نشأ لغاية الآن جيلٌ فلسطينيٌ كاملٌ على واقع الانقسام، وفي ظلّ تداعياته وتحوّله الى حالة مستدامة تعيد إنتاج ذاتها، على شاكلة كيانين سياسيين منفصلين، لكلّ منهما برنامجه ومشروعه واستراتيجياته المتنافرة مع الآخر، ولا يوجد أفق على المستوى القيادي للتكامل من باب تعدد الاستراتيجيات، كما كان سائداً في مراحل الثورة الفلسطينية، التي عبّر عنها ياسر عرفات في خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في العام 1975.
تنطلق إسرائيل من أنّ مشكلتها مع حركة حماس هي أمنيّة وليست سياسية في حين أنّ مشكلتها مع السلطة الفلسطينية هي سياسية في جوهرها
يتميّز هذا الجيل بالوعي القائم على الفصل والعداء الداخلي، وارتفاع خطير لمنسوب الصراع الفلسطيني الداخلي، على حساب الصراع مع الاحتلال والمشروع الصهيوني في فلسطين.
كُتِبَ الكثير عن مسببات الانقسام، وتحليل حيثياته، وعن المبادرات الرسمية والشعبية، التي تكاد لا تحصى، لكن سار منحاه (الانقسام) العام نحو تعمّقه، وتحوّله إلى حالة مستدامة، إذ لا توجد قوى مجتمعية وسياسية قادرة فعلاً على حلّه، أو تجاوزه، من خلال إيجاد مخارج من الحالة المستعصية، والانطلاق الفلسطيني الجماعي.
حين نتحدث عن الانقسام، نلحظ دفع دولة الاحتلال نحوه، وسعيها لتعميقه، من خلال أدوات السيطرة والضبط الهائلة التي تملكها، التي تتزايد عدداً وأثراً بسبب الانقسام، وهي تحاصر طرفيه. بل هو، تعميق الانقسام، معطى ثابت يندرج ضمن استراتيجياتها في استدامة استنزاف الشعب الفلسطيني وتفريغه من نقاط قوته، وخلق حالة من التبعية الشعبية والرسمية والكيانيّة لها.
بناء عليه، من الأهمية بمكان أن ندرك دور الاحتلال، ونتعقّب أذرعه، ونسعى لإحباط مساعيه التدميرية للشعب الفلسطيني، وفي الوقت ذاته، يجب التأكيد على أنّ مسؤولية الانقسام هي فلسطينية بامتياز، وأن ندرك أيضا أنه كلما تراجع المشروع الوطني الفلسطيني زادت السيطرة الإسرائيلية وتعمّق الانقسام.
تنطلق إسرائيل من أنّ مشكلتها مع حركة حماس، المسيطرة في قطاع غزة، هي أمنيّة وليست سياسية، في حين أنّ مشكلتها مع السلطة الفلسطينية، بقيادة حركة فتح، هي سياسية في جوهرها، وتسعى إلى إبقاء هذا التمايز قائماً، بل ويتعمّق، لأنّ فيه شرذمة بنيوية للشعب الفلسطيني، سعياً من إسرائيل لإنهاء مقاومته للاحتلال الشاملة ومتعددة الاستراتيجيات. وعملياً، باتت الحالة الفلسطينية الراهنة تشكّل الوضع الأمثل للاحتلال، وبات النضال الفلسطيني جبهات متنافرة في ما بينها، وأحياناً أكثر من اتفاقها ضد الاحتلال.
فيما تتبنى المؤسسة الصهيونية الحاكمة سياسة اللا-حلّ السياسي وإدارة الصراع، فإنها معنية من ناحية في إضعاف السلطة الفلسطينية إلى أقصى حد ممكن، دون انهيارها التام، وهو ما نجحت فيه، من خلال تعميق الاحتلال بمفهوميه الاستيطاني والسيطرة، وإطلاق العنان للميليشيات الإرهابية، لتعيث دماراً وخراباً في مناطق (ج)، وفي السعي لسدّ كل أفق سياسي، لدرجة زرع اليأس في النفس الفلسطينية، ولإفساد الحياة الفلسطينية بكامل منظومتها، عبر اعتماد الاحتلال دور "المنسّق"؛ وهو منسّق شؤون الاحتلال، والوصي على كل ما من شأنه تعميق التبعية الفلسطينية، المبنية على مصالح فردية.
اعتمدت إسرائيل مسألة تصاريح العمل داخل "الخط الاخضر"، باعتبارها منظومة هندسة سياسية، وهندسة ولاءات، مبنية على المصلحة، في ظل انعدام بنية اقتصاد وطني مستقل، وبوجود اقتصاد استعماري واحد مهيمن على كل فلسطين، لذا غدت تصاريح العمل أولوية عليا للناس، الأمر الذي ساهم في إفساد الضفة الغربية، وهي ذاتها المنظومة التي باتت تعتمدها في غزة اليوم، التي وجدت تعبيرا عنها في آلاف تصاريح العمل في المرافق الإسرائيلية.
