ما كان أحد يتوقع أن يصل الرئيس بايدن بمجافاته للحقائق إلى حد تجاهل وتبرير الفشل الذريع الواضح وضوح الشمس، في عملية الانسحاب من أفغانستان. إصراره على تهوين سقوط من هذا العيار ونكران حصوله أعاد التذكير بالرئيس ترامب وأسلوبه الشهير في هذا المجال. كما طرح أسئلة حول ما إذا كان في الأمر غشاوة أم مجرد مكابرة تغطي رفضه الاعتراف بالخطأ. وهذا ما يرعب الديمقراطيين. وقد أثار كلامه خشية واسعة في صفوفهم، من أن تتحول هذه الممارسة إلى نمط في مقاربته للأمور والتعامل معها على هذا الأساس، خصوصاً وأنه سبق وانفرد في هذا الملف بمواقف متباينة، خلافاً لتوصيات فريقه، أثارت تخوفات من تداعياتها.
في مقابلة مع شبكة "أي بي سي نيوز"، قال بايدن إن عملية الترحيل "لم يكن هناك طريقة لتنفيذها بصورة أفضل"، مضيفاً أنه لا يعتقد بأن هناك "صيغة بدون فوضى"! ولذلك هو لا يرى أنها كانت فاشلة.
الردود جاءت بكثير من الذهول. وضاعف من الصدمة أنه كان من غير المتوقع أن تصدر عنه مثل هذه المغالطة الفادحة. وزاد الطين بلّة أن تصريحه انطوى على تضاربات مع الجهات المعنية الأخرى في الإدارة، مما ضاعف البلبلة حول حقيقة ما جرى، كما حول أسباب الخلل وما إذا كان قد جرى استدراك الخطأ أم لا، وخاصة فيما يتعلق بالتحذيرات الاستخباراتية، وبسير عملية الترحيل الجارية، والوضع في مطار كابول، ومداها الزمني، فضلاً عن مصير الأفغان الذين تعاونوا مع القوات الأميركية والموعودين بالمغادرة. حتى اللحظة لا يتوفر خطاب واحد بشأن كل هذه الجوانب.
الرئيس نفى إبلاغه بمعلومات حول هشاشة الوضع، وكذلك رئيس هيئة الأركان الجنرال مارك ميلي، فيما تؤكد تسريبات الـ"سي آي إيه" العكس. قال إن فريق الأمن القومي كان على "انقسام" حول موضوع سحب كل القوات، لكن المعروف والمتداول أن البنتاغون أوصى بتأجيل الانسحاب. تعهّد الرئيس بألاّ يترك أي أميركي في أفغانستان بعد الانسحاب، في حين تكتفي الخارجية بالقول "إننا سنعمل جهدنا". وكذلك يقول البنتاغون. لكنه لم يتعهد بتمديد فترة الترحيل إلى ما بعد 31 أغسطس/آب الجاري. ترك الاحتمال معلقاً ومثله فعل البنتاغون، مع أن عدد المسافرين أمس بقي في حدود الألفين، فيما كان البنتاغون قد وعد بنقل بين خمسة إلى تسعة آلاف يومياً. ربما يكون التأخير ناتجا في جانب منه عن التعثر في ضمان موافقة بعض الدول على استقبال الوافدين الأفغان. وتبلغ البلبلة ذروتها بخصوص عدد الأميركيين غير المعروف حالياً في أفغانستان (يُقال 15 الفاً)، وأماكن تواجدهم، وكيفية تأمين حضورهم إلى المطار"، حيث على كل منهم المجيء إلى المطار لتسفيره، حسب ما نسب إلى مصدر عسكري يشارك في العملية.
حالة الحيص بيص هذه، فتح بابها بايدن بنفسه. ثم دافع عن تفاقمها. تفرّد في قرار علّه يتميز به كإنجاز فارق. استند في ذلك إلى قوة رصيده وشعبوية الانسحاب. غياب خطة التنفيذ خرّب عليه تحقيق الغاية. بل أدى إلى تدهور ولو كان نسبيا في رصيده وصورته. أكثر شيء مؤذٍ له في هذه العملية أنها وضعت علامات استفهام حول مدى صوابية تقديره في حقل السياسة الخارجية، المحسوب أنه متفوق أو على الأقل متميز فيه. هذا ما تنطق به خلاصة الردود المحلية. وثمة قراءات تقول إنها تشمل الردود الخارجية أيضاً. كان بإمكانه تصحيح بعض الخسائر أو تقليلها في مقابلته هذه. لكنه أصر على أنها "عنزة ولو طارت". فجاءه الجواب من نوع: "ما هكذا تورد الإبل"!