناني إلى أن "موقف جيش الاحتلال الدافع للانسحاب من المحور، هو اعتبار الوجود فيه لا يحقق أي هدف عملياتي حقيقي، بعد أن أفشل أهالي شمال قطاع غزة الهدف الأول للعمليات العسكرية، وهو إفراغ شمال قطاع غزة من سكانه، وبالتالي وجود الحاجز أو الوجود الاحتلالي في المحور الذي كان يفترض أن يُشكل الحاجز الفاصل ما بين الكتلة السكانية والمناطق العازلة التي كان يُفترض أن تكون عرضة لمخططات احتلالية بعيدة المدى".
وينبّه الطناني كذلك إلى أن جيش الاحتلال "يعمل وفقاً لمحددات المستوى السياسي الذي يرفض الانسحاب من محور نتساريم وبالتالي مطلوب من الجيش الالتزام بالمحددات التي يرسمها المستوى السياسي، ويتخذ كل الإجراءات اللازمة لإكمال العمل وتهيئة الواقع العملياتي بما يتناسب مع استمرار بقاء الجيش، وهو جهد تحول من الدور الهجومي المفترض للمحور الذي يحتوي على رؤوس الجسور لتحرك القوات بعمليات "جزّ العشب" في ملاحقة خلايا المقاومة، إلى جهد دفاعي مستمر لتأمين القوات، ويقع في صلبه استمرار عمليات التوسعة".