الهدف كما حددته المؤسسة الأمنية الإسرائيلية هو خلق مصالح متباينة بين تبعيّة السكان للاقتصاد الإسرائيلي، وبين ولائهم الفصائلي، أو لإحدى السلطتين الحاكمتين في كل من رام الله وغزة، ناهيك عن السعي إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني، وتحويله إلى حالة راسخة ترتبط أطرافه الكيانية مصلحيّاً بدولة الاحتلال.
إسرائيل تحاصر غزة، وتسيطر على مجالها البري والجوّي والبحري، وعلى مجمل حركة المواد الغذائية والمواد الخام، التي تصل إلى القطاع، كما تسيطر على مجمل الاستيراد، الذي تقوم به السلطة الفلسطينية، أو القطاع الخاص الفلسطيني، وهي تسيطر على الموارد الطبيعية بالكامل، كما تتحكم بالنظام المصرفي، وبالسياسة المالية الفلسطينية، وتراقب التحويلات المالية، سواء إلى الضفة أو إلى القطاع.
نشأ الانقسام وتعزز في ظل حالة تجزئة لا تقل صعوبة وإيلاماً على الشعب الفلسطيني، فرضها الاحتلال، وهي حالة جدار الفصل في الضفة الغربية، مرتبطاً بمنظومة الحواجز والتقطيع للمدى الجغرافي السكاني، الذي أتى رداً على الانتفاضة الثانية، ويعني تقطيع أوصال التواصل بين مناطق الضفة الغربية مع القدس ومع غزة. كما نشأ جيل فلسطيني كامل يعيش في سياقه المدمّر للحياة الفلسطينية والاقتصاد والزراعة والتواصل وللهوية الفلسطينية، التي باتت تعيد إنتاج هويات محليّة ومناطقية وجهوية، على النقيض من تجارب التحرر الوطني.
كلا الأمرين، الانقسام والجدار، باتا ينعكسان على الواقع الاعتقالي للحركة الأسيرة، التي تشكّل مرآة الحالة الفلسطينية والفصائلية، وتمثل حقل تجارب السياسات الاستخباراتية الإسرائيلية طويلة الأمد. فقد نشأت داخل هذه الحركة هويات متصارعة، أو على الأقل متنافرة بين تنظيمي فتح وحماس، وتمّ فصل الأقسام؛ بدلاً من أن تكون متعددة الفصائل وبمرجعية مشتركة، وفق هويات فصائلية متعصّبة، كما باتت مناهضتها للسجان أقلّ من السابق، وأصبح انشغالها بفلسطين أقلّ مما مضى، وتم توزيع الاقسام في السجون حسب الجغرافيا السكانية، قسم لجنين، وآخر لرام الله ونابلس والقدس والداخل ولطولكرم إلخ. هي منظومة سيطرة إضافية لأنها اخترقت التظيم الواحد، لم تنحصر حتى في البعد الفصائلي الموازي لطرفي الانقسام.
لو أمعنا النظر في مسألة التحكّم بالاستجابة لحقوق الأسرى، باعتبارها امتيازاً يمنحه السجان للأسرى، ويقوم باستخدامه أداةً لكسب الهدوء وللردع وسعياً للترويض، سنجد أن سياسة تصاريح العمل، بما لا يقل عن 170 ألف تصريح في الضفة والقطاع، باتت كما إدخال المواد الغذائية والمواد الخام، أداة ضبط وردع، وعقاب فردي وجماعي، وكثيراً ما استخدمتها إسرائيل من أجل تعميق الانقسام، من خلال التلاعب بتناقضات طرفيه.
إلا أنّ مفهوم الجدار جرى تذويته وبات جزءاً من وعي الأجيال الناشئة، التي أصبحت حدود الوطن لديها محدودة بما يتيحه الجدار من أفق محدود، بكلّ إسقاطات ذلك، ويضيق هذا الأفق مع غياب مشروع تحرر وطني، وحتى مشروع نهضوي إلى حين إعادة تبلور المشروع الوطني. بهذا المفهوم فإن دولة الاحتلال تفرض حصارها على الضفّة الغربية أيضاً.
لقد عزز الانقسام من انتشار ثقافة انعدام سيادة القانون، بحكم التناحر الفلسطيني وانعدام السيادة الحقيقية، حيث يتجلى انعدام سيادة القانون في النفوذ المتعاظم للقوى والتشكلات العشائرية والجهوية، التي ما كانت لتحظى بنفوذ في مراحل النهضة الفلسطينية، مثلاً لم يكن لها أي صوت في الانتفاضة الأولى بالذات، أو في مرحلة لجنة التوجيه الوطني.
