بدأت السلطات الجزائرية منذ يومين في نقل المواد الانتخابية إلى الولايات والبلديات، وتجهيز المدارس كمراكز انتخاب ومكاتب تصويت، قبل أقل من 48 ساعة من بدء موعد الاقتراع العام في الاستفتاء الشعبي على الدستور الجديد المقرر بعد غد الأحد.
ومع اقتراب موعد الاستفتاء، يتولى الجيش وجهاز الدرك تنفيذ إجراءات أمنية مشددة، في خضم وضع من الانقسام السياسي الحاد في المواقف بين مؤيد ورافض ومقاطع للاستفتاء، وحالة من القلق بشأن الوضع الصحي للرئيس عبد المجيد تبون الذي يخضع للعلاج في ألمانيا.
وتخوض الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في الجزائر ثاني تجربة إشراف كامل على استحقاق انتخابي منذ إنشائها قبل عام، عقب الانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019.
وفيما تراهن السلطة السياسية على كسب معركة التصويت لصالح الدستور، فإن الهيئة تراهن على تعزيز مصداقيتها كهيئة ضامنة لشفافية الصندوق والانتخابات، في ظل أزمة ثقة ومخاوف لا تنتهي من تلاعب السلطات بالاستفتاء.
وتجري الهيئة آخر الاستعدادات اللوجستية تحسباً للاستفتاء الشعبي، بعد استلامها المدارس والمؤسسات التعليمية من وزارة التربية والتعليم لتجهيزها واستخدامها كمراكز انتخاب ومكاتب تصويت في كل البلديات البالغ عددها 1541 بلدية.
واستخدمت هيئة الانتخابات طائرات الجيش لإيصال المواد الانتخابية من أوراق التصويت والحبر والملصقات وغيرها إلى المدن والولايات الداخلية البعيدة، فيما تتواصل لليوم الثاني على التوالي عمليات التصويت في ثلاث ولايات جنوبي الجزائر، تخص المكاتب المتنقلة لصالح البدو الرحل في الصحراء وقرب الحدود الجنوبية.
وأعلنت الهيئة قبولها تسجيل المواطنين الذين يرغبون في التطوع لمراقبة عمليات التصويت وفرز الأصوات، في خطوة تستهدف توفير أكبر عوامل النزاهة والشفافية الانتخابية.
وبغض النظر عن الترتيبات اللوجستية للسلطات والتحضيرات الفنية للهيئة العليا للانتخابات، فإن عاملاً جديداً طرأ دون سابق إنذار على أجواء الاستفتاء، يتمثل في مرض الرئيس عبد المجيد تبون والذي يلقي بظلاله على أجواء الاستفتاء الشعبي.
وأصدرت السلطات الجزائرية توجيهات لوسائل الإعلام المحلية والقنوات التلفزيونية العمومية والمستقلة بعدم التركيز على الوضع الصحي للرئيس عبد المجيد تبون بعد نقله للعلاج في ألمانيا، في ظروف لم تكشف بعد، والاقتصار على بيانات الرئاسة من دون تحليل أو استفاضة في الملف، وتلافي أية تعاليق بشأنه عشية الاستفتاء الشعبي.
ووجهت السلطات أيضاً وسائل الإعلام بالتركيز على الاستفتاء الشعبي، لكن حديث الرئاسة في بيانها الأخير، مساء الخميس، عن بدء تلقي الرئيس العلاج وتفاؤل الأطباء الألمان، عزز حالة من القلق في البلاد، فيما لو تطورت الحالة الصحية للرئيس إلى وضع آخر.
انقسام وقلق حول الرئيس
وفي سياق تأثير مرض الرئيس على مناخ الاستفتاء، تنقسم الآراء، إذ يعتقد المحلل السياسي محمد ضيف الله أن مرض الرئيس تبون لن يكون له أي تأثير سلبي على مناخ الاستفتاء، بفعل وجود ميكانيزمات مؤسساتية تدير الاستحقاق وتضمن سيره الطبيعي.
ويقول ضيف الله، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "بخلاف ما يروج عن وجود حالة قلق، فإن مثل هذه الظروف، التي تبدو عصيبة، هي الظروف التي تصنع أكثر هدوء، وتدفع الجزائريين إلى التمسك بالمسار الدستوري والإقبال على المشاركة في الاستفتاء، لأن الجزائريين يرفضون المغامرة".
