توقف المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، القاضي فادي صوّان، عن النظر في القضية، وأرجأ جلسات الاستماع إلى المدعى عليهم الأربعة، وشخصيات أمنية كبرى، بفعل الطلب الذي تقدّم به الوزيران السابقان، النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر، أمس الأربعاء، بنقل الدعوى إلى قاضٍ آخر بسبب الارتياب المشروع وخرق الدستور.
وأوضح المحامي علي عباس، لـ"العربي الجديد"، أنّ القاضي صوان يتوقف عن النظر في الملف لحين بتّ محكمة التمييز الجزائية بطلب نقل الدعوى الذي يُحوَّل إليها حتى تتخذ القرار المناسب بشأنه، سواء بردّه أو قبوله، علماً أن الاحتمال الثاني شبه مستحيل قانوناً.
وشرح عباس أن قضية انفجار مرفأ بيروت تختلف عن باقي الدعاوى، والملفات، من حيث الإجراءات، ولا سيما على صعيد طلب نقل الدعوى للارتياب المشروع، إذ في الحالة الراهنة ليس هناك سوى محقق عدلي واحد يعيَّن فقط بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء، بمعنى أنه لا يمكن المحكمة تحويل الملف عند قاضٍ آخر في المركز نفسه، كما يحصل عادةً.
إضافة إلى ذلك، لا صلاحية لمحكمة التمييز بإلزام السلطة إصدار مرسوم تعيين محقق عدلي آخر، نظراً لمبدأ فصل السلطات. ولفت إلى أن القاضي صوان يتوقف نهائياً عن النظر في القضية، في حالتين فقط، إما إقالته بمرسوم وزاري، أو تقديم استقالته والتنحّي.
وفقاً لذلك، يتوقع عباس ردّ محكمة التمييز الطلب، واستئناف القاضي صوان تحقيقاته، الأمر الذي يؤكد أن الهدف الأساسي من خطوة تقديم طلب نقل الدعوى هو المماطلة وكسب الوقت، ربما بانتظار شيءٍ ما، خصوصاً أنّ القانون لا يحدّد مهلة زمنية للبت بالموضوع من جانب المحكمة، وهو يمنح فقط القاضي وباقي الأطراف حق إعطاء ملاحظاتهم خلال 3 أيام، وهنا يكمن الخوف من تأخر محكمة التمييز عن إصدار قرارها، الأمر الذي يضع القضاة هنا أمام تهمة الاستنكاف عن إحقاق الحق. أما تحديد القاضي صوان 10 أيام للتوقف عن النظر في القضية، فهو قد وضعها من باب المهلة المنطقية للبت بالطلب، يقول عباس.
من ناحية ثانية، قررت هيئة مكتب مجلس النواب عدم إبلاغ النائبين خليل وزعيتر الدعوة للمثول أمام القاضي صوان بصفة مدعى عليهما، نسبةً إلى الحصانة النيابية وصلاحية البرلمان البت بالموضوع، وطلبت تزويدها بالمستندات لاتخاذ القرار المناسب بشأن الملاحقة.
واعتبر المدير التنفيذي لـ"المفكرة القانونية" المحامي نزار صاغية، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن "هذه الخطوة ما هي إلّا دليل على إصرار الطبقة السياسية على أنها غير خاضعة للمحاسبة، وهي صاحبة القرار منفردةً، وفوق القانون والقضاء، وهذه مسؤولية كبيرة يتحمّلها مجلس النواب بتعطيل العدالة، فعن أي حصانة يتحدّثون، وبأي صلاحيات يتمسّكون في بلدٍ ارتكبت فيه مجزرة بتاريخ الرابع من أغسطس/ آب الماضي؟"، لافتاً إلى أنّ "البرلمان لو كان فعلاً حريصاً على الدستور والقانون، لكان مارس دوره الاتهامي منذ البداية، ولم ينتظر ادعاء القاضي صوان".
وشبّه صاغية التمسك بذريعة المساءلة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والرؤساء، بـ"المحاسبة أمام جهاز متخيَّل، لم يشهد أي محاكمة منذ ثلاثين عاماً، أو ينعقد طوال هذه الفترة"، وما هو إلّا عفو عام ذاتي وشامل، وإفلات واضح وصريح من العقاب.
صاغية: إصرار الطبقة السياسية بأنها غير خاضعة للمحاسبة، وهي صاحبة القرار منفردةً، وفوق القانون والقضاء، وهذه مسؤولية كبيرة يتحمّلها مجلس النواب بتعطيل العدالة
في المقابل، أشار صاغية إلى أن للقاضي صوان، في حال استمرار المدعى عليهم برفض المثول أمامهم، أن يتخذ القرار باعتبارهم متوارين عن الأنظار.