كثير من هذه القوى كانت أقرب لروابط القرى، التي راهن عليها الاحتلال، ولا علاقة لخطابها بمناهضة الاحتلال والتحرر الوطني، بل هي منشغلة في إزاحة جدول الأعمال الفلسطيني إلى الفكر الغيبي من الصراع المجتمعي والتكفيري، وبغرض القضاء على كل مظاهر الإبداع والتنوير والنهضة الفلسطينية. مثل هذه المظاهر لا يتصدى لها أي من طرفي الصراع، بل يتم التعامل معها وظيفيّاً في مواجهة الطرف الآخر وإضعافه، وهي فسحة أخرى ينعم بها الاحتلال.
ليست المسألة في عدم التوافق السياسي أو الرؤيوي (البرامجي)، فبإمكان فصيل أو تيار أو حزب عدم التوافق في ظل نظام ديمقراطي قوي ومتماسك، وفي ظل وجود سلطات متكاملة، ونظام فصل السلطات، تحسم فيه الأمور ديمقراطياً فقط، وبما يُمليه القانون السيادي. في الحالة الفلسطينية، لا مرجعية قادرة فعلياً على الحسم، ولا سيادة ينبثق منها قانون سيادي مرجعي متوافق عليه، كما لا يوجد اتفاق جوهري حول إطار الحكم وإطار الحلّ. يشكّل هذا استمراراً لعدم التوافق على أن م. ت. ف. هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بمعنى عدم التوافق على المشروع السياسي وعلى تعريف التحرر الوطني.
كما تتعمّق هذه الأزمة في ظل غياب تكتّل لقوى فلسطينية على مستوى كامل الشعب الفلسطيني؛ أي عدم حصره في الضفة والقطاع فقط أو بالفصائل فقط؛ قادرة على كسر حالة التوازن بين القوى المنقسمة والمستعصي على الحل، كي تعرض مخرجاً تقبل به غالبية الفلسطينيين، وتفرض هذا المخرج سياسياً.
ومن شأن هذا أن يشير إلى أزمة الثقافة السياسية الفلسطينية الفصائلية، التي لم تعد قادرة على توفير مخارج؛ ليست مسألة نوايا فقط بل قدرات؛ إذ لا يوجد قطب سياسي فلسطيني ثالث يخترق الثنائية القاتلة. يقوم الاحتلال باتباع منهجية مبنية على أولوية استنزاف كل القوى المرشحة للعب هذا الدور، مثل استنزاف الجبهة الشعبية، عبر حملة مستدامة متعددة الوسائل، تستهدف كوادرها وتصفية دورها، وسعياً لاجتثاثها من الحالة الفلسطينية.
كما يعمل الاحتلال على تصفية منهجية لقوى من داخل حركة فتح، معنية بالعودة إلى مسار التحرر الوطني، كما في استهداف حياة عناصر كتائب شهداء الأقصى في معظم أنحاء الضفة الغربية، وبالذات شمالها في جنين ونابلس، إذ يسعى الاحتلال إلى تحقيق فصل تام بين المستويين السياسي والمقاوم للفصائل، وبالذات لأكبرها حركة فتح. هناك جانب إضافي في حسابات الاحتلال، يكمن في إدراكه إمكانية التوافق الميداني بين مختلف كتائب الفصائل المسلحة، بخلاف العلاقة بين قياداتها السياسية، هذا ما عبر الإعلام الإسرائيلي مراراً عن التخوف منه، ومن تشكيل "غرفة العمليات المشتركة".
بسعيها لترسيخ الانقسام، لا تواجه دولة الاحتلال الفصيلين المركزيين وحدهما، بل مجمل الحالة الفلسطينية، هذا ما تسعى إسرائيل إلى منعه من خلال معارك استنزاف متواصلة، تمكنها من تغيير جدول الأعمال الفلسطيني. كما يتحدث الاحتلال عن الحرب الهجينة المعلن منها وغير المعلن، متعددة الأذرع والسياسات، الساعية إلى "إخضاع العدو قبل بدء الحرب".
مع هذا لا يمكن اعتبار إسرائيل قادرة على فعل كل شيء، بل وفرت الحالة الفلسطينية لها فرصاً لم تكن ممكنة في ظروف مغايرة.
في حين أثبتت الحالة الفلسطينية الميدانية والشعبية قدرتها على النهوض، بالرغم من استدامة الانقسام، هذا ما عهدناه في العام 2021، خلال صمود أهالي الشيخ جراح، وهبّة الكرامة، ومعركة سيف القدس، والمساعي الفلسطينية في الساحة الدبلوماسية الدولية، التي حاولت إخضاع إسرائيل لمحكمة الجنايات الدولية، والتحقيق في جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، وهي دليل ايضاً على أن شعب فلسطين ما زال بحاجة إلى جميع مواطن قوته، وإلى التكامل بين الاستراتيجيات المختلفة. هذا ممكن حين نتجاوز حالة الانقسام، لكن وللأسف لا يبدو أننا سنتجاوزها في المدى القريب.