ويخالف أستاذ علوم الإعلام في جامعة الجزائر حسين دواجي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، التحليل السابق، لافتاً إلى أن "هناك تأثيرا واضحا لمرض الرئيس على أجواء الاستفتاء، الانطلاقة الباهتة للاستفتاء عند البدو الرحل تؤكد ذلك، السلطة تعودت على مرافقة انطلاقة أي موعد انتخابي بهالة من الترويج الإعلامي، وقد أعدت لذلك مسبقاً ما يعزز هذا الجهد كتدشين الرئيس لقاعة الصلاة بمسجد الجزائر الأعظم.
ولفت إلى أن تدشين افتتاح قاعة المسجد إشارات ورسائل توظفها السلطات لصالحها في الاستفتاء على مشروع تعديل الدستور. وقال دواجي إن احتفال التدشين كان باهتا وسيطر خبر غياب الرئيس على المشهد الإعلامي، متوقعاً أن يرافق هذا الجو الاستفتاء إلى آخر مراحله في حال لم يعد الرئيس في الوقت المناسب للإدلاء بصوته.
ويشير في الوقت نفسه إلى أن"هناك قراءة مفادها أن الوضع الصحي للرئيس أكسبه الكثير من التعاطف من طرف الجزائريين، خاصة بين المترددين في الحسم في مسألة الاستفتاء، إضافة إلى الوضع الدولي المتدهور والمخاطر التي يمكن أن تتهدد البلد، وهو الوتر الذي تعودت السلطة العزف عليه في كل موعد انتخابي، بما يمكن أن يصب في صالح الاستفتاء، لكني لا أميل إلى هذه القراءة".
وما يعزز من خصوصية الاستفتاء على الدستور الجزائري، حدة الانقسام في المواقف بشأنه بين أربع كتل سياسية وشعبية؛ ففي كتلة مؤيدى الدستور، تخندقت أحزاب الموالاة المعروفة بدعمها كل خيارات السلطة، والتي تضم جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وتجمع أمل الجزائر وحركة الإصلاح الوطني.
كما انضمت إلى كتلة مؤيدي الدستور حركة البناء الوطني وشبكة من المنظمات وجمعيات المجتمع المدني والنقابات العمالية والمهنية، بما فيها نقابة القضاة، ومجموعها ترى في الدستور الجديد تطورا سياسيا كبيرا في مجال حسم قضية الثوابت وتنظيم مؤسسات الدولة وتوسيع هامش الحريات وتعزيز مكانة المجتمع المدني.
ودعت أحزاب معارضة، أغلبها من التيارين الإسلامي والمحافظ أبرزها حركة مجتمع السلم كبرى الأحزاب الإسلامية في البلد وجبهة العدالة والتنمية وحركة النهضة، وقوى فتية قيد التأسيس كحركة عزم والتحالف من أجل التغيير وحزب السيادة الشعبية وحركة المجتمع الديمقراطي، إلى التصويت ضد الدستور ووصفته بأنه أسوأ من الدستور الحالي من حيث تضخيم صلاحيات الرئيس وغموض طبيعة النظام السياسي ووضع الحريات من دون ضمانات.
ونأت كتلة ثالثة من القوى السياسية، خاصة كتلة البديل الديمقراطي التي تضم حزب العمال وجبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية والحركة الديمقراطية الاجتماعية (الشيوعية)، عن أي نقاش حول الدستور والاستفتاء الشعبي، انسجاماً مع موقفها الرافض للمسار الذي بدأ بالانتخابات الرئاسية. والتحقت أيضاً مكونات من الحراك الشعبي، كالجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، بالمقاطعين ودعت الجزائريين إلى مقاطعة الاستفتاء.
ويعتبر الكاتب المتخصص في الشؤون السياسية أحسن خلاص هذا الانقسام في المواقف سابقة سياسية من حيث حجم انقسام المواقف، مقارنة مع سوابق الاستفتاءات الدستورية التي شهدتها البلاد أو التعديلات التي طُرحت في العقدين الماضيين خلال فترة حكم بوتفليقة.
ويقول خلاص، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "يمكن ملاحظة لأول مرة غياب الإجماع الذي ظلت تتباهى به السلطة عند كل موعد استفتاء من الدستور الحالي، وهو دستور كان يفترض أن يتماهى مع الحراك ويتناغم معه ومع مطالبه، لكن السلطة قدمت الدستور وتتجه إلى استفتاء الأحد المقبل، ليقدم على أنه إعلان رسمي عن نهاية الحراك".