وأشار إلى أن "السلطة السياسية تلجأ إلى خطاب الاستضعاف والشهامة والمؤامرة والاستهداف السياسي وشدّ العصب الطائفي، بهدف الإفلات من العقاب، ونسف مشروعية الادعاء، وتتذرع بالحصانات للكيل بمكيالين".
وأوضح أنّ "الخطاب المستخدم لا يسري فقط على انفجار مرفأ بيروت، وإنّما هو تكرارٌ مبتذلٌ كلما ظهرت إرادة بالمحاسبة، في مختلف القضايا الجنائية، المالية وملفات الفساد... ورأينا ذلك أخيراً في المسرحية الهزلية حول التدقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان المركزي وذرائع السرية المصرفية، التي أدت عملياً إلى إجهاضها".
وشدد صاغية على أنّ "انتفاضة 17 أكتوبر ساهمت في تغيير طبيعة المعركة السياسية، ونقلت المواجهة لتحصرها بين الزعيم الذي يتمسَّك بالحصانة ليفلت من العقاب، والمواطن الذي عليه أن ينتزع هذه الحصانة لمحاسبة المسؤولين وتحقيق العدالة، والذي بدأ تدريجياً يستعيد قدرته على الدفاع عن نفسه، وكشف نيات المنظومة، التي سرعان ما سيسقط عنها القناع".
وبتاريخ 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ادعى صوان على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، ووزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس (هو أيضاً محامٍ)، ووزير المال السابق النائب علي حسن خليل، ووزير الأشغال السابق النائب غازي زعيتر، بجرم الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وإيذاء مئات، وبدأت معركة تمرّد السلطة السياسية على القضاء، ورفض المثول أمام المحقق العدلي، باستثناء فنيانوس الذي حضر إلى قصر العدل قبل أن يعلمَ بتأجيل الجلسة.
وتوالت ردود الفعل المتضامنة مع المدعى عليهم، ولا سيما إلى جانب دياب، التي وضعت قرار صوان في خانة المؤامرة والاستهداف السياسي لموقع الرئاسة الثالثة والاستنسابية، فكانت البداية مع رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري، فدار الفتوى، لتكرّ سبحة المواقف، أبرزها أيضاً من جانب "حزب الله" و"حركة أمل" (يتزعمها رئيس البرلمان نبيه بري) التي ينتمي إليها حسن خليل وغازي زعيتر.
كذلك فتحت مواجهة بين فريقي رئيس الجمهورية و"تيار المستقبل" (يتزعمه الحريري)، من بوابة المحاسبة من أعلى الهرم، أي رئاسة الجمهورية، الأمر الذي عزّز الخلاف بين الرئيسين، وزاد من العراقيل التي تحول دون تشكيل الحكومة.
من جهته، أعلن النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات تنحيه عن متابعة النظر في ملف انفجار مرفأ بيروت بصفته مدعياً عدلياً في القضية، بسبب وجود صلة قرابة بينه وبين الوزير السابق النائب غازي زعيتر.
وعقب اجتماع هيئة مجلس النواب أمس، قال نائب رئيس البرلمان إيلي فرزلي: "تبلغنا رسالة القاضي صوان، ولكننا اتخذنا القرار بعدم نشرها احتراماً للقضاء، وحتى يقوم بواجبه على أكمل وجهٍ"، لافتاً إلى أن الهيئة أرسلت رسالة إلى المحقق العدلي بانتظار أن يأتينا جواب يتضمّن الملف الذي يحمل الشبهات "الجدية" حتى يبنى على الشيء مقتضاه.
وتابع: "في الأساس، الملف المرسل مرفقاً بمستندات لم نجد أي شبهة جدية أو غير جدية، لا بل عدم ذكر حتى الاسم لكل من رؤساء الحكومات المشار إليهم، فكيف نتعاطى مع المجهول؟ وكل من الوزراء التالية أسماؤهم غازي العريضي ومحمد الصفدي وعلي حسن خليل شكيب وقرطباوي وسليم جريصاتي وألبرت سرحان، لم يؤتَ على ذكر أسمائهم لا من قريب ولا من بعيد، وبالتأكيد لم نجد أي شبهة مذكورة في المستندات المرفقة لباقي الوزراء المشار إليهم".
وأضاف فرزلي: "في القانون، المجلس النيابي ملزم بتطبيق قانون الأصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء، والمنصوص عنه في المادة الـ 80 من الدستور الصادر في 18 أغسطس 1990، تحت رقم 13 على 1990، وفيه المادة 19 حول كيفية الاتهام، كل من المادة الـ 20 حول تبليغ الاتهام، والمادة الـ 21 سرية المحاكمة، والمادة الـ 22 دعوة المجلس النيابي لجلسة اتهام، والمادة الـ 23 إنشاء لجنة التحقيق على إثر الاتهام، المستند إلى التحقيق القضائي المرسل".