وأضاف أن"هناك رفضا واسعا لهذا الدستور من قبل كل الأطياف والاتجاهات السياسية، بما فيها قوى كانت تدعم المسار الدستوري والانتخابي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهذه مغامرة سياسية من قبل السلطة، لكن المغامرة الكبرى لا تكمن في نتائج الاستفتاء من حيث الأرقام، بل في العواقب السياسية لتلك النتائج، التي ستفتح مزيداً من الشروخ وتقضي على ما تبقى من إمكانية بلورة مشروع مجتمع متناقش ومتوافق بين جميع الأطياف ومتفق عليه".
وتابع خلاص "السلطة أرادت إرضاء الجميع فخسرت الجميع، وأرادت أن تفكر مكان المجتمع لكن المجتمع يرفض اتهامه بالعجز".
من جهة أخرى، بدأت اليوم الجمعة المرحلة الثانية من تصويت الناخبين من البدو الرحل في الاستفتاء الشعبي حول مشروع الدستور، قبل 48 ساعة من موعد الاقتراع العام المقرر الأحد المقبل، بعد تصويت الناخبين من البدو الرحل أمس الخميس في ثلاث ولايات جنوبي البلاد.
وبدأ الناخبون من البدو الرحل في ولاية النعامة جنوبي غربي الجزائر التصويت في المكاتب المتنقلة، إذ توجهت صباح اليوم قوافل تضم 15 مكتب تصويت متنقل إلى أماكن وجود سكان المناطق النائية وتجمعات البدو الرحل، لتمكينهم من أداء واجبهم الانتخابي.
ووفرت الهيئة الوطنية المستقلة للإنتخابات كافة الوسائل والتجهيزات، وسيارات رباعية الدفع تلائم طبيعة المنطقة، وكذا كافة التجهيزات الإدارية والطبية ووسائل اتصال، لإنجاح عملية التصويت، فيما ترافق وحدات من الدرك والجيش المكاتب المتنقلة لتأمينها، وضمان ظروف أفضل للعملية.
وتقول السلطات الجزائرية إن هناك أكثر من 600 ألف من البدو الرحل ما زالوا يعيشون على نمط الترحال في الصحراء والتنقل في المناطق الداخلية حسب المواسم، طلبا للكلأ والماء للماشية، إذ يمارس هؤلاء مهنة الرعي وينتشرون في أكثر من ولاية، خاصة في المناطق الداخلية والحدودية مع تونس وليبيا وموريتانيا والنيجر والمغرب ومالي.
ودأبت الجزائر على إشراك السكان البدو الرحل في مختلف الاستحقاقات الانتخابية منذ عقود، إذ تخصص لهم مكاتب انتخابية متنقلة، تنتقل إلى أمكان وجودهم لتمكينهم من الانتخاب، بعد تسجيلهم في وقت سابق لذلك في القوائم الانتخابية.
وفي استحقاقات انتخابية سابقة، كانت المعارضة تشكو من عدم شفافية التصويت بالنسبة للمكاتب المتنقلة، بسبب غياب الظروف الممكنة التي تتيح لها مراقبة هذه الانتخابات في المناطق النائية، وطالبت في أكثر من مرة بتقليص عدد هذه المكاتب إلى أقصى حد ممكن.
وفي سياق تدابير أوسع لضمان شفافية الاستفتاء الشعبي، أصدرت السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات قراراً يسمح لكل المواطنين المسجلين في القوائم الانتخابية بتسجيل أنفسهم في المندوبية التي يقطنون بها، من أجل حضور عمليتي التصويت والفرز بصفتهم ملاحظين، كما يمكن أن يستعين بهم رؤساء مكاتب التصويت من أجل فرز النتائج وتدوين الملاحظات، رداً على احتجاج الأحزاب السياسية المعارضة الرافضة للدستور بسبب رفض الهيئة اعتماد مراقبين لصالح هذه الأحزاب في مكاتب التصويت.
وأصدر المجلس الدستوري مذكرة جديدة حول إجراءات تخص كيفيات الطعن في صحة عمليات التصويت في الاستفتاء على مشروع تعديل الدستور المقرر يوم الأحد المقبل، إذ يحق لكل ناخب الطعن في صحة عمليات التصويت عن طريق تقديم احتجاج مدون في محضر فرز الأصوات الموجود على مستوى مكتب التصويت، على أن "يخطر المجلس الدستوري بالاحتجاج فورا".